من أدب المقاومة العراقية يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة

( مطر بغداد عانس مثل روحي )

﴿ الحلقة الخامسة ﴾

 

 

 

شبكة المنصور

كلشان البياتي

في منتصف الليل، خُيلّ لي أن حبات المطر هي التي تنقر زجاج نافذة الغرفة. ولأن ليالي بغداد لم تعد ساكنة، وهادئة بسبب سيارات الشرطة وآليات القوات الأميركية التي لا تهدأ؛ ولأن مواء قطط البيت تشبه أبواق سيارة الشرطة وانفجار قنبلة أو قذيفة هاوون، صحوتُ وأنا غير منبهرة بالمطر، ولم يشدني كما كان يفعل في السابق، استقبلته ببرود وجفاء كعهدي مع كل الأشياء.


عندما كانت بغدادُ حرة، كنتُ شاعرية جداً، ورومانسية، حالمة، أنام وأصحو على نقرات حبات المطر. اليوم مشاعري قفر، وعقم، لا يشدني شيء، ولا يبهرني شي. لقد قتل الاحتلال إحساسي بجمال الأشياء فلم أعد تلك البنت الرقيقة، التي تنبهر لكل ما هو جميل في الحياة.


للمطر رائحةُ منعشة تقتحم أنفي قبل هطوله بساعات. لا شيء اليوم في الكون يبهرني حتى السحب السوداء التي كنت احتفل بقدومها إلى سماء بغداد. المطر والسحب والظلال كانوا يمنحونني إحساساً بالدفء والنشوة، والمطر قديماً حين كان يهطل كان يعيد تكويني من جديد، طفلة شقية تلهو بمرح تحت المطر، تمسك حباته بأناملها. صورة سيارة تجتاز منطقة ظلال تشكلها كومة أشجار الفل وسعفات النخيل وشجيرات الأس المزروعة على الجزرات الوسطية وفيروز الصباح تصدح بصوتها الناعس المفعم بالأنوثة والرقة، لا تزال مترسخة في ذهني.


المطر عانس مثل روحي، ذابل مثل جسدي، لم يعد يبهرني ويمنحني الدفء والحياة. تلاشى انبهاري به وأصبح المطر مثل كل شيء في بغداد: مقفر لا يوحي إلى شيء، يأتي سنة عانسا وسنة يحتجب عن الهطول، أحسهُ مثلي يشمئز أن يلامس حباته وجوه من احتل بغداد ويبلل أرواحهم العفنة.


العانس تموت ولن تخلفّ خلفها من يذرف الدمع عليها. لا أولاد. لا بنات. لا زوج يلزم الحداد. لا حبيب يتذكر الأطلال. عندما أخلو إلى نفسي، تغزو ذهني أفكار بشعة مصدرها النقر الذي تمارسه الحاجة نسمة والداتي على رأسي: سرى، تزوجي واضمني المستقبل. من سيعتني بك عندما يهجم الشيب المفرق ويغزو البياض الشعر، لا تعتمدي على الإخوة، سينصرف كل واحد إلى شأنه وتبقين أسيرة الجدران والسقوف، المرأة منا تحتمي بالزوج من عاديات الزمن.


يزداد نقرها عندما تنتقل إحدى العوانس إلى رحمة الله. وتنصب مجلس العزاء على روحي. العانس كائن منسي ولن يكون موضع اهتمام أحد. أصرخ في وجه أمي أنا لست عانسا وعنوسيتي حالة مؤقتة ستزول بزوال الاحتلال، هؤلاء الكلاب هم من يجعلوني أشعر أني عانس، عندما يرحلون سأسترد أنوثتي وشبابي وتمسكي بالحياة.


تفجيرات الصالحية التي التهمت ألف شخصٍ بين قتيل وجريح ضاعف النقر على رأسي وأجج الشعور بالعنوسة فيّ. أحياناً، أحمد الله في سري على أني عانس فلن أخلفّ ورائي أبناءً للشوارع. أطفالاً أيتام يتسكعون في الشوارع ويتسولون لقمة الخبز من هذا وذاك.


مئة وخمسون مجلس عزاء أقيم في الصالحية، وستمائة عائلة تقضي يومها في المستشفيات بانتظار شفاء الجرحى. ستمائة أب أو أم ينشجون بصمت، ومئة وخمسون أما وأبا والعشرات من الأقارب والأصدقاء يبكون فقد الأحبة. مئة وخمسون لافتة سوداء حطتّ على الجدران، ومائة وخمسون مسجدا خصص لاستقبال المعزين، العشرات أحياء تحت الأنقاض، والعشرات أموات تحت ركام البنايات التي تهاوت بفعل الانفجار.


تهاتفني شادية من بلجيكا لتسألني هل أنتِ بخير، أنا ومحمود قلقان عليك. قلت اطمئني لم يحن أوان موتي بعد، اليوم تم تفجير وزارة العدل ومحافظة بغداد ووزارة البلديات، لم يصل القطار إلى محطتنا، احتمال بعد أسبوع أو أسابيع وربما أيام سيصلك نبأ مقتلي.


الأحد دامٍ والأربعاء دامٍ في بغداد، والجمعة ستكون دامية لكني لازلت غير متأكدة أي الأيام ستكون دموية أكثر من سواها.


سيتم تفجير كل الدوائر والشوارع والعمارات ومبازل المياه في بغداد، سيتم تفجير التماثيل ونافورات الماء ومحطات انتظار الحافلات ورياض الأطفال. قدر بغداد أن تفقد معالم جمالها وأنوثتها وترتدي الصبايا فيها السواد، قدرُ أمهاتنا أن تتشحن بالسواد من الرأس إلى أخمص القدمين.


الموت قاب قوسين أو أدني منّا يا صديقتي. تودعني شادية بعد أن تحشو رأس أمي وتحرضهّا ضدي: دعها تستقيل ياخالة، صائب لازال ينتظرها هنا في بلجيكا، لا يزال يريدها زوجة على سنة الله ورسوله.


يشبُّ الشجار مجدداً بيني وبين الوالدة على إثر كلام شادية. لن أستقيل وليذهب صائب إلى الجحيم، لن أترك بغداد تعاني وحدها من الدمار والأيام الداميات. لن نهجر جميعاً إلى بلجيكا وفنلندا والسويد هرباً من المفخخات واللاصقات والناسفات. هل سنترك بغداد مرتعاً للأشباح والأجانب والخنازير..؟


بهتُ بسيارة شهاب تقف وأنا واقفة أمام الباب، أغادر البيت متوجهة إلى الدائرة. يلحّ عليّ أن اركب السيارة ويعرض عليّ توصيلي إلى الدائرة، أنا أرفض وهو يصرّ. عندي حديث مهم معك. أرجوك، هذه المرة فقط، نحن جيران. أمضي مسرعة والحق بالحافلة التي استقلها كل صباح. وأترك شهاب يسرح بمخيلته.


فكرة ابن الجيران يحب بنت الجيران فكرة لم تكن تروق لي وأنا لازالت مثل ثمرة تنضج لتوها. ابن الجيران وغراميات سطح الدار وهمسات خلف الشبابيك أفكار بدتُ أسخر منها. معقدة تارة، ومتكبرة تارة أخرى، مغرورة و(شايف نفسها) تارة أخرى.


يصلني رأي شهاب من خلال شقيقته نجلاء التي يرسلها مندوبة عنه لتحدثني ويحملها رسالة منه لي. شهاب يحبك منذ أن كنت طالبة في الرابع الإعدادي، أفسحي له المجال ليحدثك عن مشاعره. أنهرُ نجلاء وأعيد إليها رسالة شهاب. لا أفكر في الزواج. ليبحث عن عروس أخرى.


أشعرٌ بفراغ كبير، الحب وحده يملأ فراغات القلب وزواياه لكني طلقتّ الحب حتى قبل أن ارتبط به، السأم سيدمرني، ولا شيء يزيحه عن قلبي، انظر إلى الأفق البعيد فلا أجد غير عتمة الاحتلال وظلامه الذي ينتشر في كل مكان حتى خلف جدران قلبي.

 

كلشان البياتي
كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة / العانس
٠١ / تشرين الثاني / ٢٠٠٩ م

 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاحد / ١٣ ذو القعدة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠١ / تشرين الثاني / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور