موطيء قدم .. حرية الموت ..

 
 
 

شبكة المنصور

ذكرى محمد نادر

قبل العيد.. ببضعة ايام لا غير.. قبل أضحانا حيث الحجيج تزدحم حناجرها بالتلبية, وقبل ان تفرح شفاه اربع بنات صغيرات بريئات كاغنيات العيد.. قبل فاصلة زمنية, من تسلم عيدية "بابا".. قبل ان تفرح البنات الاربع وهن يستبشرن لاثغات عند باب الدار"اجه بابا".. صكّت شفاههن بالنشيج غيلة!.. فأباهن لم يرجع مذ خرج صباحا وربما فاته ان يقبلهن قبلته التي قد تكون الاخيرة.. ربما فاته ان يستودع الزوجة كلمات تعينها في غيابه.. ربما ما قبّل جبهتها.. او لعله اجل وعده, بان يصطحبها لشراء ثياب العيد لبناته.. فهو على الارجح كان على عجلة من امره.. أو لانه كان واثقا جدا انه سيعود, وغالبا لانه كان موعد لقدر بانتظاره, يمكث في فوهة كاتم صوت!


انها قصة صارت طبيعية وشبه يومية, وهي تحمل اليوم قصة صحفي آخر.. اسمه "عماد العبادي" اصبح حدثا جديدا تتناقله وكالات الانباء ليضيف رقما آخر الى قائمة الضحايا! قصة ليست غريبة بقدر ما هي متوقعة, محتملة ويومية, ولن تكون الاخيرة بالتاكيد في مسلسل حياة الصحفيين العراقيين, في تاريخهم المعاصر, إذ صاروا  يتندرون على انفسهم بمرارة, بأنهم مشاريع موت مؤجلة لحين اصدار حكم تطلقه مشيئة قاتل, وانهم بالتالي ضحايا مرتقبة  تمشي على قدمين, صحبة قلم!


فما بين حادثة الشنق الرمزية الاعتراضية, التي قام بها صحفي عراقي في صالة بلدية باريس, اثناء زيارة الطالباني الاخيرة, امام حشد كبير من وسائل الاعلام الغربية, والتي استحسنت أداءه, فيما استنكرته في الوقت نفسه وسائل الاعلام العراقية عادّة اياه, تجازوا على المقام الرئاسي واحراجا له في محفل عالمي, وعملية الاغتيال البشعة التي لا نعرف حتى اللحظة ما ستؤول اليه, جريمة استخدمت فيها اسلحة بكواتم صوت, وفي وضح النار وفي منطقة محروسة بعناية شديدة, لسببين الاول, لانها  تقع ضمن نطاق المنطقة الخضراء وثانيا, لان الحادث وقع قريبا من السفارة الايرانية في بغداد, المحصنة والمحمية باحكام وبشكل جيد, في وقت ما زالت, تتسرب فيه اخبار شبه مؤكدة ان الصحفي "عماد العبادي" كان قد استدرج للقاء مدبر داخل تلك السفارة لضمان نجاح توقيت عملية اغتياله!, مما يطرح اسئلة كثيرة وملتبسة ماتزال غامضة ولعلها ستبقى كذلك بقدرة المنفذين والمخططين من خلفهم. وما بين الحادثتين فاصلة زمنية قصيرة وحسب, ويمكن تقديرها بالساعات لا اكثر لكنها تكتظ بالدلالات!


ففي الوقت الذي كان فيه صحفي يشنق رقبته طوعا بحبل غليظ وخشن امام انظار رجل دولته الاول احتجاجا على قمع الحريات الصحفية, كان الصحفي العراقي عماد العبادي, يتحدث لاحدى الفضائيات العراقية, يعلن بصراحة وبشجاعة تطلبت, اخراسه على الفور, عن قمع الحريات الصحفية وعن حقه في كشف المستور, وحق المواطن العراقي بمعرفة ما هو مغيب عنه من معلومات لما لها من علاقة مباشرة واساس وفاعلية في تغيير حياته والكثير من القناعات لديه, كان يتحدث بشجاعة صحفي وحماسة من صدّق "ربما" ان حرية القول والرأي مكفولة "كما يشاع" دستوريا, عن مقدار التجاوزات المشينة التي تأكل بأجهزة الدولة التي تربعت مرة اخرى, على قمة هرم الفساد الاداي والمالي والسياسي والحكومي عالميا, وهي على الرغم من ذلك وما زالت تتشدق, بأصرار مثير للسخرية  كل يوم بحرية الرأي والديمقراطية, في وقت تصدرت الخسائر البشرية, التي قدمتها الصحافة العراقية, قمة هرم الخسائر عالميا, لتخلفها باشواط بعيدة بلدان اخرى كالصومال وافغانستان, ولتشكل علامة فارقة قاتمة جدا, إذ ما زال العراق  يعد البلد الاكثر خطورة على حياة الصحفيين, محدثة بذلك اعاصير لملايين الاسئلة عن معنى حرية الرأي ومضامينها, مثلما تثير, في الوقت نفسه اتهامات كبيرة واسئلة استفهام, عمن هو خلف هذه الاغتيالات وعمليات الترويع ومن هو المسؤول بالضرورة عن حماية ارواح الصحفيين الواقعين ما بين سندان مهنة البحث عن المتاعب والتي صارت في العراق مهنة البحث عن الموت, وما بين المثابرة في مهنة هي الاشد افتراسا لحياة ممتهنيها. ولعلنا هنا نتساءل عن النمط الديمقراطي الفاجع والمبتكر, وقد ارهق كاهل المتن الصحفي الذي لم يعرف طيلة مسيرته خسائر بشرية في الارواح كما عرفها في وقتنا الحالي, وبزعم حرية الرأي التي ازهقت ارواح مئات من العاملين في هذا الميدان, خلال السنوات التي اعقبت الاحتلال في موجة قتل غير مسبوقة, وهو ما لم تتكلفه طيلة مسيرتها في وقت ما زالت تسجل جرائم الاغتيالات كلها وتركن, تحت بند الفاعل مجهول, من دون ان تعمد اي جهة رسمية او امنية الى فتح تحقيق حقيقي وعلني لمعرفة ما الذي مايزال مجهولا!


ولعلنا لن نبتعد عن كبد الحقيقة, حينما نشير الى ان الجهات الرسمية ربما هي,  معنية اكثر من غيرها بتضييع خيوط الكشف عن الفاعلين لان خيوط الجرائم المرتكبة بحق الصحفيين العراقيين ستؤدي كلها الى الجهات المعنية بفتح مثل هذه التحقيقات نفسها!


وهذا ما دفع العديد من المنظمات الصحفية المتخصصة بالدفاع عن حقوق الصحفيين بالكشف عن عزمها القيام برفع دعاوى قضائية توجه فيها اصابع الاتهام مباشرة الى رئاسة الحكومة العراقية, وتحملها المسؤولية كاملة, ممثلة برئيس وزارئها "نوري المالكي", على الرغم من علمهم المسبق انها محاولات قد لا تجدي نفعا في ظل قضاء مسيس, يحكم لصالح جلاد منتفع ويعاقب ضحية اعزل!


وليست حياة الصحفيين العراقيين مهددة بالموت الجسدي فقط، بل انها مهددة بموت القلم الشجاع الذي ينبري بصدر مفتوح للبحث عن الحقائق, من دون حماية, أو حفظ للحقوق, فلماذا يستهدف كل صحفي يحاول ابراز الحقائق ويقاوم الفساد والاحتلال, بينما يثاب من هو دون ذلك؟


الضحية الجديدة عماد العبادي ليس الصحفي الاول الذي تستهدف حياته, وهو حتما لن يكون الاخير في بلد مازال يرزح تحت سلطة الاحتلال وطاعون من هم خلف اقدامه.


وليست الارواح التي قاربت 300 نفسا وقد سفحت دماها في مذبح مهنة الشغب الجميل والذي لم يعد جميلا, وغيرهم بالعشرات ممن لم يعرف مصيرهم, ممن اضاع ضجيج الحرب خطاهم خلف اسوار السجون وقلاع المعتقلات, ما هم الا مقدمة لدرس يلقن بقسوة متعمدة, لكل من يتجرأ على قول ما لا يجب ان يقال! ولعل الصحفيين الذين يصل عددهم الى ما يزيد عن 1000 صحفي وهم من خيرة الخبرات والكفاءات المهنية, وقد هاجروا خارج حدود وطنهم بحثا عن الامن وبعيدا عن ميدانهم وعن مهنتهم التي يحبونها وعائلاتهم, هم نموذج اخر لوضع الصحفي العراقي, وقصة اخرى تنطق بحرف صامت وفاجع عما يتحمله اصحاب الاقلام الباحثة عن الحقائق في بلد تجاوز قتلاه المليون شهيد.. وبأيدي قتلة طلقاء جدا, ولكنهم بعرف القانون المغفل عمدا: قتلة مجهولو الهوية!


ربما نجا واحد منهم مع حبل مشنقة الحريات لانه كان بفاصلة جغرافية بعيدا عن ايدي القتلة, بينما اخذ عماد حصته من طعم الموت لانه كان قريبا, وبين ايديهم!


هل نعتذر لبناته الاربع وهن يستقبلن عيدهن بانتظار موت متوقع.. أم نقول لهن لا تفزعن يا صغيرات فالرصاصة في رأس الوالد مستقرة تماما قرب الحقائق غير المعلنة! حسبكن انه شجاع قال الحقيقة, وكان واثقا انه محروس بدولة ديمقراطية!؟


وبما انني لا اعرف ما يمكن ان يقال, فلندع رئيس الحكومة والدولة, لينظرا في عيون بنات عماد العبادي, ليقترحا لهذا العيد الماكث خلف بابهن بانتظار فجيعة اليتم, ان يتخيلا, ما يمكن ان يقال بانتظار روح صحفي اخر تزهق لصالح بقاء كرسيهما وجرائم ما زالت تحاك في الخفاء باسم حرية الموت المعلن والقاتل المجهول !

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ١١ ذو الحجة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢٨ / تشرين الثاني / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور