موكب الاثنين

 
 
 
شبكة المنصور
د.صديق تاور كافي - كاتب وأستاذ جامعي
لم يكن الجمع الذي احتشد امام المجلس الوطني يوم الاثنين الماضي 7/12/2009م من عمل الحركة الشعبية، كما حاول الاعلام الرسمي تصويره، تضليلاً للرأي العام وطمساً للحقيقة. فقد كان ذلك تجمعاً لجماهير عدد من الاحزاب والقوى، بهدف محدد هو تقديم مذكرة بمطالب محددة، عنصر الاحتشاد فيها ضرورته لفت الانتباه الى ان هناك رأيا عاما سودانيا واسعا مؤيدا  لهذه المطالب المتعلقة بالحريات والسلام والاستقرار. فقد اشتركت في التحضير لهذا التجمع الحاشد كل الاحزاب السياسية تقريباً، ومن داخل وخارج الحكومة، ما عدا المؤتمر الوطني، كما ان ما صدر عن الجهة المنظمة لهذا التحرك من تصريحات، كان واضحاً ومنسجماً ومتفقاً على ان ما يتم التحضير له هو موكب سلمي هادئ امام مبنى المجلس الوطني، تشترك فيه قيادات سياسة بينهم نواب في المجلس نفسه، لتسليم المذكرة التي وعد رئيس المجلس الوطني باستلامها بحسب صحيفة «الرأي العام» الاثنين 7/12/2009م .


فقد قال الأستاذ فاروق ابو عيسى إن الاجتماعات تركزت حول التنسيق بين الأحزاب بهدف ان تكون المسيرة حاشدة ومنظمة وهادئة، مشيراً الى اخطارهم السلطات حسب منشور وزارة الداخلية المتعلق بكفالة حرية العمل السياسي «الصحافة» 15/12/2009م. «5890». وذكر ايضاً ان اجتماع التحالف اصدر قراراً لكل الاحزاب وجماهيرها بالاحتشاد امام البرلمان الساعة التاسعة صباح الاثنين، والقيام بعمل مماثل في كل الولايات وفق ما يرونه للتضامن مع الوقفة، ولاظهار موقف جماهيري مساند لعملية التحول الديمقراطي، ورافض للقوانين المقيدة للحريات «الصحافة» 4/12/2009م العدد 5889، بينما دعا النائب الاول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب، رئيس الحركة الشعبية الفريق سلفا كير، جماهير الحركة للمشاركة في المسيرة، وطالبهم بضبط النفس والحذر من المتفلتين والمندسين من اجل تغيير اهداف المسيرة «أجراس الحرية» 7/12/2009م العدد 543، كما أكد السيد الصادق المهدي، عقب لقائه بالبشير، التزام المشاركين في التجمع الصامت بعدم خرق القانون او التخريب او رفع شعارات خارجة عن هدف الموكب. ومضى يقول نحن بصفتنا قوى سياسية حريصون على الا يحدث اي شيء يخل بالامن ويخدش القانون «الاحداث» 77/12/2009م العدد «761»، ايضاً حث كبير مساعدي رئيس الجمهورية مني أركو مناوي مناصري حركته بالتجمع في المسيرة للتنديد بعدم إجازة القوانين «الاحداث» «نفس العدد»، كما قال د. الريح القيادي بحركة مناوي، انهم مع إقرار الحريات وتغيير القوانين المقيدة لها لتهيئة اجواء الانتخابات القادمة والتحول الديمقراطي «رأي الشعب» 6/12/2009م العدد «1328».

 

ومن جهته أعلن عبد الله موسى القيادي بمؤتمر البجا والعضو البرلماني، تأييدهم للمسيرة السلمية، ونبّه لاهمية ان تتفهم الحكومة ذلك وتساعد في تأمينها وحمايتها، حتى يبلغ المواطنون وجهة نظرهم للمجلس الوطني. أما الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم، فقد شدّد في ندوة تحالف جوبا بدار الحركة الشعبية يوم الخميس الماضي، بأنه على المشاركين في التظاهرة السلمية التقيد بالقانون ورفض التحرشات والاستفزازات او الانجرار خلفها، وطالبهم بعدم استخدام القوة. ودعا باقان المتظاهرين لتسليم انفسهم للشرطة بسلاسة متى ما طلب منهم ذلك، واحترام تلك القوات وعدم الدخول في عراك معها «الصحافة» 6/12/2009م العدد «5891». والمطالب التي حوتها مذكرة قوى


الاجماع الوطني هي:

 

1-    انفاذ كافة الاتفاقيات والبنود الدستورية، وانجاز مهام التحول الديمقراطي باقرار وتعديل التشريعات المطلوبة بعد مواءمتها مع الدستور «قانون الأمن الوطني والاستفتاء والنقابات والمشورة الشعبية والقانون الجنائي، وغيرها من القوانين التي تخالف الدستور».


2-      إصدار التشريعات التي من شأنها وقف نزيف الحرب في دارفور وإرساء السلام العادل في الاقليم، مع التأكيد على ضرورة مساءلة ومحاسبة كل من ارتكب جرماً في حق المواطنين والوطن دون استثناء لأحد.


3-    الالتزام بإجراءات حرة ونزيهة وشفافة، واعادة النظر في الإحصاء السكاني، مع ضمان قومية الاجهزة الاعلامية وحيدتها.


4-    إنفاذ نصوص الاتفاقيات المتعلقة بإعادة المفصولين من الخدمة ورد المظالم وجبر الضرر. ووفقاً لبدرية سليمان رئيسة لجنة التشريع والعدل بالمجلس الوطني -مؤتمر وطني- فإن الخروج في مسيرات سلمية حق مكفول لجميع الاحزاب بموجب قانون الاحزاب ومنشورات وزارة الداخلية، وان كانت قد اعتبرت الحشد غير مبرر «الاحداث» 7/12/2009م «761». وعلى الرغم من ذلك فقد تعاملت الجهات الرسمية أمنياً واعلامياً وسياسياً مع هذا التجمع بصورة عدائية، باعتباره عملاً مخالفاً للقانون، حيث جاء ان لجنة أمن الولاية عقدت اجتماعاً ونظرت في الامر، وقررت ان التجمع غير قانوني، وكل من يشارك فيه يعتبر طرفاً في نشاط غير قانوني، ويعرّض نفسه للمساءلة القانونية.

 

واستند بيان الشرطة الى المادة «127» من قانون الاجراءات الجنائية في تقدير عدم قانونية هذا التجمع، والى ان الجهة المنظمة اخطرت فقط الشرطة، بينما كان مطلوباً منها الحصول على اذن، الاحداث 7/12/2009م ، وبالتالي استخدمت القوة في تفريق المواطنين الذين احتشدوا امام المجلس الوطني للتعبير عن تضامنهم «السلمي» مع المطالب التي حوتها مذكرة قياداتهم السياسية أمام دهشة الجميع. فقد ورد أن عدد المقبوض عليهم بالقسم الجنوبي الخرطوم «140» شخصاً بينهم «111» رجلاً و«22» امرأة، «2» محامين، و«5» صحافيين، وانه تم تدوين بلاغات ضدهم تحت المواد «12، 96، 77». وفي القسم الاوسط ام درمان «6» أشخاص جميعهم من قيادات المعارضة،


كما استقبل مستشفى ام درمان عددا من الاصابات من المواطنين. ولم تسلم بعض الاقاليم من ذات التعامل، حيث اُعتقل في مدني «99» شخصاً وفي الحصاحيصا «54» شخصاً، وتمت محاصرة قيادات المعارضة في كسلا وفقاً لما اوردته بعض الصحف. واللافت للنظر أيضاً هو سلوك القائمين على امر التلفزيون كجهاز رسمي قومي يفترض فيه التجرد والحيادية، بعيداً عن عواطف الولاء السياسي.


ففي الوقت الذي كانت فيه حالة التوتر تعم كل الاوساط داخل العاصمة وخارجها والاعتقالات تطال بعض القيادات السياسية والمواطنين، كان التلفزيون الحكومي يقدم بعض الاغنيات العاطفية «أنا فاكرك معايا... وإنت مع المظاهر»..!! أما في النشرة الرئيسية مساء نفس اليوم، فقد تبارى المذيعون في الهجوم على الحركة الشعبية ووصفها بكل ما جادت به قريحتهم من قدح وكيل ونيل، حتى صارت الشاشة أقرب الى «ركن نقاش طلابي» في احدى الجامعات منها الى جهاز لعكس الحقائق وتنوير الناس بما يحدث بحيادية مهنية، فقد قدم المذيع الهمام الخبر تحت عنوان محاولات زعزعة الاستقرار بالبلاد. وذهبت «المذيعة؟!» الى ان الذي حدث اليوم في الخرطوم مناقض لما يحدث في الجنوب -الاحزاب تعاني من القمع والتعذيب والاعتقال- الحركة فشلت في الحكم والممارسة السياسية في الشمال والجنوب، وكثير من الاوصاف والتعليقات من مقدمي النشرة، وبعض الذين تمت استضافتهم بانتقائية ظاهرة، مثل داك دوب بيشوب الذي قُدِّم على أنه قيادي جنوبي، حيث وصف ما حدث بأنه عملية عرقلة للتحول الديمقراطي وهروب من الانتخابات، قائلاً «البتعملو للناس بيحصل ليك».. وآخر اسمه ماثيو مابور تحدث عن اعتقالات عشوائية في غرب بحر الغزال والبحيرات.. ووصف أداء الحركة بالضعف وعدم وضوح البرامج..


وان امل الشعب السوداني في الحركة في الجنوب والشمال قد تبخر.. واستكمل المذيع التعليق بتهكم غير لائق بأن الحركة ابتدعت نظرية غير النظريات السياسية بأن تكون في الحكم وفي المعارضة، وأن مؤتمر جوبا دفن للرؤوس في الرمال. واستضيف أيضاً ديفيد ديشان رئيس حزب الجبهة الديمقراطية لجنوب السودان الذي وصف الحدث بأنه خروج على القانون وغير دستوري.. وهكذا وهكذا.. وأفرد الفريق إياه مساحة مقدرة عن مظاهرات في جوبا بسبب المرتبات فرقتها الشرطة وقمعتها. وجاءت مداخلة مذيع معروف كنا نخاله شخصية جديرة بالاحترام في سؤال لمراسل التلفزيون بجوبا يقول فيه: لماذا هذا القمع إذن طالما أن المتظاهرين يطالبون بحقوقهم من رواتب وكذا؟ ثم استضاف التلفزيون عدداً من منسوبي المؤتمر الوطني الذين لم يكن هناك فارق بينهم ومضيفيهم من مذيعين.

 

وعلى الرغم من اننا لسنا في معرض الحديث نيابة عن الحركة الشعبية، الا اننا نعتقد ان سلوك فريق تلفزيون السودان المشار اليه، يعزز مطلب مقدمي المذكرة في الفقرة «3» منها الخاص بضرورة ضمان قومية الأجهزة الاعلامية وحيدتها، فهؤلاء لا يزالون غارقين في عقلية مرحلة التمكين التي لا تميز بين المؤسسة المملوكة للدولة التي تدار وفق اخلاقيات مهنة معروفة، والمؤسسة المملوكة لحزب واحد قابض على كل شيء يعز من يشاء ويذل من يشاء، فمثل هؤلاء يجب ان يغادروا ليفسحوا المجال لاعلاميين مهنيين يعملون بضمير حي وموضوعية يرجون بها رضاء شعبهم ومرضاة ربهم وليس رضاء سادة نعمتهم.


ومن ناحية أخرى فإنه بمقارنة المواقف بين قرار لجنة أمن الولاية وخطاب القائمين على الاعلام الرسمي وخطاب قيادات المؤتمر الوطني ومنابره، فإننا نخلص الى تطابق كبير لا نعتقد انه من باب المصادفة. فقد جاء على صدر صحيفة «الرائد» الناطقة بلسان المؤتمر الوطني انه «احبطت السلطات المعنية بولاية الخرطوم مخططا تخريبيا كبيرا تقوده الحركة الشعبية وتجمع جوبا، بهدف إثارة شغب وفوضى في العاصمة عبر المسيرة التي كانت تعتزم تسييرها أمس» «الرائد» 8/12/2009م الثلاثاء العدد 474. وشعار هذه الصحيفة هو «الرائد الذي لا يكذب اهله؟!!»، اما صحيفة «الانتباهة» فقد جاء في عددها رقم «1446» بتاريخ 8/12/2009م إنه تحصلت «الانتباهة» من مصادر عليمة على معلومات بشأن تحرك المعارضة والحركة الشعبية وسيناريو تنفيذ المسيرة التي أكدت انها تهدف لعمل بروفة للانتفاضة الشعبية لاسقاط المؤتمر الوطني..الخ..الخ». واتهم قطبي المهدي من وصفهم بدعاة التظاهر ومثيري الشغب، بمحاولة ابتزاز الحكومة وزعزعة الامن والاستقرار «الاحداث» 6/12/2009م  العدد 757. وقال د. الأمين دفع الله نائب رئيس الهيئة النيابية للمؤتمر الوطني، إن المسيرة تنفيذ لبنود سرية وضعها ملتقى جوبا،


وتهدف الى عرقلة عملية التسجيل الانتخابي الجارية، وكذلك الانتخابات القادمة «الصحافة» 5/12/2009م العدد 5890، بينما ذهبت صحيفة «الرائد» 8/12/2009م على لسان مندور المهدي الى انه توفرت للسلطات المختصة معلومات بنية الجهات المنظمة للمظاهرة لخلق فوضى واستخدام قنابل الملوتوف، الامر الذي قال انه اضطرها لاستنفار قوتها لفض المظاهرة، علماً بأن الجهات المختصة التي يعنيها مندور المهدي لم تذكر ما تفضل به هو للصحيفة التي شعارها «الرائد الذي لا يكذب اهله». ولا يختلف كمال عبيد عن سابقيه، حيث افتى بأن المسيرة لم تكن سلمية، وان المتظاهرين اعتدوا على الشرطة- وان التصريحت المعلنة للمعارضة هي اسقاط النظام قبل الانتخابات، وادعى ان السلطات الامنية تعاملت مع المسيرة وفق القانون لصيانة الحريات «الانتباهة» 8/12/2009م. وأياً كان الأمر فإن موقف المؤتمر الوطني قائم على حالة من الذعر من انتظام اي تكتل سياسي جاد في مواجهته ربما يطيح به.


فقد «رفض المؤتمر الوطني اتجاه قوى احزاب المعارضة للنزول الى الشارع وتسيير تظاهرة سلمية. وأظهر في ذات الوقت قلقاً بالغاً للتكتلات الحزبية «الاقصائية»، وقال إن التحالف بين حزب يطالب بتحكيم الشريعة وآخر ينادي بالعلمانية الصارخة من شأنه الاضرار بمستقبل الوطن» الاحداث 6/12/2009م العدد 757. وفي كل الأحوال فإن ما حدث يوم الاثنين الماضي لم يكن أمراً بسيطاً من حيث طريقة التعامل مع التعبير السلمي للمواطنين عن مطالبهم في ظل الحديث عن تحول ديمقراطي ومناخ حريات، فمهما قيل من مبررات الا انه لم يكن هناك ما يبرر استخدام القوة في تفريق المواطنين، طالما انهم التزموا التعبير السلمي عن مطالبهم، خاصة ان الدستور نفسه وقانون الاحزاب والمرحلة السياسية كلها تعزز هذا الاتجاه، اضافة الى ان التجربة العملية لكثير من الاحزاب المشاركة في هذا التجمع، ان لم تكن كلها مع اجراءات المصادقة على الانشطة الخاصة بهم، هي في الغالب تجربة مريرة.

 

والحزب الوحيد الذي يجد سهولة في فعل ما يريد من انشطة وتُمهد له كل السبل الاجرائية والاعلامية هو حزب المؤتمر الوطني.. عليه كان من الحكمة تسهيل مسيرة هذا التجمع السلمي أمام البرلمان وحمايته حتى يتم تسليم المذكرة التي لم يرفض رئيس المجلس استلامها، وبذلك تكون مؤسسات الدولة قد جانبت وضعية التصنيف السياسي لها باعتبارها تحابي هذا وتخاصم ذاك، فهي مؤسسات للجميع ليس من مصلحتها باية حال ان تتخندق لصالح طرف ضد آخر، دون أن يعني ذلك التهاون في أداء الواجب عندما تقتضي الضرورة ذلك. ومثل هذا التمييز مهم ومطلوب لتحقيق التحول الديمقراطي نفسه الذي من اولى استحقاقاته المساواة بين الجميع في التعامل وفرص التعبير المختلفة بالوسائل المتعارف عليها ضمن القانون، وألا يكون القانون وسيلة للانتقام السياسي.

 

ومن ناحية أخرى يحتاج منسوبو المؤتمر الوطني إذا كانوا حريصين فعلاً على حدوث تحول ديمقراطي حقيقي، الى أن يغادروا عقلية أن مؤسسات الدولة وأجهزتها هي ممتلكات خاصة بالحزب، فالطريقة التي يصرح بها بعضهم باسم جهات الاختصاص دون أن يكونوا هم جهة الاختصاص المعنية من نوع تصريحات مندور المهدي المذكورة في متن المقال، فيها إيذاء وإحراج لهذه الجهات، وفيها إساءة فهم لحدود الصلاحيات وللمؤسسية. ويحتاج اهل المؤتمر الوطني الى أن يصحوا من غفوة مرحلة التمكين، لأن الزمن لا يعود الى الوراء.


منشور في حلقتين بصحيفة الصحافة السودانية

-    الحلقة الاولى بتاريخ الخميس 10/12/2009 م .
-    الحلقة الثانية بتاريخ الأثنين 14/12/2009 م .

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين / ٢٧ ذو الحجة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ١٤ / كانون الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور