أمة استثنائية

 
 
 

شبكة المنصور

حمدان حمدان

انقضت عقود على ولادة منظمة التحرير الفلسطينية, وقبلها على ولادات تاريخية في عقود هيئات و حركات ومنظمات ..إلا أن فلسطين مُحررة لم تولد بعد, وأن الأم الحامل للمولود مازالت في وضعية التشرد والضياع حتى الأن.


واذ يحتفل الفلسطينيون بمناسبات التأسيس في المخيمات بعيداً عن فلسطين, فإنهم لا يتوقفون طويلاً أمام معاني وسبل التغيير قدر مايستوقفهم الإنفراد في التمّيز والفرادة في الموقف والخصوصية في الجذرية وربما الحصصية في المقاعد..ولعله هو ذاك العائد الخصوصي بدلالة التشدد في الجدارة والرسوخ في عمق النظر ووحدانية الحكمة وكلها بإنتظار العائد السياسي المؤهل لاحتكار الزعامة على متساكنين فوق أرض مشطورة تحيط بشطريها إسرائيل.


إن احتساب العقود المنصرمة والسنوات الفائتة ومغاليق ملفاتها ووقائع أحداثها وخطوط سيرها ..لا تقدم لشعب الشتات الدهري, ولا لدواخل فلسطين المحتلة , صورة وردية أو قطرة من أمل , فما من منظمة معينة , حتى منظمة التحرير تمكنت من الظفر باحتكار النطق باسم جماعّية الشعب المتضامن خلف هدف واحد , ولعل المنظمة نالت هذا الإمتياز لسنوات معدودة, غير أن هذا الاستثناء على القاعدة لأسباب داخلية فلسطينية وجوارية عربية ( أقاليمية ) , وأخرى اسرائيلية ودولية ..لم يُعّمر طويلاً.


كان الكلام الجامع في الوحدة الوطنية , يخفي التباساً موّلداً من تناقض خفي بين النظام الرسمي الجواري وبين هدف التأسيس التي قامت المنظمة من أجله , سواء بوسيلة التحقيق أو غايتها, فالكلام الجامع للوحدة الوطنية الفلسطينية , لا يستقيم مع غايات غير جامعة في طموحات ( أقاليمية ) عربية , هدفها استرداد السيطرة على التشكيل الوليد للمنظمة , أو ماسُمي في حينه , قدرة الإستحواز على ( الورقة الفلسطينية ) وما ينعكس سلباً داخل الأطراف المكونّة لها..ثم صار الالتباس مادة مستقلة بذاتها , أقرب الى التقّية منها إلى العلانية, من حيث هي ضرورة التعايش مع نظام عربي متنافر وقد أدى الالتباس في الكلام الوحدوي الجامع , إلى جعل الوحدة الحقيقية ( النابعة من ضرورات المصير ) سياسة مؤجلة لحساب الكلام البلاغي الجامع , فالوصول إلى المطلب الوطني الوحدوي , لم يكن متاحاً إلا من خلال الاستزادة في الإبهام أو التعويض من إيجابيات الماضي في التاريخ , فما آن أوان النزول إلى الشرح والمكاشفة في الإنتفاضَتْين : إنتفاضة الحجارة وإنتفاضة الأقصى ..حتى عادت المفردات لتأخذ عاداتها الافتراقية الخصوصية والطرفية..غير أن الوحدة الوطنية هي الوحيدة التي ليست بحاجة الى الاكثار من المفردات , ففي فيتنام لم نقرأ ( الموسوعات ) الصادرة عن (هوشي منه ) أو ( الجنرال جياب ) بخصوص الوحدة الوطنية الفيتنامية ، كما أننا لم نقرأ سوى بيانات مُقتضبة صادرة عن حركة التحرير الجزائرية في ذروة كفاحها الأوراسي ..


إن عناصر التوليف للوحدة الوطنية معروفة ، وقد ترقى إلى مستوى البدهية – المنطقية عند أصحاب الخبرة النضالية ، ولا يشذ عن القاعدة التي هي تاريخية وإنسانية ، إلا من أصيب بنقص في الوطنية الفلسطينية ، هذه الوطنية الخاضعة بدورها إلى صنوف من التأويلات والاجتهادات لزرع الفوارق في برامج الوصول إلى الثوابت ، بالتراشق في الشروح والقصف في التميّز التحزبي ، إلى أن يغدو البرنامج – وهو أسلوب عمل الوصول إلى الهدف – فوق الهدف ذاته ، بل ويتخطّاه نحو فلسفة بيزنطية لا تقبل التنازل عن التهارش ولو في أحلك الظروف .


وتحت عنوان الثوابت يندرج الموقع السياسي الثابت بحيث لم ينجح فصيل فلسطيني في صياغة نص ٍ مستقل عن عصبيات النشأة الأولى ، بما في ذلك الامتداد نحو الخارج ، فما حصل كان على النقيض ، فقد عجزت الصيغة الفلسطينية عن طريق ذاتها ( وخارجها ) عن ابتكار مصالحة مقبولة من النسيج الأهلي التكويني ، ولا هي رسمت مسافات الاتصال والانقطاع المطلوبة حيال الجوار العربي المؤثر ، أو غيره من قوى اقليمية ودولية ، بحيث يتحقق توليف مراعاة الممكن الضروري بتمييزه عن غير الممكن الاضطراري ، من دون الانشداد لمحورة استقطابية عربية أو اسلامية .


لقد تعرفت الثورة الفلسطينية رغم انقطاعاتها ضمن سلسلة تاريخية طويلة ، على أفراد نجحوا فردياً فكانوا نجوماً ساطعة في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني ، الحاج أمين ، والشقيري وعرفات وياسين والشقاقي ... إلى آخر القائمة الطويلة ، إلا أن النجاح الفردي لم يهتدِ خارج الشعار ، إلى تأصيل الحبكة الوطنية الجامعة ، ففي تاريخنا نشاز الافتراق في كل مرحلة ، وقد نكون بغنىً عن تعداد الانشطارات التي خرجت من البدن الأصلي لكل تنظيم ، بحيث التنظيم نفسه يلد تنظيمات خارجة عنه ، بل وعليه .


وفي أيامنا القريبة ، فقد اتصل اسم فتح وحدها ، بخمس أو ست ( فتحاويات ) في العراق وسورية والأردن ولبنان ...


أما الخط الإسلامي العام ، فقد نال ذات الامتياز ، تحت اسماء وأسماء فرعية دالة ( فتح الاسلام .. فتح الثورة ...) ثم فاقم التعثر الوحدوي وزاد في ارباكه انغلاق المجموعات المستقلة بذواتها ، والساعية بدورها إلى توكيد استقلاليتها ، باظهار نأيها عن المشين من الواقع المفكك ، وتظهير موقعها بسيلان وعظيّ زاد في انغلاق الصيغة المطلوبة ، وقد ساهم النشوء الفصائلي الجديد في تكليس السياق الوطني العام ، بتشديده على طروحات نقدية ( وهي صحيحة على العموم ) ولكن من دون الصعود لاستقبال تطورات عيانية ملموسة وجارية ، مع الحنين إلى اللغة القديمة في العودة إلى تكريس الالتباس نفسه ، ومع ذلك وعليه فقد صار الصفاء التحازبي ، والنقاء الايماني ، مادتي تفاخر بين وطنية وأخرى ضدها ، وصار الهدف هو توحيد ( الفئة الخاصة ) أو الحفاظ على وحدتها باحتكار النطق باسمها ، وصولاً إلى الزعامة الأحادية لحجز( الفيتو ) على طاولة الأمم الأخرى ، وفي سبيل التشبّث بالموقع ، فإن فئة ( الفيتو ) لم تترك باباً خلافياً ملتبساً ، إلا وشرّعته على وضوح مطالبها ، وعاد الافصاح ليحتل ميادين الجهر والاعلان ، بعد أن طالت عقود (التقيّة ) في الجمعيات الخيرية ، وعلوم تدوير الزوايا والايمان بالكتمان ..


ماهكذا تورد الأبل ياسعد ، وهو قول قالته العرب منذ أقدم الأزمنة ، فالوحدة الوطنية الفلسطينية ، لازمة مصيرية تنأى عن الشطارة واجتهاد مثقفي التشاطر في تأمين فذلكة الفكر بالمقدس والمُدنّس عن حلال التصالح وحرامه ، فالثوابت للأهداف ، أما أساليب الوصول إليها فلا ثوابت لها ، فالاسلام لم يربط بين الدين وأصول الحكم في منهجٍ واحد , وليس أدل من فوارق الأسلوب في مراحل اختيار الخلفاء الراشدين , أما الآية الذهبية ( وأمرهم شورى بينهم) فقد دّلت على وجوب التشاور عموماً , لا على طريقة الإختيار بوجه خاص ( فأنتم أدرى بشؤون دنياكم )...


واقع الحال هنا, لا يكتفي من الصورة الفلسطينية بسوداويتها, بل لعل هذه السوداوية منقولة من واقع عربي أعم , فالرابط التاريخي بين شعب فلسطين وأمته العربية لم ينقطع يوماً لا في بياضه ولا سواده , وقد يكون من المحمول على الظن أن انعكاسات السالب في مسيرة الأمة قد إنتقل طرداً إلى دواخل العصب السياسي الفلسطيني فوق ما هو عليه من قابليات فلسطينية تنشد التوزع حسب طقوس وجاهّية زعامية وعائلات ذات بنيان تاريخي عثماني أو بريطاني حجازي أو نجدي , مع خلافة استامبول , أو عروبيات دمشق وبيروت ...


هذا الإمتداد التاريخي تحوّل مع عصر العشرينات من القرن المنصرم , بحلول الإستعمار البريطاني , من عائلات إجتماعية إلى تكوينات سياسية أكبر , فكانت الهيئة العربية العليا رمزاً للقيادة الوطنية الفلسطينية , ورغم أن الحاج أمين الحسيني , هو مفتي فلسطين في زمانه , فقد آثر أن يطلق على الهيئة وصف (العربية) وليس الاسلامية , لا لأنه يتنكر للاسلام (حاشا لله) , بل لأنه يعترف بواقع فلسطين العربي وما جاء في الوصية العمرية لأهل (ايلياء) التي هي عرب القدس وأكناف فلسطين من مسلمين ومسيحيين.


كان الأثر العربي الآخر , في تعيين المرحوم اميل الغوري وهو مسيحي مقدسي نائباً للمفتي زعيم الهيئة , وكان قد جُرح في ثورة البراق (أواخر العشرينات) وهو يدافع عن المسجد الأقصى , ضد الميليشيات العسكرية الصهيونية .


مان من ريب أن الطابع العام للمقاومة اليوم هو طابع اسلامي مجاهد , غير أن (أسلمة) الصراع مع اسرائيل يجلب إلينا كوارث عالمية فيما إسرائيل هي المستفيدة منه , فمن المفهوم تاريخياً أن إسرائيل قامت على مظنة توراتية, تضع فلسطين في موضع أرض الآباء والأجداد , ومن السخف أن هذا التاريخ يعود إلى ما لا أثر آثاري (أركولوجي) فيه , وبالعكس فقد عاند التاريخ الفلسطيني في اثبات مخيّلة الكهان في التوراة, من حيث لا أثر للهيكل ولا يهوذا والسامرة , بل لا أثر لأي تاريخ يهودي خاص في فلسطين, مما حدا بمستشرق ألماني – يهودي أن يصب اللعنة على هذه الأرض التي ترفض تقديم أي تاريخ ( غير تاريخها الكنعاني )..


كان المؤسسون الأوائل للكيان الإسرائيلي ( ديفيد بن غوريون, موشي شتريت, ناحوم غولدمان, آبا ايبان, غولد مائير..اكثر دهاء في الإبتعاد عن اطلاق صفة اليهودية على الكيان الجديد , بل آثروا الوقوع في الخطأ العلمي المتعمد , حين أعطوا صفة القومية لدولة لا رابط بين (أممها) الا الأسطورة التوراتية , رغم أن معظم الطاقم الصهيوني المؤسس لاسرائيل , كان على جادة العلمانية ولا يؤمن بالتوراة اصلاً وفي مقدمهم تيودور هرتزل نفسه!..


هذه الأمم من مشارق الأرض ومغاربها تصالحت مع نفسها من غير سبب أحادي يجمعها , فثمة من اعتبر الدين سبباً كافياً للتوافق والاتحاد , وثمة من اعتبر المصلحة (في سرقة أرض ليست له) هي السبب الأقوى للتضامن , وثمة مَنْ رأى في إسرائيل مشروعاً استثمارياً متقدماً يهيمن على المنطقة , وثمة من فضل الهروب من موطنه الأصلي ( الفلاشا ) لأسباب تتعلق بالفقر والجوع وربما الاضطهاد , وتشير الدراسات الديمغرافية إلى أن معظم الفلاشا ليسوا من اليهود أصلاً, وثمة من اشتعل دماغه بوقود العصبية العنصرية- المذهبية (الأحزاب الدينية على رأسها حزب ليبرمان:إسرائيل بيتنا) وعلى افتراق الأسباب في التكاتف والاجتماع, فإن السبب الأهم يبقى في دورة الخوف من (العدو العربي) المحيط بزوايا اسرائيل الأربع.


وفي السيكولوجيا الانسانية , فإن شعور الخوف أكثر قسوة على الإنسان من الشيء المخيف نفسه , وعليه فإن القيادات السياسية الاسرائيلية والدينية منها بشكل أخص , تغذي شعور الخوف من العرب , عبر كل الأساليب الإعلامية والأدبية والفنية ...حين لا يكون الوصف الأنسب لكل فلسطيني , غير مخلوق ارهابي على الفطرة!..


لا أعرف لماذا لا نخاف على مصيرنا فيما دوائر السوء تحيط بنا من كل مكان , لماذا مازلنا نتصرف مثل عيسى وذبيان في حرب داحس والغبراء , لماذا نتصرف مثل حكام مصر والجزائر في استراتيجية حرب كروية , لا استراتيجية حرب مصيرية , لماذا انحطّتْ أهدافنا إلى مستوى داحس والكرة فيما الفوات يأكل من حاضرنا هروباً إلى ماضينا...


ففي فلسطين حرب داحس والغبراء, وفي العراق حرب البسوس وفي اليمن حرب الفُجّار , وفي شمال أفريقيا حرب الحدود, وقد وقانا الله شر حرب جديدة على الكرة كان لها أن تنشب لولا رحمة الجغرافيا , فشكراً لله وشكراً للجغرافيا!...

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ١٨ ذو الحجة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠٥ / كانون الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور