أشهر غلطة في التأريخ

 
 

شبكة المنصور

رباح آل جعفر

هذه الأيام أقرأ بكثير من التأمل ، وقليل من الصبر ، في كتاب يحمل عنوان : ( وفاة الحياء في أميركا ) لمؤلفه ( ويليام بنيت ) ، الذي كان وزيرا للتعليم في إدارة الرئيس ( ريغان ) وبالتالي ، فهو رجل من داخل المؤسسة الأميركية ، وليس من خارجها .


و( ويليام بنيت ) يريد أن يقول في كتابه ، إن تصرفات الرئيس الأميركي السابق ( بل كلينتون ) طوال فترة فضيحة علاقته بـ ( مونيكا لوينسكي ) أدت إلى ( وفاة ) قيمة ( الحياء ) في المجتمع الأميركي .. ومن هنا ، فان ( بنيت ) يتهم الرئيس الأميركي بـ ( قتل الحياء ) عمدا ، وليس بالتسبب في ( وفاته ) بالخطأ !!.


تصوروا القصة المهزلة إلى أخرها ، عندما يتوجه ( بنيت ) في كتابه متسائلا باستغراب : من كان يصدق أن محطات التلفزيون الأميركية كانت تعرض أشرطة أحاديث رئيس الولايات المتحدة وتطالب مشاهديها بالتحوط ، خصوصا على أطفالهم تحت سن الخامسة عشرة ، مما سوف يقوله ( رئيس الولايات المتحدة ) ، مثل ذلك كان أقرب إلى الخيال ، عندما كان ( الحياء ) مازال ( حيا ) في المجتمع الأميركي !!.


عن أي حياء يتحدث ( بنيت ) ، وعن أي أخلاق ؟ .. وفقدان هذا الحياء في أميركا ليس جديدا ، ولا غريبا ، ولعل هذا الكتاب أعاد إلى ذاكرتي ما كنت قرأت يوما للكاتبة الأميركية ( راشيل كارسون ) وهي تروي لنا في كتابها ( الربيع الصامت ) ، أعجب رحلة للموت في أقسى معركة عرفتها الإنسانية .. في حين كان الكاتب الانكليزي ( جورج مكش ) ، يتمنى أن يموت بعيدا عن الولايات المتحدة ، لأنه يكره الموت على الطريقة الأميركية !.


طبعا نحن في العراق لم نذق طعم الموت على الطريقة الأميركية ، ولم نكن نعرفه حتى بدأوا يزرعون نيران دباباتهم في أحشائنا ، ويحرثون بطائراتهم أكبادنا ، ورصاصات قناصتهم تحصد رؤوسنا .. ويعدون الجنازة القادمة أن تكون أكثر حظا من الجنازة الأولى ، ولعل فلسفة الوجود كما يفهمها الأميركي ( أنا أحارب إذن أنا موجود ) تحتاج دائما إلى ممارسة مستمرة ، والى برهان جديد .. أما حين تصرخ من الظلم والوجع والألم ، فإنهم يتهمونك بالإرهاب .


ولم يحدث في التاريخ أن استطاع إنسان بمعلومات خاطئة في الجغرافية ، أن يكتشف عالما بالمصادفة ، ثم يكتشف أن تلك المصادفة كانت أكثر وأشهر غلطة في التاريخ ، إلا عندما ذهب كريستوفر كولومبس في نهايات القرن الخامس عشر ليبحث عن الهند والصين ، فاصطدم بأميركا ، ومات ، من دون أن يعرف كيف ، ولماذا اكتشف أميركا ؟!.


ولو أن كولومبس ما يزال على قيد الحياة ، ورأى كيف تتحول الشعوب الصغيرة إلى ( ساحات تجارب نووية ) لا يحميها قانون ، ولا تشملها رحمة من أولئك الذين جبلوا على الشر ، وفضائح وجرائم هي الأشد عنفا ودونية وسيال الدم المسفوح ، لاكتشف بنفسه حجم خطئه وعاد من ذات الطريق الذي اكتشفه إلى اسبانيا لمحاكمته والاعتذار من العالم ، بما جلب له من كوارث ورزايا وحروب ومصائب .


لقد كنا نظن أن شخصية ( الشريف ) التي كنا نراها في الأفلام الأميركية ، شخصية شريفة حقا ، حتى عاصرنا الاحتلال الأميركي في العراق ، ورأيناه كيف يبتلع كل جسم يتحرك أمامه ، من دون أن يكون جائعا ، ويغتال الشرائع كلها ، ابتداء من شريعة حمورابي و ( الماغنا كارتا ) حتى شريعة حقوق الإنسان .. فأدركنا أن ( الشريف ) ، الذي كان يحمل مسدسين في حزامه من نوع ( الباربللو ) ، وحبلا طويلا يشنق به الأشقياء والمطلوبين للعدالة، لم يكن أشرف من الأشقياء الذين يطاردهم .


وحين سيجري إحصاء دقيق لضحايا الاحتلال الأميركي في العراق ، فسوف يتبين أنهم كانوا بالملايين ، وأن كثيرا منهم ماتوا بسرطانات الأسلحة القذرة ، أو قتلوا في جرائم لا مثيل لساديتها ، وأنهم دفنوا في قبور مفتوحة ، والأصح أنهم دفنوا بلا قبور ، حتى صار الموت صديقا لهم وجزءا من عاداتهم اليومية .


ولم يكن سهلا علينا أن ننزف من أجسادنا كل هذه الدماء ، أو نضحي بكل تلك القرابين من الشهداء ، الذين إن كنا لم نفجع بموتهم حد الجزع ، فلأننا صابرون محتسبون مؤمنون بأن الموت حق ، وقمة الأماني عند كل رجل حق هو أن يذهب لملاقاة ربه رجلا كبيرا ، وشهيدا عزيزا .. وحتى يبدو لمن يؤرخ هذه الحقبة من الأيام ، وما يتلوها ، انه لا يقدر إلا أن يتحدث عن الفواجع والمحن واللحظات الصعبة ، وسيكتشف بعدئذ إن للمحنة رحما هو الذي يلد أولاد الضحايا وأحفادهم .

 
 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الجمعة  / ١٤ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٤ / أيلول / ٢٠٠٩ م