أنتظر العيد ، انتظر الفرح الأتي

 
 

شبكة المنصور

صلاح المختار
انتظر العيد ، والعيد يأتي ولا يأتي .

 

انتظر العيد ، وقلبي متناثر بين بغداد ومحطات اسكنها ثم أعبرها ، بحثا عن عيد يمر من فوقي ومن تحتي ، لكنه يتسلل هاربا خجلا من دسائس حزن حل ببغداد .

 

انتظر العيد ، يأتي الفطر ، وانتظر الاضحى ، وانا ممسوس بوله ولا اصحى ، بغداد : أراها وسيعة كغابة اكتظت بزرعها     وضرعها ، وانيابها ،  واحن إليها بلهفة طفل فقد امه لرشفة حليب من ثغرها .

 

انتظر العيد ، يأتي عام ويتصرّم أخر ، وانا حلم تائه بين يقظة ومنام ، اقبع في زاوية الحرمان ، ابحث عن راحة تشتري صمتي ، وتطفأ لوعتي وتدجن نومي .

 

انتظر العيد ، تذهب الاحلام سارحة في قطيع غنم ، تأتي الايام قاطعة تواتر الم ، رافعة راية شهوة قاسية لجمرة تلسع قلبي ليواصل نبضا خلته انعدم .

 

انتظر العيد ، وشهقة شهيد تنتظرني في كل زاوية نظر ، وصرخة طفل راى امه تنام ولا تستيقظ ، وأمل ماجدة يحتضر بنجدة تأتيها من معتصم اغتيل وهي لا تعرف ، فتبقى عيونها مسفوحة على درب الانتظار .

 

انتظر العيد ، وليالي شارع ( ابو نؤاس ) تؤرقني ، تسحلني وانا مشدود الى سيارة ، سرعتها كلسان مجنون ظن ان خلاصة في الثرثرة ، تتجول بي ازقة ماعادت ازقتنا ، وعبر شوارع لم اعد اعرفها ، تصير امنيتي الحارة هي تناثر جسدي ، الان ، ان تمزقه طرقات لا اعرفها في مدينة أنجبتني وحفرت شوارعها وأزقتها ودرابينها وجوامعها في ذاكرتي ، فاصبحت املك مدينة وحدي ، دفن فيها رمس جدي ، وابي وامي ، حلمت ان ادفن في مقهى في سوق حمادة ، كنت اشرب فيه شاي الحامض والدارسين ، لاتخلص من وحشة غربة لا تضارعها الا وحشة الجلوس في حضن ابليس .

 

انتظر العيد ، وابتسامات فلذات قلبي تغتالني وهي تهمس  بصمت تام : متى سنعود لملعب طفولتنا ، لبيتنا العتيق ، فنتراكض كما كنا صغارا ، ونحن الان كبارا ؟  متى نتحسس بوابة بيتنا لنجد خطوطا حفرناها باظافرنا ، حينما كنا نلهو صغارا ونحن الان رجال تدق قامتهم سقف الباب ؟ متى نعود لوطن اختلط الحنين اليه بمسامات القلب ، واغلق بوابات اي حنين يزاحمه على الدخول من كوة صغيرة كنا نسميها باب ؟ متى نعود لوطن يمنحنا الامن والامان أصبح الان غابة ارضها غمام ، وسماءها محض اوهام ؟

 

انتظر العيد ، في كل يوم جديد ، اغوص في ذاكرة العيد ، اشم عطر بغداد وهي تتوهج بصوت ام كلثوم (بغداد ياقلعة الاسود ....) وتزاحمها صدحات فيروز ( بغداد يا يغداد ....)  ، وبين بغداد ( قلعة الاسود ) و( بغداد يا بغداد ) يضيع راسي ، وأنسى غلق مآقي عيني ، فيهطل مطر غزير من عين ما دمعت ، ويتوله قلبي عشقا يريد الهروب الى ازقة الكرخ ليرى ما كان يتنفسه قبل نصف قرن ! الكرخ كرة نارية تتدحرج امام ذاكرتي تكبر كلما ازداد تدحرجها ,هل تصغر كرة متدحرجة ؟ ، الكرخ مجد عظيم يتألق ، مكلل ببدلة عروس ما ان ارتفعت الزغاريد حتى اصابتها طلقة محتفل بالعرس ! العروس بغداد تسبح بدمها تؤجل عرسها ، تتلوى بين احضان عشيقها فارس الفرسان حارس بوابة الشرق القديم ، بين نار كرة ذاكرة بغداد ونار حنيني لدروب لم تعد موجودة احترق ، تحترق صور ، وتتبدد ملامح .

 

انتظر العيد ، أتذكر حمامتي حينما كنت صغيرا وهي تحط على كتفي ، فأتجمد كي لا تطير ! أراها الان ، وانا في الغربة ، تحوم حول كتفي تخشى الهبوط ، فثمة حريق يشتعل في جسدي ، يأكل لحمي ويحيل قلبي  فحمة سوداء ، الحمامة تبتسم وهي تحلق فوق هامتي ، تحوم حولي تريد الهبوط لكنها لا تهبط ، فلصوص الليل يتأهبون لاصطيادها ، وهي تعرف انها بلا كتف تقف عليه ، فهل رأيتم حمامة تطير ولا تهبط ؟

 

انتظر العيد ، ارى ابنتي التي لم تولد ، تخشى العيد ، مصابه بداء اسمه الهم ، تقول لي : كيف اكون في مدينة صار مالكها من لم ينبت في رحمها ، ولا رضع من حليب نساءها ؟ في مدينة يملكها غرباء لا نوم ولا ابتسام ، فقط همّ من ديكتاتور اسمه خوف . يوم لا يبقى في بغداد الا من رضع من ثديها ، ونبت في رحمها ، وصلى في مسجدها ، وقبل يد تاريخها ، عندها سيكون لي في بغداد بيت وسوف انام بلا كوابيس ، وسأطلب من امي ان تلدني .

 

انتظر العيد ، ارى بسمة حفيدتي ( هلي ) وهي تقول لي من بعيد : (عيدك مبارك جدو ) ، فأتيقن ان عيدنا الاكبر قادم ، اعرف انه قريب قرب عيني لجفني ، واعرف انني ساركض في ازقة الكرخ مجددا ، متحديا تراكم هلاك خلايا جسد في الخامسة والستين ، يغزوني مجددا يقين اتمسك به منذ سبع اعوام ، حينما داست سنابك خيول مغول العصر بغداد ونجست اقدامها مياهه ، بان عيدنا المنتظر ، الحلم الذي طال تجسيده في صورة تلصق على جدران قلوبنا ،  قد اقترب ، وبان مقاهينا ستعود لتستمع لضحكاتنا ونحن نلعب ، فكيف نحرر ضمائرنا من تقصير ان ندع احفادنا يكبرون في الغربة ؟ كيف نغسل خطيئة ان نحرم احفادنا واولادنا وبناتنا من عشق بغداد والتنفس من ريح بغداد بلا خوف وبلا كوابيس ؟ وكيف يقبل التاريخ ان يرى عيون اطفالنا الناعسة تخشى النوم ، في غابة زرعها مغول العصر في بغداد وغرسوا فيها اشجارا تاكل البشر وتطحن الحجر ، ونحن نتفرج ؟ كيف نصمت وننتظر ونحن نرى رجالنا ونساءنا وشبابنا وقد تهرأت كراماتهم قبل اقدامهم بحثا عن مصدر رزق مستحيل في منافي الغربة ؟

 

في اول يوم العيد ، المؤجل الفرحة ، ابتسم ، تأسرني فرحة طفلة اسمها ( هلي ) ، تحتفل بعيد ميلادها الثالث بالتزامن مع عيد الفطر ، وهي مهجّرة لا تعرف بغداد ولم تتنفس من هواء عاصمة الرشيد ! ارى جنود الله يتجولون في الفضل والاعظمية والكاظمية والكرخ ، يوزعون ابتسامات لبشر صار ترديد الشهادة اول عمل يقومون به بعد مغادرة بيوتهم ، تقول الابتسامة ، ابتسامة جنود الله : انتظروا غدا فهو قريب ، فنحن لصق قلوبكم وبين جفونكم ، ننتظر أشارة انطلاق يوم العيد ، ننتظر يوم لم يره عراقي ، يوم ليس فيه لصوص يسرقون العيون من محاجرها بعد اقتلاعها بالمثقاب ، يوم تخلو فيه الطرقات من اسنان لا ترحم تفترس كل طفل يخرج راسه من باب داره .

 

ابتسم ، تدمدم هلي باغنية لم افهمها ، اقول لهلي : شكرا هلي ، يا مستقبلي ، وجيناتي التي تنزرع في رحم بغداد ، وتزهر في عيون القدر رغم الغربة ، غدا سنعود لبغداد ، سازور سوق حمادة رغم انها لم تعد موجودة الا في ذاكرتي بعد ان اصبحت عمارات حديثة ، سارى سوق حمادة الموجود في ذاكرتي ، وساسير بازقتها الضيقة واقبل جدران كنت اعبث فيها ، شكرا هلي وانت تترنمين بالحنين للاهل ، وتطلقين اغنية الموسم القادم والتي لن تتفوق عليها اي انشودة : هلهولة للنصر القادم ، هلهولة لبغداد المحررة ، هلهولة لبغداد الامن والامان والحرية والكرامة ، هلهولة لبغداد التي نستطيع فيها الابتسام في عيد حقيقي آت .

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

 
 

شبكة المنصور

الاثنين / ٠٢ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢١ / أيلول / ٢٠٠٩ م