من أدب المقاومة العراقية - يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة

( العنوسة جردتني من حريتي )

﴿ الحلقة الرابعة ﴾

 

 

 

شبكة المنصور

كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة / العانس
المحاربون القدامى كانوا حين يؤونا إلى الفراش يخفون مسدساتهم تحت الوسادة، والفرسان النبلاء أيام غزوات السيف والحربة كانوا يضعون حربة وسيفا تحت الوسادة وينامون وهم متحزمون استعداداً لمواجهة طارئ الليل ممن لا تحمد عقباه.


عاد مبدأ استعد لمواجهة طوارئ الليل بالظهور في حياتنا. اشعر اليوم أني مثل ذلك الشرطي الذي يستعصي عليه النوم إن لم يكن المسدس مربوطًا على يمينه.


أنام وعيناي شبه منفتحتين، عباءة سوداء وبرقع أسود يوجدان قرب الوسادة دائماً، أرتدي قميصا بأكمام طويلة ولون غامق، وأتجنب ألا يكون القميص قصيراً وضيقاً.


عشرات من قمصان النوم ذات الأكمام القصيرة والمتوسطة كانت مركونة في الخزانة قبل أن أجري تعديلاً عليها إذ قمت بنقل محتوياتها إلى حقائب كي لا تكون أمام أنظار الجنود وهم يقتحمون البيوت خلسةٍ.


أشعر باشمئزاز حين أتخيل أن جنديا أميركيا يلقي نظرة على قمصاني وهو يبعثر محتوياتها بحجة البحث عن أسلحة فتاكة. لا أستبعد بتاتاً أن يتحجج الجنود بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل في خزانتي الشخصية فيلامس أياديهم القذرة قميصاً لم أرتديه وآخر أحمل فيه ذكرى عطرة لليل باسم جميل معطر بأريج الحب، كنت أشعر بنشوة حين أرتديه.


قمصان للنوم وأخرى ارتديها في الأماسي الحلوة، وأنا داخل البيت أسقي الخزامي والفل وأشجار النبك والرارنج وعشب الحديقة المائل للإصفرار نتيجة الانقطاع الدائم للماء عنها. وقمصان ارتديت معظمها في سنوات الهدوء، وحين كنا ننام فوق أسطح منازلنا ببغداد بمنتهى الحرية، وعندما كنا نترك أبواب البيوت ونوافذها مشرعة على مصراعيها، ننعم بزقزقة العصافير في الصباح لا بأزيز الطائرات الأميركية المسّيرة، كانت حواسنا لا تجرؤ أن تتخيل حرامي يفكر أن يقتحم البيت.


اليوم وبعد زوال سنين الأمان والهدوء لن نخلد إلى النوم، أنا والحاجة نسمة والداتي، الليل يبدأ بنقاش وينتهي بجدال حاد، تغضب تارة وأغضب تارة.


تقول لي صرتِ مثل الشرطي في البيت، تنهين وتأمرين وتوزعين مواعظ. وصرتِ مثل قطة شرسة تهيئ مخالبها للانقضاض، امنعها من نزع غطاء رأسها أثناء النوم، لا تكوني حاسرة الرأس يا حاجة حتى وأنتِ في غرفة منامك.


غرفنا لم تعد آمنة. بيوتنا مسارح مفتوحة انتهكت حرماتها. ماذا نفعل لو رفس الجندي الأميركي باب البيت بقدميه في وقت متأخر من الليل، أو حتى في هجير القيلولة. لن تجرؤ وهي عجوز يربو عمرها على السبعين أن تبحث عن حجاب تستر بها رأسها والكهرباء حتما تكون مقطوعة.


أقول يا أمي الحذر واجب، لا تستبعدي اقتحام البيت من قبل جنود مدججين بالسلاح، لن يكون بمقدورك إنقاذ الموقف لأنهم سيدخلون بأسرع مما تتصورين. سيفتحون الباب بقنبلة صوتية صوتها يكفي لإحدث بلبلة في كل إرجاء البيت. قد تغمى عليها أو تغمى على إحدى الفتيات فتقع على الأرض فيتهشم رأسها.


تسألني وماذا يفعل الجنود المدججون بالسلاح عندنا، نحن أناس مسالمون. أقول جارة صديقتي رباب في العمل كانوا أناسا مسالمين أيضا. في الهزيع الأخير من الليل وهم نيام، اقتحم الجنود الأميركان غرفة نوم العم خالد والد رباب، ولم يشعر إلا والجندي الأميركي يصوبُ بندقيته على رأسه ويصرخ به (wake up)، تعوذت أم رباب من الإبليس وكانت حاسرة الرأس، لم تتمكن من لملمة شعرها المنفوش. قيدوا العم سعيد وحجزوا النساء في غرفة سعد واقتادوا معهم رؤوف وكمال ومنذر الذي يبلغ الاثنى عشر من العمر واعتقلوا سيف زوج خالة رباب وهو ضيف جاء من الناصرية ليقضي عملاً في بغداد ونزل ضيفاً عند قريبه سعيد. تغمغم أمي أعوذ بالله، ياستار استرنا من (تاليه).


نبيلة زوجة شقيقي عاصي أصبحت شبه ناقمة عليّ وانضمت إلى سرب الحاجة نسمة وخالتي وداد، اسمعها تُناجي الله وتدعوها أن يبعث لي رجلاً فتخلص هي والآخرين من تدخلاتي السافرة في شؤون الآخرين.


العانس مثل عجوز البيت تدسّ أنفها في كل شيء. تعتقد إني حرضتّ زوجها عاصي عليها فمنعها من ارتداء (بديات ضيقة) في البيت وطالبها بارتداء ملابس محتشمة حتى وإن كانت الأبواب موصودة على مصراعيها، ولأني فرضت ذلك على شقيقتي هدى، تتصور إني فعلت ذلك بالتأثير على زوجها. لا تصدق أن عاصي تغير مثلي وصار يخشى أن نتعرض لما تتعرض له أسر عراقية كثيرة.


سامي صديق عاصي تعرض إلى دهم مفاجئ من قبل قوات أميركية في الساعة العاشرة ليلاً. يقول سامي: كنا اجتمعنا لتناول العشاء ولم أجد إلا جنودا أميركيين دخلوا البيت بعد انفجار قنبلة صوتية توقعتها على الشارع العام وليس على باب بيتي.


وحكى لعاصي كيف تم تقييد يديه ووضع الكيس الأسود في رأسه ورأس والداه وشقيقيه فاضل وصهيب. ثم اقتادوا فاضل وصهيب وتخلوا عن اعتقاله واعتقال والداه بسبب مرضه. يقول سامي لم آبه لاعتقال شقيقيَّ ولا حتى لما فعلوه من تدمير أثاث المنزل وتكسير التحفيات النادرة التي جلبها أبي إثناء رحلاته إلى خارج العراق لكني تألمت لدخولهم المفاجئ والنسوة كنا حاسرات الرأس ويرتدين جلابيات البيت.


تخلى عاصي عن البقاء بالملابس الداخلية أثناء وجوده في البيت ولاسيما في موسم صيف بغداد الحار وهو عادة احتفظ بها منذ أيام العزوبية، كانت أمي تنهاه على الدوام وتنصحهُ بالتخلي عن هذه العادة السيئة لكنه كان عاصياً لكلامها إلى أن جاء الاحتلال وخشي مثلي ومثل الكثير من العراقيين من حملة الدهم واقتحام البيوت بشكل فجائي.


كنت اهدأ والداتي وأقول لها اتركيه سيقع في شر أعماله، إن دخل الجنود الأميركان إلى المنزل سيقتادوه (بالفانيلة والسروال) إلى الهمر ويكون أضحوكة للعالم أجمع، وسيكون المشهد أجمل حين يتم تصويره وعرضه في الفضائيات ويراه القاصي والداني في الأرض المعمورة.


أرافق أمي إلى بيت ساجدة وأخواتها إيمان وقدرية لمواساتهن في وفاة والداتهنّ وأجد الدموع قد تطايرت من عيني ساجدة ووجدت إيمان شاردة والحزن طافح في ملامحها.


قالت ساجدة لأمي: مصيبة سعد ابن عمي طغت على فجيعتنا برحيل أمي. اختفى سعد منذ ثلاثة أيام والشباب منشغلين بالبحث عنه. قالت أمي كيف اختفى هل هو طفل. ردت ساجدة: خرج صباحاً كدأبه لفتح محله في الحي الصناعي واختفى. أصحاب المحلات قالوا إنه لم يصل لمحله ذلك اليوم. ونقَّاله يؤشر خارج نطاق الخدمة بعد نصف ساعة من مغادرته البيت.


تحولت الجلسة إلى مناقشة كيفية اختفاء سعد وكيفية إيجاده مع مداخلات جانبية عن أوضاع بغداد بعد الاحتلال والخارج الذي أصبح لا يعود.


قالت أمي لساجدة حين حاولت أن تتظاهر بالبكاء على والداتها: يا بنية احمدي الله أن والداتك توفت بعد أن بلغت من الكبر عتياً، لقد انقضى أجلها ولكل أجل كتاب. ماذا نقول للشباب الذين يموتون وهم في ريعان الشباب أو الذين يقتلون وتلقى جثثهم في الترع والأنهار وتضيع جثثهم. هناك أسر لا تحصل حتى على جثث أبنائها.


يتصل علي شقيق ساجدة ويخبرها أن تستعد هي وإيمان وقدرية فسيمر ويأخذهم إلى منزل سعد لقد عثروا على جثته في مشرحة الطب العدلي ببغداد وعليه آثار إطلاقات نارية في الرأس ومنطقة الصدر وملامح وجهه مشوه تماماً. تصرخ ساجدة وتولول باسم العمة سبأ والدة سعد ( فجعتي ياعمة ) .

 

 

 

كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة / العانس
٢٩ سبتمبر / أيلول ٢٠٠٩

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الجمعة / ٢٧ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ١٦ / تشرين الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور