من أدب المقاومة العراقية  - يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة

( اغتيال عمر يوقظ عنوستي )

﴿ الحلقة السابعة
 
 
 
شبكة المنصور
كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
غرف البيت باردة ينقصها الدفء والحركة؛ ولأن الشتاء باغتننا هذه السنة بالبرد والمطر، تكاسلنا في تهيئة المدافئ النفطية التي تحتاج إلى إدامة بعد كل شتاء وشتاء؛ وبسبب رداءة مادة النفط، تصاب أغلب المدافئ بالعطل في حين تحتفظ المدافئ الزيتية والكهربائية برونقها وحيويتها لاشتغالها في ساعات محدودة تتوافر فيها الكهرباء.


الظلام والبرد في ساعات باكرة من الصباح داخل بيت فخم، بسقوفه العالية وجدرانه المرتفعة، تشكلان ثنائية مكروهة في الشتاء، تزيدان من الإحساس بالعنوسة والوحدة.


البردُ ينهش عظامي فأهرب إلى المطبخ، المكان الأكثر دفئاً حيث توقد والداتي إحدى المدافئ الكهربائية أثناء قيامها لأداء صلاة الفجر.


الشاي يغلي في الإبريق ورائحته تتغربل في مساماتي وقبل أن أسكبه في القدح، أسمع طرقات خفيفة على الباب ما تلبث أن تعلو شيئا شيئاً. أضع البرقع على رأسي وأتسلل نحو الباب والبرد ينخر مفاصلي. دقائق الساعة كانت تقف عند السابعة إلا ربع حين غادرت باب المطبخ.


الضباب كثيف في الخارج، والشمس احتجبت عن الشروق. من يكون الطارق .. من يجرؤ أن يخرج من بيته في هذا الوقت الباكر والبرد يشهر أنيابه؟


طرقات الباب لا توحي أن يكون الطارق جنودا من قوات الاحتلال فقد إلفنا أسلوب طرقهم على الباب. يقلعون أبواب البيوت بقنابل صوتية قوتها تكفي لإحداث صمم في إحدى الأذنين. وليس الطارق قوات عراقية أمنية حذوا سلوك قوات الاحتلال.


أقشعر بدني قبل أن أصل إلى الباب واستفسر عن هوية الطارق. لاحقني صوت أمي وأنا في طريقي إلى الباب: تأكدي من هوية الطارق قبل أن تفتحي.


في بغداد التي كانت تسبح في بحر من الهدوء والأمن وكانت دار السلام قبل الاحتلال، صرنا نتردد في فتح الباب، تنهانا أمي عن فتح الباب قبل الاستفسار عن هوية الطارق، تحذر الشباب من فتح الباب وتمنع الأطفال من اللعب أمام الباب. نتوجس من الطرقات العالية والصراخ ومن سيارات تقف عند الباب. نتوجس من سيارة تحمل مجموعة شباب أشكالهم تبدو غريبة، صرنا نتحسس من قصات الشعر الغريبة والملابس المثيرة، وتنتابنا الهواجس والخيالات المرعبة.


أخبار خطف الأطفال من أمام البيوت واغتيال الرجال أمام الأبواب، وفي العراء أجج الهلع والرعب في قلوب الناس.


- من الطارق؟
- أنا.


صبي قصير القامة، خمنت عمره في التاسعة أو العاشرة، يرتدي خرقا بالية وثيابه الرثة ومظهره ـ وهو يقود امرأة طاعنة في السن، ضريرة ـ يدل على أنه متسول، جار عليه الزمن والاحتلال. لسع البرد والهم جسدي وهيمن الشعور بالعنوسة على قلبي من جديد.


دفء المطبخ أغراني باحتساء الشاي الذي يفور فوق المدفأة وبدأت رائحته تتطاير في أرجاء البيت، وأنا أصب الشاي في القدح خرج صوت أم كلثوم من (الموبايل) وهي تشدو (فكروني) بصوتها العذب فأسرعت الخطي باتجاه غرفة النوم لجلب الجهاز خشية أن يوقظ نغمته العالية شقيقتي الصغيرة دنيا.


كانت خالتي هي التي تتصل بي لتخبرني أن خالي مثني أصيب بجلطة دماغية وشلل نصفي نقل على أثرها إلى مستشفى اليرموك، وقالت أيضاً أن الجلطة حدثت بعد أن داهمت قوة أمنية - يرتدي عناصرها زي الشرطة - المنزل واعتقلت ابنه عمر، وطلبت مني إشعار والداتي بالموضوع لغرض زيارته بالمستشفى.


خبران أحدهما أسوأ من الآخر وقعا في آن واحد. ترددت في إشعار والداتي بهذه الأخبار التي تقضم الظهر وتجلب الغم لكني وجدتها تقتحم الغرفة لتسألني مع من كنت أتحدث ولمَ تغير ملامح وجهي.


نويت إشعارها بالخبر لكن بشكل متأنٍ خوفاً عليها من ارتفاع الضغط وعواقب صحية أخرى لكنها لم تمهلني. سحبت (الموبايل) من يدي بعد أن جاء اتصال آخر وتكلمت مع زوجة خالي رؤوف التي أرادت إخباري بالموضوع.


الأخبار السيئة تنتشر بسرعة فائقة وهي أكثر من الأخبار المفرحة، في عراق اليوم قد تتلقى العشرات من الأخبار السيئة في اليوم الواحد، وتتلقى خبراً مفرحاً خلال شهر أو أشهر: اختطاف، اغتيال، اعتقال، انفجارات، فقدان – حوادث يومية لا يخلو أي يوم عراقي منها.


بعد يومين فقط، يعثر ناهض على جثة عمر في الطب العدلي، يجلس ناهض وسامي ابن عمه وخالد ابن عمته أمام شاشة الحاسبة في دائرة الطب العدلي ويشاهدون صورة عمر وهو جثة هامدة، على وجهه وجسده آثار تعذيب، وجهه مشوه من التعذيب. يستلم ناهض الجثة برفقة أولاد عمه وعمته ويأتي به إلى البيت وسط استغراب ودهشة وألم الأقارب والأصدقاء الذين تقاطروا إلى البيت بعد زحف الخبر إلى بيوت الجميع حتى الذين يسكنون خارج العاصمة.


الشعور بالعنوسة يعاودني وينغص عليّ حياتي، أعود سرى العانس مجدداً. تحكم أمي رأيها وتفرض علينا ارتداء الملابس السوداء أربعين يوماً حداداً على عمر الذي قتل وهو لا يزال شاب في عمر الورد.


يرقد خالي مثنى في المستشفى أياماً معدودة وهو جثة هامدة لا يقوى على الحركة، الدموع تهبط من عينيه بغزارة ويبكي كما يبكي الطفل حين يجوع.


حالته تسوء يوماً بعد الآخر، يراوده الشعور بالعجز والإخفاق، لقد سلب ابنه أمام عينيه ولم يتمكن من إنقاذه، يلوم نفسه لماذا قتل عمر ولماذا سماه عمر وبأي ذنب قتل عمر؟!


أنا وحدي في البيت، أمي ودنيا وعاصي وزوجته اعتكفوا على زيارة بيت خالي للتخفيف من حالته، أعود من الدائرة، وأجد الأشباح وحدها تدور في غرف البيت، ويعبث السأم في محتويات الغرف، وطيف عمر يتجول في غرف البيت، يظهر في جدرانه، وزواياه، وفي السقوف، ويتراءى لي في زجاج معرض التحفيات، صغيراً رحلت يا عمر ولم يسعفك الوقت لتتمتع بشبابك. حرموك الحياة وسلبوا منك الشعور بالعنوسة والشيخوخة وأنت في ريعان الصبا.


البرد والحزن ثنائيان مكروهان لا يجتمعان أبداً، وحين يجتمعان يولدان شعورا بالعنوسة والوحدة ويمنحان الألم والإحساس بالعجز والإخفاق.


اخترت مكاناً بارزاً ووضعت عريشة الأوراق الخضراء الاصطناعية وأعدت تنسيق نباتات الزينة الأخرى في البيت. هذه النبتة تصلح هنا وهذه العريشة هناك.


أجد نفسي مثل موظف حكومي حين يحال على التقاعد، يشغل نفسه بترتيب حديقة المنزل وزراعة النباتات فيها. خلال فترة أسبوع واحد، اقتنيت أكثر من نبتة ومتسلقة من محل ضباب لبيع الزهور الصناعية ووزعتها في غرف البيت بما فيها الممرات والصالة ووسط تعليقات أمي وسخريتها: انفقي الراتب على هذه النباتات الجامدة التي تفتقر إلى الحياة مثلك. هذه المتسلقات الخضر لن تحميك من مصاعب الحياة وقسوتها حين أموت أنا وتبقين أسيرة جدران صماء لا تمنحها المتسلقات الخضر سوى جمالٍ لن يدوم طويلاً.


حين أنام، ينتابني أكثر من كابوس، أشهره نار ضخمة تأتي على كل ما في البيت من نباتات الزينة، تحترق المتسلقات الخضر والأزهار في السنادين، ويبقى البيت بدون أية نبتة، جدران صماء وأثاث جامد لا يتحرك من مكانه بتاتاً.

 


كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
العراق – بغداد المحتلة ـ العانس
١٠ تشرين الأول /اكتوبر ٢٠٠٩

 

Golshanalbayaty2005@yahoo.com

 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ٠١ مـحـرم ١٤٣١ هـ

***

 الموافق  ١٨ / كانون الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور