بحثاً عن الأمل الضائع في كوبنهاجن

 
 
 
شبكة المنصور
محمد عارف
مستشار في العلوم والتكنولوجيا
عندما وجدتُ في بريدي الإلكتروني فجر يوم الجمعة الماضي رسالة من عالم الفضاء والبيئة مصطفى شاهين دمعت عيناي. فصحف دولية عدة بينها "نيويورك تايمز" و"يو إس أي توداي"، والمجلة العلمية "ساينتفيك أميركان"، كانت قد نشرت في اليومين السابقين تقارير تضمنت نتائج رصد "المسبار الفضائي" AIRS، والذي طوّره شاهين، تراكمَ غازات ثاني أوكسيد الكربون المسؤولة عن تغير المناخ العالمي، وعرضت وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" صوراً متحركة التقطها المسبار لغيوم هذه الغازات تدور حول الكرة الأرضية. وها هو يخبرني في رسالته أنه قرأ مقالتي المنشورة في "الاتحاد" يوم الخميس عن قمة المناخ العالمي في كوبنهاجن، ويطمئنني "هناك أمل دائماً"!


قبل ذهابي صيف عام 1992 إلى "قمة الأرض" في مدينة ريودي جانيرو بالبرازيل، والتي أسست اتفاق المناخ، زرتُ شاهين الذي كان رئيس علماء مختبر "الدفع النفاث" التابع لوكالة "ناسا" في مدينة باسادينا بولاية كاليفورنيا، وأطلعني على مخطط "المسبار الفضائي" الذي كان في مرحلة التصميم. توقعتُ آنذاك: "إذا وقعت الواقعة وتغير المناخ العالمي فسيكون مصطفى شاهين أول من يعلم بذلك". وتساءلتُ: لو لم يكن اسمه مصطفى، ولو لم يولد ويترعرع في حي رأس النبع ببيروت، لنال جائزة نوبل؟ وقد تلقي الضوء على ذلك خاتمة هذا المقال المكرس للساعات الأخيرة لمؤتمر كوبنهاجن.


في صباح الخميس الماضي دعت ملكة الدنمارك زعماء العالم لتناول الطعام على أنغام أغنية "ها هي الشمس تشرق". وفي المساء رقصت حسناء دنماركية ترتدي احتجاجاً مايوه بكيني في صقيع كوبنهاجن على أنغام الأغاني الهجائية لنشطاء الدفاع عن المناخ العالمي، الذين أعلنوا "كوبنهاجن مسرح جريمة ضد الكرة الأرضية"، ودعوا إلى "ملاحقة المسؤولين الذين يفرّون إلى المطار"!


وما بين الخميس والجمعة وجد زعماء الدول الذين قدموا لتوقيع اتفاق يُفترض أن ممثليهم قد أعدوه، ثماني مسودات مختلفة. النص الذي أعدته الدولة المضيفة قُضي عليه حال تسربه للصحافة، وافتضاح أنه يمثل التفافاً على "اتفاق كيوتو"، وهذا خط أحمر في رأي "مجموعة الـ77" التي تضم الصين وأكثر من 100 دولة نامية تتمسك بمبدأ "كيوتو" في تحميل الدول الصناعية الغنية نفقات تنظيف المناخ العالمي من الغازات.


والولايات المتحدة التي انسحب رئيسها السابق بوش من "اتفاق كيوتو" غير مستعدة للعودة إليه. عبّر عن هذا بوضوح خطاب رئيسها الحالي أوباما الذي بدا كافتتاحية صحفية تدعو إلى العمل وتنتقد من لا يعمل، وتنتهي من دون تحديد التزامات الداعي إلى العمل، أو على الأقل تقديم مخطط عمل!


وما العمل مع زعيم بلد يتحمل المسؤولية التاريخية لتلوث الكرة الأرضية، لكنه آخر من يريد علاجها؟ تبلغ نسبة الأميركيين الذين يعتقدون بأن تغير المناخ مشكلة ينبغي علاجها 45 في المئة وهي أقل حتى من الصين، حيث النسبة 54 في المئة، فيما يبلغ المعدل العالمي 64 في المئة. كشف ذلك استقصاء نظمته "هيئة الإذاعة البريطانية" ومنظمة "جلوبسْكان" GlobeScan وشمل 24 ألف شخص في 23 بلداً.


وبعد مداورة زعماء العالم مسودات الاتفاق المختلفة، أعلن متحدث باسم البيت الأبيض في السابعة من مساء الجمعة عن اجتماع الرئيس أوباما ورئيس وزراء الصين "جياباو" لمدة 55 دقيقة، وأعقبه اجتماع أوباما وزعماء الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. عن هذا الاجتماع الذي ظهر لاحقاً أن أوباما لم يكن أصلاً مدعواً إليه، خرجت مسودة "اتفاق كوبنهاجن"!


ينص الاتفاق على أن تكون الزيادة في درجة الحرارة العالمية أقل من درجتين مئويتين، ويترك للدول المنضمة له تحديد نسب خفضها للغازات عام 2020، وتلتزم الدول الغنية بتخصيص أموال جديدة تبلغ 30 مليار دولار عام 2012، و100 مليار دولار عام 2020 توضع في "صندوق كوبنهاجن الأخضر" لمساعدة البلدان النامية لتحقيق أهداف الاتفاق.


ولعبت الصين في كوبنهاجن بمهارة فريق كرة قدم مصمم على تحقيق التعادل، حسب مراسل صحيفة "الغارديان" البريطانية. "استراتيجية اللعب دفاعية، تكتيكاتها خشنة، وتعاملها مع غرمائها فظاً أحياناً". ضمّ فريق اللعب ممثلي البلدان الصناعية الجديدة، الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، ورأت فيه صحيفة "واشنطن بوست" مؤشراً لنشوء توازن دولي جديد وميلاد نظام عالمي جديد. سجلت ذلك صورة فوتوغرافية قرأ فيها معظم المراقبين، بمن فيهم الصينيون، "لغة الأجسام". الرئيس أوباما منحني الجسم بذراعيه المبسوطين بين يدي رئيس الوزراء الصيني المنتصب بجلسته، وشفتيه المزمومتين!


وأعلن أوباما في المؤتمر الصحفي الذي عقده قبيل مغادرته كوبنهاجن أن الاتفاق لا يزال غير ملزم قانونياً، وأن الكلمة الأخيرة للعلم. وعِلم المناخ، كما ظهر في بيان صحفي صدر عن وكالة "ناسا" بيد مصطفى شاهين، الذي رصد مسباره الفضائي لأول مرة دوران غيوم غازات الكربون وبخار الماء في الطبقة السفلى من جو الكرة الأرضية على ارتفاع يتراوح بين 5 و12 كيلومتراً. وظهر أن هذه الغيوم خلافاً لما يُتوقعُ ليست منتظمة، بل "متكتلة"، وتشتد كثافتها في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، حيث الدول الصناعية التي تشكل المصدر الرئيسي لانبعاثات الكربون، وتقل كثافتها في النصف الجنوبي الذي يعتبره شاهين "مكب نفايات" النصف الشمالي من الكرة الأرضية.


ويطلق سكان العالم سنوياً ثمانية مليارات طن من الكربون في جو الأرض، نصفه يتراكم في الجو، ولا يُعرفُ أين يذهب النصف الآخر. هذا هو السؤال المهم، ونحتاج للعثور على جوابه في رأي شاهين الذي يدعو إلى "العثور على هذه العملية الطبيعية لامتصاص الكربون، ليس للقضاء عليها بل للاستفادة منها".


وإذا كان العلماء الآخرون ينظرون إلى الكرة الأرضية عبر اختصاصاتهم المحددة، مثل علم الأرض "الجيولوجي"، وعلم المحيطات "أوقيانوغرافي"، وعلم فيزياء الأرض "جيوفيزياء"... فمصطفى شاهين، عالم الفضاء والبيئة، يرصد الأرض مثلما يرصد الكواكب الأخرى كمنظومة موحدة مكونة من أنظمة دورات المياه والأشعة الحرارية والكربون والمركبات الكيماوية المتداخلة والمتفاعلة مع حركة اليابسة الأرضية والأشعة الشمسية وتأثيرات النشاط البشري.


وإذا وقعت الواقعة وجاء الأمل بإنقاذ المناخ العالمي فسيكون شاهين أول من يعلم بذلك. هذا العالم العربي الذي يشع جمالاً روحياً وبدنياً أوجعت قلبي نوبة ربو أصابته عندما أصر على توصيلي بسيارته إلى الفندق في مدينة لوس أنجلوس. وكما يقول الأديب الفرنسي مارسيل بروست، مؤلف رواية "في البحث عن الزمن الضائع"، فإن "السعادة قد تكون نافعة للجسم، لكن الحزن هو الذي ينّمي قوى العقل".

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ٠٨ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ٢٥ / كانون الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور