تراتيل وصلوات وقرابين

 
 

شبكة المنصور

رباح آل جعفر

في بدء شهر رمضان ، أقف احتراما ، وأنحني إجلالا ، وأطوي الجوانح على الآلام والذكريات ، وأرثي بحزن عميق ، كل الأرواح التي زهقت من شهداء مذبحة الأربعاء ، فكانت قرابين ، وأضاحي قبل أن يأتي عيد الأضحى .. وأرثي معهم كل شهداء العراق ، الذين أضاءوا كالبروق وجوهنا ، وأثبتوا بالوجه الشرعي أن دماءهم كانت رخيصة ، أرخص من شربة ماء ، كما ثبت بالوجه الشرعي رؤية هلال رمضان ، وماتوا في لحظة غابت عن العالم آدميته ، من دون أن يرتدوا بدلة عسكرية يواجهون بها الموت ، ومن دون أن يحملوا مسدسا يطلقون منه رصاصة تعبر عن شعورهم بالقدرة على حمل السلاح ، ومن دون أن يشبعوا من تنفّس الهواء ؟!.


ف ( واحر قلباه ) وقد تفوقنا على العالم باستنباط نوع من القتل لم يعرفه ( آل كابوني ) ، ولا عائلة ( مانسون ) ، ولا عرابو جميع المافيات .. وهل فكر أحد قبلنا في العالم ، أن يسرق بلاطات المآذن ، ونقوش المساجد ، وقناديل الجوامع ، والمصاحف ، والقباب ، والقبور ، والنذور .. وأن يقتل بائع خبز ، أو بائع حليب ، أو صبيا يبيع الصحف عند إشارات المرور ؟!.


يأتي رمضان هذا العام ، مثل كل مرة ، مجللا بكثير من الحزن ، والشجن ، والتفجع .. متشحا بكثير من الوحشة ، وملابس الحداد ، واللافتات السود ، والخيبات والمناحات ، والتعازي .. فهذا العراقي يمارسون ضده كل أنواع القهر ، والابتزاز ، بلا عطف ، أو شفقة ، وهو ما يزال يخزن حبوب الصبر في صدره ، كما كان يخزنها سيدنا أيوب .. وصار قدره ( أن يسكن في جفن الردى وهو نائم ) ، ثم يأتي من يسأله بعد هذه العذابات : هل آذاك الوجع ؟!.


لا الدم العراقي ينتهي ، ولا الدمع العراقي ينتهي ، ولا دفاتر الحزن تنتهي .. ولم يكن هذا هو الذبح العراقي الأول ، ولن يكون الذبح الأخير، ما دام الظلاميون ، والثأريون ، يتنازعون على من يقيمون الحد ، ويحتربون على القصاص ، ويصبغون أيديهم بالحناء ، فضاعت الديات بين القبائل ، وتوزعت دماؤنا حصصا على الأحزاب والمليشيات ، لكل حزب وميليشيا حصة من دمنا المنساب .. ثم من أين يأتي العزاء ، إذا كانت الضحية تشرح مأساتها بأسلوب المستضعفين ، وأمّا الجلاد فانه يتحدث عن نفسه باسلوب الشهداء ؟!..


يوما ، كنا نخبئ أشواقنا تحت البلاطات ، وندسها في سلال الورد ، وأكاليل الغار .. ويوما ، كان العراقيون يحيطون درعا من الفولاذ بواحد من أجمل الأوطان وأحلاها وأغلاها .. ثم أصبحت المسافات ، والمساحات بينهم بعيدة .


والعراقي صبور حد الشعور باليأس ، والإحباط ، يغص بلقمة تبدو يابسة ومرة من شدة الفقر ، والعسر ، والعوز ، وتأنيب الذات ، لكنه لا يمل الانتظار ، فتظل عيناه ترقب باللهفة ، والحسرة بابا قد يطرقه حبيب يأتي ، أو غائب ربما يعود .


يأتي رمضان .. والعراقي ما يزال مرتحلا بعمره ، مبثوثا في الريح ، تائها في السراب ، شاردا في التيه والعذاب ، حاملا قلبه على كفيه ، وحاملا وطنه في حقيبة اليد ، وبطاقات السياحة ، وطوابع البريد ، والمطارات ، ووكالات غوث اللاجئين .. يعرف من أين ، ولا يعرف إلى أين .. ؟ ، فأين يمضي وكل المنافي ضاعت من يديه .. وأين يمضي ولا بيت يأوي إليه ؟!.


حسن ، سيشترع العراقيون في رمضان مواسم جديدة ، ويجمعون نثارات صور ممزقة ، علهم يفرحون .. وسيتهجدون حتى مطلع الفجر .. رمضان مبارك .

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

السبت  / ٠٨ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٩ / أب / ٢٠٠٩ م