أمريكا وفن صناعة الأعداء

 
 
 
شبكة المنصور
محمد العماري
لا نبالغ إذا قلنا إن أمريكا, ومنذ أن تأسست على جثث وجماجم الملايين من أبناء البلد الأصلي, بحاجة ماسّة ودائمة الى أعداء لكي تواصل نزعتها العدوانية التي بنت عليها منظومة متكاملة من الأفكار والقيم والثقافات والتوجهات والأساليب السياسية والديلوماسية والعسكرية. ولكونها قوة عظمى راحت حاجتها هذه لمواجهة أي عدو, وإن كان مفترضا أو وهميا, تزداد بشكل يتناسب مع إزدياد قدراتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية والمخابراتية. وإكتسبت على مدى تاريخها الحافل بالحروب والغزوات والتدخلات العسكرية, وجميع حروبها عدوانية صرفة ضد دول وشعوب مسالمة, خبرة لا توصف في فن صناعة الأعداء. الى درجة أنها أصبحت ترى الأعداء في كل مكان حتى في ثياب أقرب أصدقائها. وكان هذا يحصل حتى قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بسنوات طويلة.


وفي رأينا المتواضع ينقسم أعداء أمريكا, رغم أنهم جميعا من صنع يديها, الى طبقات ومراتب حسب حاجتها والمرحلة التي تعيشها, مضافا الى ذلك الجو السائد عالميا. ولديها قائمة طويلة من الأعداء المفترضين أو المزعومين. فعلى سبيل المثال, مالذي تستطيع أن تفعله دولة صغيرة ذات إمكانيات إقتصادية وعسكرية محدودة مثل كوبا ضد الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت في العقود الأخيرة إمبراطورية شر وإرهاب وغزو, وتوظّف معظم ثرواتها وإمكانياتها المادية والبشرية الهائلة في خدمة ماكينتها العسكرية الجبارة؟ بالتأكيد لا شيء.


ومع ذلك ورغم إن كوبا دولة مسالمة ولم يعرف عنها أنها قامت بغزو بلد آخر أو شاركت في حرب عدوانية ضد دولة ما, ما زالت أمريكا تعتبرها في خانة الأعداء وراعية للارهاب وناصبتها العداء منذ أكثر من نصف قرن. ومن المؤكد إن عداء أمريكا للدول الأخرى ليس نابعا فقط من شهواتها التي لا نتنهي في إبتلاع ثروات وخيرات الآخرين بل من نزعتها العدوانية, التي ولدت معها وكبرت معها أيضا, في الهيمنة على الشعوب والاقوام الأخرى وإخضاعهم لارادتها والتصرّف بهم على هواها.


ومن تابع أو يتابع المسيرة الدموية الحافلة لدولة العم سام سيجد أن تاريخها, رغم محدوديته الزمنية وقصر عمرها مقارنة بدول العالم الأخرى, يخلو تماما من أية صفحة بيضاء ناصعة. ومن يفتح كتابها الضخم يرى الدماء تسيل من كل سطر فيه, حتى الحواشي والهوامش لم تسلم من نزف دماء ملايين الأبرياء, من كلّ ملّة وقوم وشعب ومكان. وخلافا للجميع فأن أمريكا, كلّما تطوّرت البشرية وتقدّم العلم وإنتشرت حقوق الانسان وقيمه النبيلة, تزداد عدوانيتها وأنانيتها وغطرستها. وتتعامل مع الجميع وكأنهم بشر من درجات واطئة جدا.


وبسبب خضوع وإستسلام ورعب معظم الأنظمة العربية والاسلامية إستطاعت أمريكا أن تحوّل أرض العرب والمسلمين الى حقل تجارب لكل ما إبدعته العقول الشيطانية لخبرائها من أسلحة متظوّرة فتاكة ومحرّمة دوليا. ولم تكتفِ باستنزاف أموال وثروات الآخرين, وتحيدا الحكام العرب, في تطوير ماكنتها العسكرية الجبارة وإدامة نمط الحياة الباذغ لقلّة من الأمريكيين, بمقارنة بالحياة البائسة المعدمة لملايين البشر, بل أنها ترغم, بعد أن تخلق أكثر من بؤرة توتر ونزاع, على من موّلها وفتح لها خزائنه وساهم في حروبها العدوانية, على شراء الأسلحة التي تنتجها مصانعها. دون أن تكون لديه حاجة فعلية لاستخدامها ضد تهديد خارجي أو لحماية نفسه من عدو داخلي خصوصا وأن أمريكا نفسها هي حامية وحارسة وراعية غالبية حكامنا العرب والمسلمين.


ومن النادر أن تنتهي حرب أشعلتها أمريكا في مكان ما دون أن تكون قد أعدّت العدة والأجواء الدولية للدخول في حرب أخرى. والتاريخ الحديث لم يسجّل لنا, حسب علمي, فترة ولو لسنة واحدة دون أن تكون لأمريكا مشاركة مباشرة أو غير مباشرة في حوب عدوانية أو تمرّد عسكري أو إضطرابات داخلية, لا علاقة لها بطبيعة الحال بمصالح الشعوب والدول التي تغرس مخالبها الحادة في أجسادها. ما يهمّ أمريكا أولا وثانيا وعاشرا هو مصلحتها الخاصة فقط. وعلى الجميع, سواءا كانوا حلفاء أو عملاء أو أعداء, ان يتقبّلوا هذه الحقيقة برحابة صدر.


كما أن رؤوساء أمريكا وعلى إختلاف إنتمائهم السياسي والحزبي والطبقي والاجتماعي يتوارثون, وباراك أوباما خير مثال, حروبهم الواحد بعد الآخر. وبما أن حروب أمريكا عدوانية وغير شرعية فهي دائما ما تؤول الى هزيمة نكراء, كما حصل في فيتنام سابقا وفي العراق حاليا, ويبدو الأمر مشابه في أفغانستان أيضا. واللافت إن أمريكا التي تصنع الأعداء, مستخدمة كل وسائل الارهاب والتهديد والابتزاز, عادة ما تنهزم وتندحر ويُمرّغ أنفها في التراب على على أيد أولئك الأعداء.


ولكن مشكلتها التي لا تجد لها حلاً أبدا هي أنها, أي أمريكا, لا تتعلّم من تجاربها المريرة مع الشعوب والدول التي تمارس عليها إرهابها العسكري والاقتصادي والسياسي, ولا تأخذ العبر من دول"عظمى" إستخدمت في الماضي ذات الوسائل الغير شرعية والغير أخلاقية في تحقيق أهدافها وفرض شروطها وهيمنتها على الآخرين.


ولا يبدو في الأفق القريب ولا البعيد أن ثمة إمكانية لأن تستعيد أمريكا رشدها وتتصرّف كدولة عظمى, كبقية الدول الأخرى, دون أن تكون لها حاجة في غرس أنيابها ومخالبها في أجساد بني البشر الذين لا يتفقون معها في كثير من الأمور ولكنهم في المقابل لا يشكّلون لها أيَّ خطر أو تهديد. وليس في مصلحتهم معاداتها لولا غريزتها العدوانية ونزعتها المتطرّفة في التعامل مع الآخرين وتعطّشها الدائم لسفك دماء الأبرياء.

 
mkhalaf@alice.it
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة  / ٠٥ ربيع الاول ١٤٣١ هـ

***

 الموافق ١٩ / شـبــاط / ٢٠١٠ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور