السياسة الخارجية العراقية : الأبعاد العربية والدولية

( تحليل لمضمون الأفكار والمبادئ ١٩٦٨- ٢٠٠٣ )

 
 
 

شبكة المنصور

د. غازي فيصل حسين - أكاديمية الدراسات العليا / طرابلس

الموضوع محاولة لتحليل المبادئ والقواعد الأيديولوجية للقومية العربية إضافة للأهداف التطبيقية، والمتغيرات السياسية العربية والدولية، بمعنى أخر : تحليل المضمون النظري، وإدراك عناصر واتجاهات السياسة الخارجية للعراق، التي مهدت لظهوره دولة جوهرية للتوازن الإقليمي.

 

1.    المبادئ الوطنية والقومية للسياسة الخارجية

من المؤكد، أن ثورة 17-30 تموز 1968، عكست أبرز تحول سياسي هام في تاريخ العراق الحديث. حيث تطور الفكر السياسي على صعيد الدولة، عبر الربط الحي، بين الأيديولوجية العربية والأحداث السياسية، وبرزت مسألتان: اقتصادية، هيمنة شركات النفط الأجنبية؛ اجتماعية، المسألة الكردية، الوحدة الوطنية.

 

لذا جاء الأداء السياسي للدولة ليعكس الاهتمام بالربط بين الاستقلال السياسي والتنمية الاقتصادية، لأن السياسة الخارجية للدولة تمثل حصيلة العلاقات التفاعلية بين الحقائق والمتغيرات المكونة للبيئتين الداخلية والخارجية للدولة. لقد تأسست الإستراتيجية السياسية العراقية على قاعدتين متفاعلتين :

 

الأولى، أيديولوجية حزب البعث العربي الاشتراكي، والثانية، التجربة الواقعية والميدانية، لما يبلور رؤية منطقية لجمهورية العراق حيال القضايا الدولية.

 

اختلفت نظرة حزب البعث إلى السياسة الخارجية عن نظرة النظم والأحزاب التقليدية، التي لا تؤدي إلا للتناقض "والغموض والتذبذب الدائم وتسمح بتسخير السياسة القومية للأغراض والمصالح الشخصية"، ورفض حزب البعث الانطلاق من سياسة تعصبية عقائدية مصطنعة، تقع خارج دائرة الأمة العربية، وشدد على ضرورة استناد السياسة العربية على القومية، وأن تعمل "بوحي من مصلحة الأمة العربية، ورسالتها الإنسانية" للدفاع عن حرية الشعب العربي والشعوب المستعمرة، ورفض حزب البعث مفهوم "السياسة الواقعية"، لأنها تقود إلى مهادنة الإمبريالية. لقد طالب الشعب العربي :"بالتحرر من الاستعمار والاستثمار، (وأكد أن) معركته، معركة شعب لا معركة طبقة" وفي هذا، يلتقي العرب مع اتجاه العصر، اتجاه الشعوب والأمم، ومع التقدم البشري العام.

لقد نظرت الأيديولوجية إلى سياسة الصراع بين المعسكرات "نظرة حياد واستقلال"، وأكدت على رفض الانحياز للقوى الكبرى، ورفضت تقسيم العالم إلى كتل متصارعة وطالبت بالعمل على :"فسح المجال لتعيش الشعوب، ضمن الأنظمة المختلفة"، وهذا يعني رفض الارتباط بمعاهدات مع الدول الاستعمارية، لأنها تتعارض مع حرية واستقلال ووحدة الأمة العربية. إن سياسة عدم الانحياز كما يراها القائد المؤسس "لا تعني رفض التعامل مع الغرب بل رفض احتكار الغرب لهذا التعامل، وتقبل بالتعامل مع الغرب والشرق على السواء لتحقيق مصلحة شعوبها". عبر الدعوة لإقرار سلام عالمي مبني على المساواة بين الشعوب، من أجل بناء الديمقراطية وتحقيق الازدهار. "لأن الفقر والحرب يهددان السلم والرخاء العالميين"، لذا يتوجب على الدول الكبرى العمل بجدية لوضع حلول جذرية لمشكلات الدول النامية وتوفير مستوى لائق لكل الأمم، يضمن الحرية ويحقق الوحدة ويمنع اندلاع الحروب، لذا طالب حزب البعث لتحقيق التوازن في العلاقات الدولية العمل على : إلغاء جميع المعاهدات مع الدول الأجنبية، رفض الأحلاف وإجلاء القواعد، تأميم النفط واستثمار الثروة القومية، التمسك بمبادئ عدم الانحياز.

 

ما تقدم يعني باختصار : صيانة الاستقرار لتأكيد الخصوصية، مع ضرورة "الانفتاح على العالم وتجاربه المعاصرة" هذه هي أبرز عناصر السياسة الخارجية العربية، والعلاقات الدولية، والتي بقيت متحررة من الجمود العقائدي أو الدوغمائية، لأن الأفكار الحية كما يقول القائد المؤسس تكون دائما "في حالة إعادة بناء". بناء على هذه المبادئ الأيديولوجية القومية العربية وضعت أهداف السياسة الخارجية العراق بعد 17-30 تموز 1968.

 

2.    أهداف السياسة الخارجية للعراق

نجحت جمهورية العراق في مواجهة التحديات عبر : تأميم عمليات شركة نفط العراق 1/6/1972، استثمار الكبريت وطنيا، إعادة تشغيل المصانع ووضع خطط استثمارية لبناء القاعدة الصناعية / الزراعية المتطورة، فتح الحوار مع الأحزاب السياسية وإعلان الميثاق الوطني، وتشكيل الجبهة الوطنية والقومية التقدمية عام 1973، التوصل لحل المسألة الكردية من خلال بيان 11 آذار 1970 ثم قانون الحكم الذاتي 11 آذار 1974. إن ما تحقق على صعيد الاستقلال السياسي والاقتصادي جاء تطبيقا لدستور1970، الذي عد العراق جمهورية ديمقراطية شعبية ذات سيادة، هدفه الأساس تحقيق دولة عربية موحدة وإقامة النظام الاشتراكي.

 

 

1.2 العلاقة بين الوطني والقومي

إن العراق في رؤية السيد الرئيس الراحل صدام حسين، جزء من الأرض الأوسع، الوطن العربي، وله دوره على الصعيدين الإقليمي والبشري في تحقيق حالة الوحدة وتصفية حالة التجزئة. إن العمل الوحدوي في رؤية سيادته يستند إلى عاملين : "العامل الاقتصادي بحركته ودوره المؤثرين في هدف الوحدة، العامل الثاني هو التأثير المتبادل بين نظامنا القومي، واتجاهات وحركة السياسة الدولية". ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من الوصول إلى الاكتفاء الذاتي عبر التنمية الشاملة لتحرير الاقتصاد العراقي من اعتماده على النفط، لأن "النفط محكوم بتقلبات السوق الرأسمالية وإستراتيجيتها" وهذا ما يؤدي إلى إلحاق الاقتصاد العراقي وتبعيته للاقتصاد الرأسمالي. فلا سبيل للاستقلال السياسي إلا عبر تحقيق التنمية الشاملة، لكي يكون الاقتصاد العراقي مستقر ومزدهر.

 

لقد وضع السيد الرئيس ثلاث ثوابت لتحقيق إستراتيجية التنمية : تحرير النفط؛  بناء الاقتصاد على ركيزتين صناعة / زراعة؛ الترابط بين التنمية الزراعية والصناعية. وهذا يتطلب الاهتمام بالبحث العلمي واستيعاب العلوم والتكنولوجيا، في إطار استراتيجي شامل وطني / قومي، بإمكانها تغيير المجتمع بصورة جذرية في إطار مفهوم اشتراكي يضمن : الحرية الاقتصادية، والحرية الاجتماعية والسياسية، والعدالة، والتحرر من التبعية للرأسمالية الدولية.

 

ولتحقيق هذه الغايات، عقد "المؤتمر القومي لإستراتيجية العمل الاقتصادي المشترك" في مايس 1978، حيث ركز سيادة الرئيس على العلاقة بين مستقبل العرب والتنمية من خلال استثمار الأموال النفطية، لأنها تشكل عنصر قوة. ودعا العرب للتنسيق والتعاون بما يجعل عملية التنمية في خدمة المصلحة العربية العليا والتكامل الاقتصادي، والابتعاد عن التنافس بين الأقطار العربية في مجال الإنتاج.

 

وخلال مؤتمر القمة العربي العاشر في تونس، 1979 دعا الرئيس لعقد قمة اقتصادية عربية، متخصصة في الشؤون الاقتصادية وسبل التعاون المثمر، لتعزيز العمل الوحدوي، ولإلغاء مظاهر التمايز الطبقي الحادة في الأمة الواحدة بين دول شبعانة إلى حد التخمة، وبين دول فقيرة إلى حد الانسحاق. (قدم العراق مساعدات وقروض خلال 1973-1981 للبلاد العربية بقيمة 4.8 مليار دولار، وهذا ما يكون 41.56 % من المعدل السنوي لما قدمته الدول النفطية العربية مجتمعة، كما يبلغ مجموع ما قدمه العراق من 1985-1989 ما مجموعه 7.4 مليار دولار).

 

ولتعزيز الأمن الوطني والقومي، جاء إعلان ميثاق الأمن القومي، من لدن السيد الرئيس الراحل صدام حسين في 8 شباط 1980، الذي حدد وسائل تفعيل إستراتيجية قومية شاملة تنظم العلاقات بين الدول العربية وبين دول الجوار ودول العالم الكبرى والوسيطة. ودعا الإعلان : إلى منع استخدام القوة المسلحة في النزاعات التي تنشأ بين الدول العربية، ودعا إلى حلها في إطار العمل العربي المشترك وأكد على أهمية احترام حقوق السيادة مع دول الجوار، وعدم اللجوء لاستخدام القوة، ورفض انتشار القواعد العسكرية والجيوش الأجنبية لان في ذلك إخلال بالحقوق السيادية والاستقلال، ويعرض الأمن القومي العربي لانتهاكات خطيرة.

 

2.2  الصراعات الدولية

بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين عام 1989، نشأ وضع دولي جديد، انفردت فيه الولايات المتحدة، معتمدة مبدأ استخدام القوة بدلا عن القانون والنظام، لانتزاع الامتيازات للسيطرة على مراكز الطاقة والمواد الأولية والأسواق لمنتجاتها العسكرية والمدنية، حيث تشكل صناعاتها العسكرية 40 % من الدخل القومي لأمريكا، وهذا ما يدفعها لتشجيع تجارة السلاح واندلاع الحروب. وهنا تعود لتبرز فكرة السيد الرئيس الراحل حول مستقبل العلاقات الدولية، التي ستشهد ظهور: مراكز قوى جديدة تؤثر في السياسة الدولية تأثيرا اقتصاديا (الهند، الصين، اليابان، البرازيل، أوربا، روسيا، الوطن العربي).

 

لذا ستشهد العلاقات الدولية، متغيرات واحتمالات عديدة، بديلا عن التفرد الأمريكي، ولقد أكد سيادة الرئيس في خطابه في 17 تموز 1996 وجود بعض الظواهر الهامة التي تشكل نهوضا نسبيا في الحياة الدولية:

 

1. تنامي روح الاستقلال.

2. تنامي نزعة التخلص من الهيمنة ومناهضة الإمبريالية.

3. بروز سياسات في الدول الصناعية معارضة للهيمنة الأمريكية، وهذا قد يدفع بالتأثير إيجابيا على "السياسة الدولية، واحترام القانون الدولي بما يوفر سلاما حقيقيا" لبناء العلاقات بين الدول على أساس التكافؤ والحرية والإنصاف واحترام السيادة، والعمل من أجل "الدعوة للسلام" بصورة "صادقة وسليمة" عبر احترام ميثاق الأمم المتحدة.

 

3.2  عدم الانحياز

مفهوم عدم الانحياز في منهج الرئيس الراحل صدام حسين يعني : عدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول؛ وسلوك طريق الحوار لبناء علاقات قائمة على روح مبادئ باندونغ للقضاء على التخلف وتدعيم الاستقلال ورفض سياسة الأحلاف والقواعد العسكرية الأجنبية؛ وتحريم اللجوء إلى القوة لفض النزاعات، واستخدام الوسائل السلمية لحل النزاعات؛ والعمل على إزالة جميع أنواع "الاستغلال أو التميز على الصعيد الاقتصادي .. للوصول إلى إقامة نظام اقتصادي عادل .. والإيمان بحق الشعوب في السيطرة الكاملة والفعالة على ثرواتها الطبيعية واستثمار مواردها لصالح التنمية المستقلة".

 

في إطار ما تقدم، وبغية تطوير العلاقات بين دول الجنوب النامية أكد السيد الرئيس على :

  • أهمية تطوير العلاقات بين دول عدم الانحياز، اقتصاديا وتكنولوجيا وسياسيا.

  • لكي تتمكن الدول النامية من المساهمات بصورة جدية في بناء السلام العالمي. لأن التطور والتقدم يحرر هذه الدول من الهيمنة الرأسمالية.

 

نستنتج على صعيد التطبيق إن العراق أثبت عبر أنموذجه المستقل، إن التنمية ممكنة، بل وحتمية للحفاظ على الإرادة الحرة، وأن تطبيع التكنولوجيا مسألة جوهرية لتحقيق التقدم.

 

4.2  السلام والأمن

لمواجهة تحديات النهضة، واستقلال السياسة الخارجية للعراق، عملت الرأسمالية العالمية على تحويل النفط من عامل للقوة إلى عامل للتجزئة. "فبدلا من جعله عنصرا ماديا يغذي الاعتبارات الروحية، حوّل إلى عامل لتقسيم العرب اقتصاديا وسياسيا، فوضعوا النفط في أيدي القلة فأفسدوها، وحرموا الكثرة من مصدر القوة ليضعفوها" ومن أجل أن يكون كل العرب أقوياء، يفترض إلغاء هذا التباين، بين من يملك النفط، ومن لا يمتلكه.

 

إن السلام والأمن، في فكر القائد يتخطى المفاهيم التقليدية، أي أنه لا يبني فقط على علاقات القوة العسكرية، بل يراه في مدياته الإنسانية والاجتماعية والثقافية من خلال إزالة الفوارق الحادة بين الأغنياء والفقراء في العالم عبر : توزيع عادل للثروة؛ وضمان حرية انتقال العلوم والتكنولوجيا لبناء عالم توازن ومتوافق. السلام والأمن في فكر القائد الراحل يرتبط بالبيئة والأمن البيئي، المهدد بفعل الاستثمارات الرأسمالية الواسعة؛ السلام يرتبط بالتفاعل بين العناصر الاجتماعية والاقتصادية للأزمات، والبحث عن مخارج وحلول من خلال تحليل أسباب ودوافع الأزمة، فلا يمكن تجزئة مشكلات: كالطاقة أو المياه؛ أو التلوث؛ أو شعب فلسطين؛ عن ظاهرة انعدام الاستقرار في المنطقة، لذا يفترض البحث عن حلول جدية لجميع هذه المشكلات، إن "السلام مكسب كبير وهام" وفق تصور السيد الرئيس الراحل، فمن الضروري قيام الأطراف المعنية إقليميا ودوليا، بتقديم تضحيات من أجل تحقيق السلام دفاعا عن الحرية والسيادة.

 

إن الحوار، كما يؤكد سيادته هو :"الطريق الصحيح للسلام، وإن السلام يجب أن يكون شاملا ونهائيا" عندها سيكون بناءً، لأنه مبني على التوازن والتكافؤ في العلاقات الدولية، وعلى أساس الاحترام المتبادل، للتمهيد لبناء علاقات تعاون بين الدول صغيرها وكبيرها، غنيها وفقيرها "على أساس العدل والإنصاف والمساواة" بتطبيق قرارات الأمم المتحدة "بروحية واحدة" لخدمة قضية الإنسانية في الحرية والعدالة والتقدم والازدهار.

 

 

ملاحظة : نشر المقال في بغداد عام 1999 في بيت الحكمة

 
 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

السبت / ١١ ذو الحجة ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢٨ / تشرين الثاني / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور