تخلف على الأرض ... وتمييز عنصري في الجو

 
 
 
شبكة المنصور
نزار السامرائي
كم كانت إعلانات قناة الجزيرة عن الخطوط الجوية التركية مغرية، سواء ما يتعلق بطراز الطائرات الحديثة، أم الالتزام الدقيق بالمواعيد، أم بنوعية الخدمات التي تقدمها لزبائنها في المطارات أم أثناء الطيران، نعم كانت مغرية إلى أبعد الحدود، وهذا الأمر يعكس قدرة الإعلان التجاري على التأثير على نمط الاستهلاك الفردي حتى لدى النخب.


في منتصف كانون الأول/ يناير 2009 لبيت دعوة وجهتها جمعية هايدي سانتا ماريا للثقافة والسلام والتضامن، لي وللصديقين الدكتور خالد المعيني والسيد طه العاني، للمشاركة في فعاليات سياسية للتضامن مع المقاومة العراقية والفلسطينية أقامتها في مدريد وبرشلونة، وحينما أبلغتنا الجمعية بأنها حجزت لنا تذاكر السفر على شركة الخطوط الجوية التركية، على الرغم من وجود خط مباشر للخطوط الجوية السورية يربط دمشق ومدريد، سبق لي أن جربت دقته وسلامته في رحلة عام 2008، شعرت بارتياح كبير كي أتمتع بمزايا خدمات التركية التي كانت تعرضها إعلاناتها الجميلة أو على الأقل اكتشف الهامش بين الصورة والتصور، كان خط الرحلة في الذهاب والإياب يمر عبر مدينة اسطنبول، وما عزز من ثقتي بإعلان الجزيرة، أن موظفة مكتب دمشق اتصلت بي صباح اليوم السابق للسفر، وبلغة مهذبة وأدب جم يختزن أسلوبا متحضرا كنت أتمنى أن ألمس تفاصيله في وطني، أبلغتني عن أسف الشركة التركية لأن رحلة العودة من اسطنبول فجر 19/11، ستتأخر ثلث ساعة عن موعدها المثبت في توقيتات تذكرة السفر، وعلى الرغم من أن الموظفة أيقظتني وحرمتني لذة غفوة الضحى فإنني شعرت أن الطائرة بدأت تحلق بي منذ تلك اللحظة الحضارية التي جسدت احترام الإنسان والزمن وهو ما نفتقده في وطننا، تساءلت مع نفسي هل حقا أن الاتحاد الأوربي يمتلك الحق في رفض عضوية تركيا فيه بعد أن قطعت هذه المراحل كلها في التعامل الدقيق مع الإنسان والزمن؟


أخبرت رفاقي في السفرة بمكالمة موظفة مكتب دمشق، فأجمعا على أن هذا السلوك الحضاري قد لا يتوفر حتى عند أكثر شركات الطيران العالمية تطورا ودقة واحتراما لقيمة الإنسان واحتراما للوقت، ونمنا على حلم سعيد خاصة بعد أن غادرت الطائرة التركية مطار دمشق متجهة إلى اسطنبول في موعدها تقريبا، ودارت في رأسي تساؤلات عن أسباب عدم إزاحة هذه الشركة للشركات التي سبقتها من طريقها؟


وكادت السفرة أن تتم بتوقيتات متقاربة مع الزمن المثبت، ولكن الأصباغ الخارجية التي تغطي معدنا صدأ لا بد أن ترحل مع الوقت، فقد كان ليوم العودة طعما آخر تماما.


رحلة العودة تبدأ من برشلونة إلى اسطنبول ثم دمشق، كان مقررا أن تقلع الطائرة التركية من مطار المدينة المجنونة بفريقها لكرة القدم حد الاختناق، في تمام الساعة الرابعة و40 دقيقة، بكرنا بالحضور كي نماثل الخطوط التركية في ذلك، ولكن موظفة اسبانية في مكتب الشركة هناك صدمتنا حينما قالت إن الرحلة ستتأخر ساعتين، هل غلب الطبع التطبع؟


سألنا عن السبب، أجابت الموظفة مع ابتسامة حزينة، مطار اسطنبول مغلق لتساقط الثلوج، ماذا نفعل الأمر يعود للظروف الجوية، ننتظر إشارة من إدارة الملاحة الجوية من المطار لبدء الرحلة، تداعت الأسئلة حائرة في رؤوسنا عن الطائرة التركية المغادرة من اسطنبول إلى دمشق، وذهبت أفكارنا مذاهب شتى، كنا نبحث عن طمأنينة لأنفسنا، ونقول طالما أن المطار مغلق بوجه الطائرات القادمة من أوربا، فإنه مغلق حتما بوجه الطائرات المغادرة إلى أي مطار فالثلج ينتمي إلى كتلة عدم الإنحياز.


بعد قليل أعلن مذيع المطار عن تأخر جديد بموعد إقلاع طائرتنا، وتأخر ثالث ورابع وتوقفنا عن العد، وكي تلهينا الشركة عن الزمن الممض وزعت علينا بطاقات نتناول بها قليلا من الشاي كي لا يمر بين ضلوعنا أثر ثلج اسطنبول، وأخيرا أقلعت الطائرة في التاسعة والنصف مساء بالتوقيت المحلي متأخرة عن موعدها خمس ساعات فقط، كما في رحلة الذهاب من اسطنبول إلى مدريد وزعت المضيفة على الركاب سماعات لمشاهدة ما يعرض من أفلام لمن يرغب في ذلك، ومرت الرحلة بصورة طبيعية، وحينما اقتربت الطائرة من مطار اسطنبول، كان الجو ملبدا بالغيوم، وهبطت الطائرة بسلام وتوقعنا أن نشاهد أكداسا من الثلوج التي أدت إلى اغلاق المطار، تلفتنا من نوافذ الطائرة يمنة ويسرى، ولم نلحظ شيئا، قلنا ربما أزاحت جرافات المطار الثلوج بعيدا عن المدرج، واستقرت الطائرة ولكن صدمتنا كانت كبيرة، فلم نلاحظ وجود أي قدر من الثلج في أي جزء من المطار، تساءلت مع نفسي هل الكذب صنعة محلية أم شرق أوسطية؟ لم أحصل على جواب .


حينما دخلنا جوف المطار علمنا أن الطائرة التركية المغادرة إلى دمشق ستقلع بعد نصف ساعة فقط، حثثنا الخطى لنلحق بها فهي طائرتنا الموعودة، حينما وصلنا البوابة 210 قال لنا الموظف المسؤول، نأسف لأن الطائرة ممتلئة عن آخرها، قالها بأعصاب باردة برودة الثلج المزعوم، قلنا له بأن تذاكرنا مثبتة على الطائرة نفسها، صدّ عنا وسد أذنيه وتجاهل كل معاناة المسافر عندما يعرف أن واسطة نقله قد غادرت للتو، وأن عليه أن يقطع تذكرة للسفر مع الضياع لزمن غير معلوم، ربما بضع ساعات وربما أكثر.


حاولنا أن نفهم ماذا علينا أن نفعل، وما هي التزامات الخطوط التركية تجاهنا، ولكن الشركة التي صورتها إعلاناتها في الجزيرة كتلة أخلاقية وحضارية من القيم، تخلت عن جميع شعاراتها ونزعت براقعها دفعة واحدة وظهرت على حقيقتها عارية تماما، فلا موظف منها على استعداد أن يعطي جموع المتأخرين من أوربا من وقته دقيقة من الوضوح كي يقنعهم بأسباب السطو على مقاعد سبق لهم أن حجزوها مقابل أجر معلوم وليس هبة أو منحة أو صدقة من الشركة.


تركنا موظفو الخطوط التركية نموج ببعض، وأخيرا أبلغنا موظف بعد هياج من المسافرين كاد أن يحول المطار إلى مزاد علني، بأن علينا الانتظار حتى الثانية ظهرا، ولكن أين سنذهب حتى ذلك الوقت؟ على وفق الصورة المفترضة، بل وحتى في شركات أقل مما هو معروض عن الخطوط التركية، يجب أن ننقل إلى أحد الفنادق كي نستريح فيها لحين موعد السفر.


وبصلف غير معهود تركتنا نواجه ليلتنا على مساطب خشبية، نغيب لحظات مع ما يمكن أن نصطلح عليه بالنوم، ونواصل مغالبتنا نعاسا مركبا مع تعب السفر.


وتعالى الصياح مرة اخرى، وتعددت التأخيرات تباعا، قالوا لنا إن الطائرة ستغادر في الثانية و35 دقيقة من بعد الظهر، حسنا المهم أن نغادر، وجاء الوقت الموعود وقفنا في طابور طويل، ولكن أحدا من الموظفين لم يحضر، ضربنا أخماسا بأسداس، ولكن إشارة على اللوحة الالكترونية ظهرت لتخبرنا بأن موعد السفر قد تأجل إلى الرابعة وخمس دقائق، ثم أضيفت أربعون دقيقة اخرى على الرغم من عدم وجود الثلج أو المطر فالشمس سطعت في أجواء المطار، ولكن الطائرة لم تقلع إلا في الخامسة والنصف، ولكننا لاحظنا أن السماعات التي توزع على الركاب على الخطوط من أوربا وإليها ومع عدم قيمتها أو عدم الحاجة إليها، فإنها لم توزع على خط اسطنبول دمشق ولم تفتح شاشات الطائرة للركاب كنوع من التطابق في التعامل مع الركاب بصرف النظر عن جنسياتهم أو بلدانهم، ولماذا يتم التعامل مع الخطوط المتوجهة إلى أوربا ومنها بطريقة مختلفة، فهل هو تعامل عنصري في الجو؟.


بعد هذه التجربة قطعت ورفاقي في السفرة ألا نأخذ طائرة الخطوط التركية أبدا ومهما كانت الظروف، وسوف أوضح حقيقتها لكل من أعرف، فقد أساءت لقيمتنا كبشر أولا، ولو كانت قد عاملتنا بطريقة اخرى على الرغم من التأخير لكنا على استعداد لتناسي الآلام البدنية، ولكن الجروح النفسية لم يكتشف العلم لها علاجا.


فأين التطور في الخطوط التركية؟ هل هو في عدد طائراتها؟ أم بمدى احترام قيمة الإنسان ووقته؟ الجزء الأول تحقق ولكن الثاني أمر يتعلق بطبيعة البشر ولا يمكن شراؤه من الأسواق،


ماذا لو طالب ركاب الطائرة من الذين لديهم التزامات مختلفة، بالتعويضات المالية عن التأخير الذي ألحق بهم ضررا من دون شك؟ غالب الظن أن الخطوط التركية مطالبة بالاعتذار لنا ليس عن التأخير الذي وقع، ولكن عن سوء الأدب الذي عوملنا به في رحلة العودة من برشلونة وحتى دمشق من مساء 18/12 حتى مساء 19/12.

 
Em : nizar_samarai@yahoo.com      
هاتف : 00963999514991   
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الثلاثاء / ٠٥ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ٢٢ / كانون الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور