كوميديا الانتخابات في عراق العجائب

 
 
 

شبكة المنصور

محمد العماري
بالرغم من أن العراق بلدٌ صغيرٌ ومن بلدان العالم الثالث وواقع تحت إحتلال عسكري همجي أحدث خللا جوهريا في أدقّ تفاصيل حياته وزرعَ بذورالفرقة والاحتراب والعداء بين أبناء شعبه بعد أن كان, حتى عام إحتلاله المشؤوم, بلدا آمنا موحّدا ومنسجما مع نفسه ومع العالم أجمع باستثناء قلّة شريرة وطامعة ومتجبّرة من الدول, وبالرغم من أن العراق الجديد لم يحقّق, بعد أكثر من ست سنوات على تحريره المزعوم, أي تقدم يُذكر لا على الصعيد السسياسي ولا الأمني ولا الاقتصادي ولا الخدمي, الاّ أنه تفوّق على سواه من الدول, بما فيها الدول العظمى, وضرب رقما قياسيا بعدد الكتل والكيانات والأحزاب"السياسية" التي تمّ تسجيلها والمصادقة عليها لخوض الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في بداية عام 2010.


ولا يبدو إن الأمر سينتهي هنا, فما زالت اللهفة والشبق والأنانية المفرطة تدفع بالكثير من الساسة النكرات الى تكوين أحزاب وكتل وتجمعات جديدة, وعقد تحالفات مع أي منبوذ أو عديم الأخلاق من أجل اللحاق بالركب"الديمقراطي" الزاحف نحو برلمان بغداد المحتلّة بغية إستغلال فرصة الانتخابات الذهبية, فرصة العمر بالنسبة لهم, للحصول على المزيد من المكاسب المشبوهة والثراء اللاشرعي, وايجاد موطيء قدم تحت شمس الاحتلال الغاربة. وبناءا على الأأخبار الواردة من الحضيرة الخضراء, التي تضمّ مقرات الحكومة والوزارات والبرلمان وسفارات المحتلّين, يتّضح أن القوم هناك على عجلة من أمرهم وكأنهم أدركوا تماما حقيقة وجودهم الزائل, مهما طال الزمن, بزوال الاحتلال ومخلّفاته.


ومن يطّلع على القائمة المفزعة الطول لأسماء ألأحزاب والكيانات والتجمعات والتنظيمات, التي زرعها ورعاها الاحتلال الأمريكي وشريكه الايراني, يُصاب بالرعب من هول الديمقراطية التي إبتلى بها العراق وشعبه دون سواهم من البشر. فلم يحصل في أية دولة, حسب معلوماتي المتواضعة, أن عدد الأحزاب المشاركة في انتخابات برلمانية, رغم كون غالبية هذه الأحزاب لا وجود لها الاّ على الورق, قد وصل الى حدود 287 باسماء وصفات ورموز ما أنزل الله بها من سلطان.


ولا يخفى على أحد إن جميع هذه الأحزاب تستخدم نفس اللغة المليئة بالنفاق والزيف والتضليل, وتتوجّه تقريبا لنفس الناخب المُصاب بالسأم والغثيان وفقدان الأمل من جميع ساسة عراق اليوم. بل إن المواطن العراقي, الذي عاش مع هؤلاء أكثر التجارب صعوبة ومرارة, لا يجد في هذه الأحزاب ومن يمثّلها ويقودها الاّ قطيعا من البهائم المستنسخة في مراعي ومختبرات المنطقة الخضراء. وليس ثمة أمل, بعد أن أصبح الأمل بحدّ ذاته في العراق المحتلّ نوعا من الترف والكماليات, من أن تأتي هذه الأحزاب الكيانات والكتل الكارتونية بالخير أو تفكّر, ولو تفكيرا بسيطا, بهموم ومشاكل الشعب العراقي اليومية.


ومن المؤكد إن المواطن العراقي, الذي سيُرغم بهذا الشكل او ذاك على المشاركة في مسرحية الانتخابات القادمة, سوف يجد نفسه ضائعا وسط غابة مظلمة من الأحزاب والكتل والكيانات"السياسية" التي لا تختلف عن بعضها البعض الاّ بدرجة الانحطاط والسقوط الاخلاقي والتبعية لأمريكا أو لإيران أو للكيان الصهيوني, أو بخبرتها في سلب ونهب ما تبقى للعراقيين من خيرات وثروات وتهريبها الى الخارج. فليس من المعقول, لأنه لم يحصل في أية دولة وفي أي زمان, إن 287 كيانا وتنظيما وحزبا تشارك في إنتخابات برلمانية في وطن محتلّ بالكامل, هدفها الأول هو فقط مصلحة الشعب العراقي وتحسين ظروفه المعيشية وتحقيق طموحاته وتطلّعاته بحياة حرّة كريمة !


إن كثرة هذه الأحزاب والكيانات والكتل, خصوصا وأن القائمين عليها والداعمين لها والواقفين خلفها معروفون جيدا للشعب العراقي, لا يدلّ الاّ على سوء نوايا وغايات مَن يُسمّون أنفسهم بقادة العراق الجديد. فقد أثبتت سنوات الاحتلال والحكومات العميلة الناتجة عنه والمسيّرة من قبله, إن العراق ينقصه كلّ شيء, السيادة و الأمان والاستقرار والكرامة وإستقلال القرار السياسي والخدمات بمختلف أنواعها, الآّ الأحزاب والتنظيمات والكتل السياسية. فهي تتوالد وتتكاثر كالأرانب, خصوصا قبل موعد الانتخابات, دون أن يكون لوجودها وظهورها المفاجيء أي تأثير ملموس غير إغراق العراقيين في مزيد من الفوضى والضياع وفقدان الأمل.


وبغض النظر عما ستؤول اليه الانتخابات البرلمانية القادمة من نتائج, قد تكون معروفة سلفا, أو إدّعاء البعض بانها, أي الانتخابات, تختلف كثيرا عن سابقاتها, ويعتبرها البعض الآخر مهمّة جدا للشعب العراقي ومصيرية لهذا الحزب أو ذاك التنظيم, الاّ أنها ستبقى في كلّ الأحوال فصلا مسرحيا متقن الأخراج والتنفيذ من قبل الشركاء في ما يُسمى بالعملية السياسية وأسيادهم الأمريكان المحتلّين, الذين يبحثون عن هروب مشرّف من جحيم العراق بعد أن فقدوا كلّ أمل لهم في إخضاع الشعب العراقي والسيطرة عليه.


ولا شكّ إن وجود هذا الكم الهائل من الكتل والكيانات والتجمعات واللافتات والرموز والوجوه المقنّعة والمكشوفة يعطي إنطباعا واحدا هو إن ساسة المنطقة الخضراء وبدعم من قوات الاحتلال, شدّوا العزم وتعاهدوا, قبل أن يكتسحهم طوفان المقاومة العراقية الباسلة, على تفكيك العراق الموحّد وتحويله الى كيانات ومناطق نفوذ عشائرية وعائلية وطائفية, باسم ديمقراطية زائفة ومشوّهة, وتفتيت نسيجه الاجتماعي والثقافي ونشرأسباب ومقومات الفتنة والشقاق والخصومات فيه ممّا يؤدي, لا سامح الله, الى حروب ونزاعات لا نهاية لها بين أبناء الشعب الواحد.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الأربعاء / ٢٦ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٦ / أيلول / ٢٠٠٩ م