اليهود قوة ظهرت في زمن الفوضى صفحات من تاريخ منسي

﴿ الجزء الاول

 
 

شبكة المنصور

أ.د. عبد الكاظم العبودي

عرف عن اليهود في فلسطين تاريخيا انهم كانوا عنصرا طارئا،. انحدروا الى فلسطين من بقايا عائلة "يعقوب" التي لم تتجاوز 70 شخصا، انحدرت عن النبي ابراهيم عليه السلام، قبل بضعة عقود من ذلك الوقت، بعد ان هاجرت الى مصر عام 1650 ق.م. من غير ان تترك اثرا ذا اهمية حضارية في منطقة سكناهم لاحقا بفلسطين. ولم يحققوا خلالها نصرا عسكريا يذكر الا ماأُنجز في فترات الفوضى.


والمسلم به أيضا ان اليهود الخارجين من مصر عاشوا في صحراء سيناء والتيه أزيد من جيل من الزمن وهم في عزلة عن العالم والمدنية. وصل بهم الأمر أنهم لبسوا جلودا حيوانية بعد ان تقادمت ثيابهم. وقرابة عقدين تناوب على حكمهم قضاة كان آخرهم صموئيل الذي رأى ان الضرورة تستدعي تنصيب ملكا عليهم، فتم اختيار "شاؤول بن تيس".
تلك الفترة عرفت بعصر الفوضى؛ وخاصة ما بين (1200-1000 ق.م.) عندما ظهر اليهود في ارض كنعان لاول مرة يقودهم خلفاء موسى على شكل قبائل بدوية متنقلة عقب الوفاة الغامضة لموسى، وبعد دخول بني اسرائيل ارض كنعان كانت اول مواجهة لهم مع الفلسطينيين، حينها فشل يوشع خليفة موسى، وكذلك يهوذا الذي تزعم قومه فيما بعد، لتحقيق أي نجاح يُذكر ضد اؤلئك المقاتلين الفلسطينيين الشرسين على ارض كنعان.


يصف مؤلفوا أسفار العهد القديم واحدة من المعارك التي دارت بين الطرفين، بأنها خيبة ومرارة؛ حيث هزم اليهود خلال المعركة مخلفين 30 ألف جثة تفترش ارض المعركة، ومن بين القتلى الكاهنان الكبيران " فنحاس " و " حبقي" وصار تابوت العهد غنيمة بيد الفلسطينيين ضمن كميات كبيرة من الأسلاب والغنائم. كان وقع ذلك شديدا على قائدهم المدعو " عالي" الذي كان يقود قواته من المؤخرة، وتسببت الهزيمة في موته المفاجئ.


ظل ذلك الخوف عند اليهود من الفلسطينيين يدفعهم الى المطالبة بتنصيب ملك عليهم يقودهم ويخطط لمعاركهم كما يفعل الملوك فتم تنصيب شاؤول أول ملك عليهم، ولكنه سرعان ما انتحر عقب فشله في إدارة احدى المعارك مع الفلسطينيين التي قتل فيها ثلاثة من اولاده فانهزم جيشه أمام الفلسطينيين.


حظر الفلسطينيون على اليهود نقل تقانة وانتاج الحديد وتعدينه، ومنعوهم من تعلم الحدادة وصناعة الاسلحة كالسيوف والرماح، كما فرضوا عليهم الضرائب؛ كان اليهود يلجأون الى الحدادين الفلسطينين لشحذ سكاكين مطابخهم وبعض من أدوات الحرث، وكانت تلك السكاكين ضمن تجهيزات معدنية أخرى قليلة سُمح لليهود بحيازتها إستمرارا لأعمال الزراعة عندهم ، ليضمنوا استمرار تدفق ودفع الضرائب حتى ان البعض من المؤرخين سجل ان الملك شاؤول وإبنه يوناثان كانا الوحيدين اللذين يملكان أسلحة. أما بقية جيشهم فلم ير فيه من تسلح بسيف أو رمح.


عقد شاؤول صلحا مع الأموريين، لاجل التفرغ لمقاتلة الفلسطينيين؛ غير ان هزيمته في معركة الجلبوع التي قتل فيها ابناؤه حملته على الانتحار ليخلفه داود عام 1010 ق.م.، اين مكث في عاصمته حبرون "الخليل" الحالية طيلة 15 سنة بهدف التوفيق بين زعماء القبائل اليهودية المتصارعة، وخاصة بين قبيلتي يهوذا وقبيلة بنيامين حتى تمت المصالحة بينهما عام 997 ق.م . حينها تفرغ داود لبناء دولته مستفيدا من ضعف ساد صفوف الفلسطينيين الذين تصارعوا فيما بينهم، وبانشغال الكنعانيون بالتجارة، وتراجع قوة الاشوريين، بتولي أمرهم سلسلة من الملوك الضعفاء، حتى جاء الملك (ادد نيراري الثاني عام 911 ق.م.)، حينها قطع الكيان اليهودي شوطا بعيدا في تكوين القوة لنفسه في ظروف غياب القوى الفاعلة في الأقليم الشامي، بعدها انقسم الى كيانين سادت بينهما الشحناء والبغضاء.


وبعد أن نجح داود بتفحص أسوار أورشليم تمكن من احتلالها بالتصادم أولا مع حاميتها دون أن يحسم بها نصرا، ثم حاصرها لفترة طويلة بعد ان اكتشف اليهود اسرار الانفاق داخل حصن اليبوسيين. وما ان حل عام 941 ق.م حتى كانت مملكة داود قد احتلت مساحات شاسعة من ارض الشام ومنها مدن دمشق وحماة فعل فيها اليهود من الجرائم والابادة ما جعلهم يسبون فيها المدن المتتالية. بعد موت داود خلفه ابنه سليمان الذي بدا عصره دمويا فثارت دمشق وتحررت الامارات والممالك الارامية وتحررت المدن من السيطرة اليهودية.


التآمر والدس السياسي الذي تزعمه اليهود الطارئون على مسرح بلاد الشام ضد الاشوريين والبابليين والكيانات المجاورة لهم، وجد وسطا ملائما للانتشار رغم الكراهية العميقة التي يضمرها السكان الاصليون لهؤلاء الطارئين. وهذا التآمر الانتقامي لا يصب في مصلحة الجيوش الاشورية والبابلية عندما كانت تحاول السيطرة على الشام، ووجودهم شكل حاجزا للوصول الى مصر. كان هذا الاهتمام الاشوري من اجل تحقيق الامن والاستقرار في بلاد الشام قد سبق بروز الكيان السياسي اليهودي وتعاظم ذلك الاهتمام لبابل في زمن الكلدانيين باعتبارهم ورثة المجد الحضاري العراقي خاصة في زمن نبوخذ نصر(604-663 ق.م.) . وعندما إزدهرت العلاقات التجارية التي كانت تنقل الى بابل ومنها غلات نصف العالم القديم. في غفلة من الزمن، وفي حقبة ضعف آشورية، وتواطؤ آرامي- كنعاني مشوب بالخوف، ظهر داود قائدا لجنوده في انحاء متفرقة من بلاد الشام لفترة مؤقتة. ولكن الحال تغير بظهور نبوخذ نصر الذي كان شديدا وعنيفا مع المغامرين الذين يتحرشون بتجار بابل وبالتجار الفينيقيين الذين يخدمون نهضة بابل. ولم يتساهل مع حكام الكيانات الذين حاولوا فرض إتاوات أو ضرائب على مرور قوافل هؤلاء التجار. كان تجار صور وصيدا و ارواد مخولين بالانتفاع من الحماية البابلية وكانت جهودهم التجارية تخدم الاقتصاد البابلي ويدفعون الضرائب ثمنا لتلك الواجبات.

 

وبسبب مخاطر التجارة البابلية مع الهند خلال المرور عبر ايران، فكر التجار عن طريق آخر لاستمرار نقل بضائع الهند عبر البحر بعبور بحر العرب نحو اليمن وحضرموت ومن خلال سواحل البحر الاحمر الى العقبة فسوريا والعراق. هذا الاهتمام البحري لطريق التجارة حمل الفينيقيين بشتى الطرق لحصر التجارة الفينيقية للمرور عبر فلسطين. كطما هدف تخطيط داود ايضا الى احتكار التجارة وطرقها من خلال الخطوط البحرية عبر العقبة للقضاء على كل امل تجاري لبلاد الرافدين، لذا كان داود يأمل مساعدة الفينيقيين لتحقيق اهدافه؛ كما يقول لودفيغ، (... لأن اليهود كانوا يجهلون الملاحة، وهم لم يصيروا قط امة بحرية، كما لم يصر أحفادهم في الثلاث الاف سنة التي اتت بعدئذ.). مقابل ذلك أدرك سرجون الاكدي وحمورابي الذي جاء بعده بقرون مبكرا ما للسيطرة على الطرق وفرض النفوذ على كيانات بعيدة لضمان ولاءاتها لهم من اهمية لبناء امبراطوريتهم. وفي زمن الدولة الاشورية صار الاهتمام العسكري واللوجستي بعمق المسرح الشامي مهما وبدت مخاطر ظهور داود واستيلائه على عاصمة اليبوسيين "اور سليم" وتنسيقه مع الفينيقيين ليكون متحكما ومراقبا لخطوط التجارة عبر فلسطين وبمحاولته انشاء ميناء واسطول تجاري في رأس خليج العقبة بات ذلك بمثابة نذر حصار على الاشوريين ونفوذهم.


لم يظهر اليهود أي تحالف مع ملوك اشور وبابل؛ خاصة عندما اجتاحت جيوش اسرحدون حواضر مصر ونصب هناك حكاما وملوكا، وكذلك فعل ابنه اشور بانيبال، بينما قرع نبوخذ نصر ابواب مصر بعنف مرتين. لكن التخطيط التآمري بين اليهود والفراعنة المصريين قطع شوطا، منها دعم الفراعنة (ساركو الثاني 860-732 ق.م) تحالف بين ملكي السامرة ودمشق ضد الدولة الاشورية. وكانت النتيجة قيام شلمنصر الثالث بمهاجمتهم في معركة القرقار(835 ق.م) والحاق الهزيمة بهم.


وتكررت الهزيمة ايضا حينما تآمر "هوشع" ملك السامرة مع سباكو فرعون مصر بخروج هوشع عن طاعة الآشوريين فهاجمه شلمنصر الخامس والقى القبض عليه ورحل سكان عاصمته السامرة عقب حصار استمر لثلاث سنوات. لم يجد الفرعون في نفسه الجرأة خلالها على تقديم أي عون لحليفه واكتفى بالدعاء لليهود بالنصر او الفرج.


وسواء تم فتح السامرة في زمن شلمنصر او زمن خليفته سرجون فقد كان الهدف الاشوري الذي خطط له شلمنصر هو انهاء ذلك الكيان اليهودي المتآمر الذي كان يحكمه ملك سبق أن نصبه الاشوريون، لكنه نكث عهده وعاد فتآمر عليهم. وقد تحققت عملية إعادة الحاق ذلك الكيان اليهودي، وصارت مملكة السامرة مقاطعة تابعة تحكم من قبل العاصمة الاشورية مباشرة، بعد ان جرى ترحيل العناصر التآمرية المثيرة للشغب الى انحاء أخرى من الامبراطورية والاتيان بعناصر بديلة من اقوام مختلفة للحلول محلهم.


لقد تمت عمليات ترحيل واسعة وخاصة في زمن سرجون حيث ترك وثيقة تقول: (... لقد جلبت 27290 من اهالي السامرة ومعهم حمولتهم واملاكهم كغنائم وشكلت 50 عربة للحرس الملكي).


ناصب اليهود الاشوريين العداء لان النهوض الاشوري الاقوى، كان متزامنا مع بداية تشكيل الكيان السياسي في فلسطين في مطلع الالف الاول قبل الميلاد. وقد حجم الاشوريون تطلعات اليهود وحدوا من قدرتهم على التوسع والانفلات الاقليمي.


عموما ظل الكيان اليهودي في الشام قزما، وولد ضعيفا ولم يتمكن من التمدد على حساب الفراعنة او الاشوريين. وفي خيارين احلاهما مر ظل ذلك الكيان رهينة النفوذ المصري وكحاجز سياسي اريد له صد اخطار الاشوريين والبابليين من الوصول الى مصر الفراعنة.


وقد رأى المصريون في مملكة يهوذا الدمية الطيعة لازعاج الاشوريين يحركونهم بين الفينة والاخرى، مما حدا بسنحاريب ان يفرض حصارا قاتلا على تلك الدولة اليهودية، هادفا الى اقتلاعها نهائيا، لكنه اكتفى وقنع أخيرا بتذلل ملكهم وخضوعه وتقديمه الجزية تضمنت في حالات منها ارسال بنات الملك اليهودي وبنات وزرائه ليصبحن محضيات في غرف نوم الملك الاشوري.


وعندما حاول، يهوياكيم ملك يهوذا، التقرب الى الفرعون "نيخو" وتمرد على بابل تزلفا للفرعون هاجمه نبوخذ نصر وقتله ونصب مكانه صدقيا في وقت كان فيه الفرعون في عاصمته مشغولا بوضع خطط دفاعية ضد هجوم نبوخذ نصر المرتقب.


انجرف " صدقيا" الذي من عليه نبوخذ نصر وعينه ملكا على يهوذا (597-586 ق.م. ) وراء دعوات اللولب اليهودي لمصر وضغوطه للتحالف مع مصر فكان ذلك سببا في تقويض نبوخذ نصر للكيان اليهودي وقتل ملكه وتنفيذ الاسر البابلي المعروف ومسح كل أثر لهم في القدس.


وهكذا نجد في كثير من محاولات مصر في بلاد الشام تجنيد العملاء من اليهود المنتشرين في ممالك اخرى ارامية وفينيقية يدفعون نحو التمرد والعصيان ضد بابل لاشغالها. حتى ان اميل مردوخ خليفة نبوخذ نصر عندما حاول مد جسور التفاهم مع الفراعنة فانه اطلق سراح يهوياكيم الملك اليهودي من الاسر في بابل منذ ايام حكم ابيه وعامله وكأنه من رعايا فرعون مصر.

 
 
المراجع والاحالات:
حسن عبيد عيسى، التآمر اليهودي على بلاد الرافدين حتى سقوط بابل عام 539 ق.م.، بيت الحكمة، بغداد، 2002.
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الخميس  / ١٣ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٣ / أيلول / ٢٠٠٩ م