صبحي الهيتي .. لقد نحلت شوقا إليك المنابر

 
 
 

شبكة المنصور

رباح آل جعفر

كان الشيخ صبحي الهيتي إمامنا في الصلوات ، وخطيبنا في الجمعة ، مقتحماً منابرها في جسارة ، وقد اهتزّت وارتجّت عاطفةً وانفعالاً ، يذكّرنا كلّما وقف يخطب بمشاهير الخطباء .. الشيخ عبد الحميد كشك ، والشيخ المحلاوي ، والشيخ محمد الغزالي ، فيلهب العواطف ، وتخشع قلوب المصلين ، وتسبق عيونهم العبرات ، ويقلّبون الطرف في الأرض والسماء ، إذا ذكر الله والدار الآخرة .. بينما هو يشتدّ ويحتدّ في نزاله المنبري ، فتراه يهدر كالموج ، ويزأر كالليث ، ويقصف كالرعد ، ويزمجر بصوت متعال ، حتى أنك لتحسبه في بعض ما يخطب مقاتلاً في معركة !.


وكان يلقي علينا دروساً فقهية ، ومواعظ ، في أماسي رمضانية في المسجد الكبير بالرمادي ، الذي يسمّيه آخرون بـ ( مسجد الشيخ عبد الجليل الهيتي ) ، ويتلو في الصلاة قوله تعالى : ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) ، فتنزل دمعته ، ويقنت بنا قنوت النوازل ، وكان من دعائه في هذا القنوت : ( اللهم فك بقوتك أسرنا ، واجبر برحمتك كسرنا ، وتولّ بعنايتك أمرنا ، اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، اللهم عليك بالظالمين ) .


وإذ عرف العرب منذ عشرات القرون ، أنواعاً من الخطب ، فهناك الخطبة البتراء ، والعصماء ، والشوهاء .. ثمّ الخطبة التامّة ، والناقصة ، والبليغة ، والمؤثرة ، فان الشيخ الهيتي كانت له رؤيته ، فهو يعتقد أن خطبة الجمعة جريدة أسبوعية ناطقة ، قبل أن تعرف الدنيا عالم الصحافة ، حيث كان المنبر الجمعي وما يزال ، تعلّق عليه مشاكل الأسبوع ، وان الخطيب إذا أراد النجاح في خطبته ، فان عليه الاهتمام بمشاكل من حوله من الناس ، وأن يستشهد بالآية الكريمة في مكانها ، والحديث الشريف في موضعه ، والمثل في موقعه ، والحكمة في منزلها ، وبيت الشعر فيما يناسب المقام .


وتعرض الشيخ صبحي الهيتي في حياته إلى حملات من بعض ( المتدينين ) ، وتحمّل استفزازات لا قبل له بتحمّلها ، ولكنه تقبّلها بمنطق الكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس ، وهاجمه بعض ( المتعالمين ) ، وطعنوا فيه ، لأنه لم يرق لهم أن يحارب خرافاتهم ، وأباطيلهم العدمية ، فيرسل عليهم شواظ من نار ، وكانوا يحاولون أن ينالوا منه بكلّ إسلوب ، ويلحقوا به الأذى عن قصد وعمد ، وهيهات أن تستسلم الجبهة المؤمنة ، ومن المحزن أنهم وصلوا حدّاً ، سمّاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ( الفجور في الخصومة ) !.


عرفت الشيخ صبحي الهيتي ، وكان منّي غير بعيد ، مستقيم التديّن ، لم يضع نفسه وسط التيارات المتضاربة ، ولم يتهالك على المناصب ، يتحرى الحق ويسأل عنه ، يظنّ أن المذاهب الإسلامية أمر عائلي ، وحين سأل عائلته ، وقالوا له : أنهم على مذهب الإمام الشافعي ، فإنه قرأ فقه الإمام الشافعي ، وعندما أكمل دراسته ، اختار الفقه الحنفي ، على طريقة الفقهاء ( إذا صحّ الحديث فهو مذهبي ) ، وكان يخشى الإفتاء ، لكنه إذا سئل ، ووجد في نفسه القدرة على الفتيا ، استعان بالله ، وأفتى السائل .. وكم مرة استوقفتني أدعيته المأثورة وهو يتلوها تقرّباً إلى الله وطمعا .. وقال لي : انه ارتقى المنبر أول مرة في (1 حزيران سنة 1953) في ( جامع السادة ) في بعقوبة ، وكان من عادته كتابة الخطبة منذ يوم الأحد ، ثمّ يزيد عليها وينقص منها ، حتى يلقيها في صلاة الجمعة ، وخطب مدة ستة شهور يحرّر بالورقة ، وفي ( الأول من كانون الثاني سنة 1954 ) حدث ما لم يكن في الحسبان ، ووجد نفسه أمام مأزق ، إذ عندما أذّن المؤذن ، لم يجد الشيخ الهيتي الخطبة التي أعدّها ، وكان موقفاً حرجاً ، وخطب متردّداً ، ومرتبكاً ، وفي الحقيقة فان تلك الخطبة ، كانت البداية إلى الارتجال ، والعفوية .. بعيداً عن التكلّف ، والتعقيد ، والورق .


وهو ، على أي حال ، من مواليد هيت 1926 ، وتخرّج من مدرستها الدينية في ( جامع الفاروق ) وتتلمذ في حضرة فقهاء كبار : عبد العزيز السامرائي ، عبد الجليل الهيتي ، طه علوان السامرائي ، ضياء الدين الخطيب ، ولقد وجدت في صبحي الهيتي ، وجهاً مشرقاً ، وثغراً باسماً ، ومزاجاً حادّاً ، وقامة طويلة ، محبّاً للمقام العراقي ويسمعه ، شرط أن يكون كلاماً مقبولاً ، وكان يتساءل : ما المانع من تلاوة القرآن الكريم على أنغام المقام ، ما دامت تحدث تأثيراً في نفوس المستمعين ؟!.


وقال لي الأديب الراحل يوسف نمر ذياب ذات مرّة : كانت في بلدة هيت مدرسة أخرى، عدا الابتدائية ، هي المدرسة الدينية ، وكان ممن يدرس فيها : الشيخ صبحي الهيتي ، ومدني صالح ، ورافع الكيلاني ، وانه لجأ يوماً إلى الشيخ صبحي ، ليسأله عن إعراب كلمة ، فأعربها تمييزاً ، وبرغم أن يوسف نفسه ، إنخرط في مهنة التعليم ، فإنه كان يسخر ، بقوله : (عندما تكره السماء إنساناً تجعله معلما ) !!.


وفي أحد الأيام زرت الشيخ الهيتي ، وكان يرقد في مستشفى ابن البيطار لجراحة القلب في بغداد ، ورأيته يتمدد على السرير ، بنصف عافيته ، وبوجه شاحب ، وقد نقص وزنه بعض الكيلوغرامات ، وحلّ به التعب ، وأنهكه المرض ، وأصيب بحالة موجعة من تقلّص في شرايين ساقيه ، وكان الأطباء طلبوا منه أن يقلع عن التدخين ، فأطفأ سيجارته الأخيرة ، وقطع على نفسه وعداً بأن لا يشعل سيجارة غيرها ، وكانت ترفه الوحيد ، ورفع عينه في عينيّ ، وكانت تشتعلان كجمرتين ، وقرأ لي بصوت متهدّج منكسر عجز بيت من الشعر ، يخاطبني : ( وكلّ ما يفعل المحبوب محبوب ) يا رباح آل جعفر ، شارحاً صبره وتحمّله ، وقلت له أواسيه: إن هذا العمر ، يشبه القطار يا أبا عبد الستار ، فكلّنا نعيش في وقت واحد ، ولا أحد بعرف متى تجيء المحطة التالية ، وأين ينزل ، وكيف ينزل ، ومتى ينزل ، متى ..متى

 

لقد كتبت ونشرت عن الراحل جزءا من هذا المقال في حياته ، وأذكر أنني قرأت له ما كتبت عبر الهاتف ، ثم زرته الزيارة الأخيرة في منزله بمدينة هيت العراقية الشاربة من نهر الفرات عطشا ، وكم كان يرحمه الله حفيا بي ، وحانيا ، حافظا لصلات بيننا وعهود سبقت في حسابه كل حساب .. حتى يصح في وصفنا قول البحتري :


لقد صدق البشير بما ابتهجنا


له لو كان يصدقنا البشير


لكن البشير ، لم يصدقنا ، حين سمعت بنبأ وفاته رحمه الله ، قبل ثلاث سنوات ، وأنا مغترب خارج العراق غربة يوسف في الجب .. وكان من مناي أني ألقي عليه سلام الوداع ..


فسلام عليك ، يا كبير الدعاة وقامتهم ، مع كل تكبيرة آذان ، وإقامة صلاة ، وسلام عليك كلما استذكرناك ، فتبللت القلوب قبل المآقي بمطر الأحزان .

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الأربعاء / ٢٦ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٦ / أيلول / ٢٠٠٩ م