الحقائق العلمية تهدم الهيكل الثالث قبل بنائه

 
 

شبكة المنصور

ا.د. عبد الكاظم العبودي

التلمود عبارة  عن مجموعة نصوص التقاليد والتعاليم الشفاهية التي القاها موسى النبي على أتباعه، أثناء تدوين التوراة ، فتلقاها الخلف عن السلف بالحفظ الى ان دونها "ربي يهوذا ها ناسي" حوالي 200م. ومن جاء بعده. وقد اصطلح الاسرائيليون على تسمية أسفار موسى الخمسة باسم التوراة المكتوبة، وتسمية التلمود باسم التوراة الشفاهية او المنقولة التي نقلها يهود اسرى من بابل.

 

والتوراة لفظة مجردة من كل قيد للدلالة على العلم؛ لأن التلمود يحتوي ليس فقط على العبادات ؛ بل القوانين المدنية والسياسية والحربية، وعلى كل ما كان يعرفه الائمة من العلوم الفلسفية والطبيعية والطبية والصحية والفلكية فهو إذاً مجموع معارف وعلوم أبناء تلك الازمان.

 

هناك شبه اجماع ان المكان الذي عاش به النبي موسى عليه السلام، وغيره من أنبياء بني اسرائيل، وكذلك الزمان، لم يكن لا مصر ولا شبه جزيرة سيناء ولا فلسطين تحديدا، وكذلك ليس هو شبه جزيرة العرب. كما ان الزمان الذي اعطي لتأريخ موسى، هو القرن الثالث عشر قبل الميلاد، تدور حوله شكوك كثيرة. ويرفض العديد من الباحثين حكايات أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس، ومنها قضية الهيكل، لذا لجأوا الى البحث ودراسة الآثار والتنقيب.

 

 صحيح ان اعمال السبر الأثري في القدس وفلسطين مضى عليها حتى الآن أكثر من قرنين، وجلها تولاه رجال لاهوت استهدفوا البرهنة على صحة حكايات التوراة، وليس الغاية الكشف عن الحقيقة التاريخية. لكن كشوفات العقدين الاخيرين دللت عنها الاكتشافات الاثرية المهمة في سورية ومصر والعراق وآسية الصغرى وأظهرت مسارات أخرى للبحث التاريخي ومنها وثائق البحر الميت.

 

اليهود لم يقدموا تفسيرا مقنعا عن أصل تسميتهم يهودا حتى الآن. ورغم الاشارة الى تنصيب ملكهم الاول شاؤول عام 1025 ق.م واعقبه داود 1010ق.م. الذي استولى على حصن "يبوس" "اور سليم" فان الحصن قبل غزو داود له كان شاهدا على قيام حضارة كنعانية متطورة في الوقت الذي كان هؤلاء القوم قبل تسميتهم  قبائلا رحلا. وكان وصول قنوات الماء الى حصن " يبوس" في القدس قد سبقهم بألفي سنة.  ولم يسجل لهم التاريخ بناء مدن او حصون او الاستقرار في عاصمة محددة لهم  الا في زمن ملكهم السادس "عمري" عام 925 ق.م. عندما استولى على السامرة التي سقطت من يدهم على يد الاشوريين عام 722 ق.م.

 

تنتحل الكتابات اليهودية زورا تأسيس وبناء المدن وتنسيبها للعبقرية اليهودية، فحتى تدمر قالوا عنها انها مدينة يهودية بناها سليمان(962-922 ق.م.) ؛ في حين ورد اسم تدمر في الكتابات الآشورية منذ 1800 ق.م، وكذلك الجنائن المعلقة في بابل لم تسلم من محاولة انتساب بنائها لهم وعلى أيديهم.  وعندما افتخرت مدن العالم القديم ببواباتها وحصونها المنيعة،  لجأ اليهود الى ملك صور خاطبين وده لبناء " الهيكل" لهم في مدينة سالم " اور سليم". وكانت المواد والخبرة والايدي العاملة كلها أجنبية ومن خارج محيطهم.

 

كان شكل الهيكل ملفقا ومكونا من تحصيل وجمع انجازات لحضارات اشورية وبابلية ومصرية كانت معروفة. وعندما قوضه البابليون، فقد ضاع تماما، ولم يترك منه اثر على ظهر البسيطة. سحب نبوخذ نصر معه 40 الف اسيرا يتقدمهم ملكهم صدقيا  وهو مسمول العينين، مُسلما السلطة في "اورسليم" الى "جداليا" الحاكم اليهودي المُنصب من قبل نبوخذ نصر ملك بابل. وبعد سقوط بابل 539 ق.م. على يد كورش والإخمينيين، أرسل اليهود الساكنين في بابل رسلهم لرؤية بقايا الهيكل بعد 60 سنة من هدمه، فلم يجدوا له أثرا في القدس.

 

خلقت الكتابات اليهودية عن الهيكل وبنائه أساطيرا وهمية مُبالغ فيها. وحاولت تلكالكتابات الإيحاء بوجود الهيكل رغم هدمه، لذا بحثت البعثات الأثرية الصهيونية عنه، ونقبت هناك قرابة قرنين فلم تجد له  اثرا. وكل ما وجدوه هناك هي آثار لليبوسيين والكنعانيين والعرب، من بنايات وقنوات مياه تخترق اساسات الحصن  التي ظلت قائمة هناك قبل قدوم اليهود اليها بألفي سنة.

 

واذا كان اليهود يتمسكون بالتوراة والتلمود، فالتلمود كان  نتاج معايشتهم وإقامتهم في بابل بعد الاسر البابلي قرابة 50 سنة. كفل البابليون للمُرحلين منهم على يد الملك نبوخذ نصر الحياة الاجتماعية  والتوظيف والعمل بكرامة بين سكان بابل رغم أنهم كانوا في عداد الأسرى والمُرحلين. عملوا في حقول الترجمة والخدمة في القصور الملكية، وبوظائف ذات صلة بالزراعة والصيرفة والتجارة والاقتصاد البابلي. ومع هذا كله فلم يتركوا في بابل أدبا او ثقافة او علوما خاصة بهم. ولكنهم ظلوا ينتظرون الفرصة المؤاتية لهم لينتقموا حتى حانت لحظة سقوط بابل غدرا بالتنسيق والتجسس لصالح الإخمينيين وقورش المُنتظَر لخلاصهم من الاسر البابلي.

 

يشير الباحثون عن وجود تلمودين، أحدهما المعروف بـ "الاورشليمي" وهو الأقصر، وقد نقل الى اللغات الاوربية، والثاني هو التلمود الكبير المعروف بـ "البابلي" الذي يحتوي على ما ينوف الثلاثين مجلدا.

 

ومن الاكتشافات الجديدة ما تعلق بتاريخ تدوين أسفار العهد القديم، ثم ظهور مصطلح اليهود واليهودية، فقد بات من الثابت الآن إن أول من قام بأعمال التدوين هذه، هو واحد من موظفي البلاط الفارسي الإخميني، في المائة الرابعة قبل الميلاد تقريبا، وكان اسم هذا الموظف عزرا الكاتب، الذي لم يكن من أصل بابلي، وقد أُرسل عزرا الى القدس ليتعاون مع أفراد الحامية العسكرية الإخمينية المرابطة هناك. المعروف أن الامبراطورية الإخمينية قد تأسست من قبل قورش الفارسي الذي وحد ايران مع بلاد ميديا واستولى على بابل سنة 539 ق.م. بتعاون ورصد اليهود القاطنين فيها لوضع حراسة الأسوار وقنوات المياه فيها.  بعدها ضم الإخمينيون بلاد الشام ومصر وأجزاء من الجزيرة العربية وأذربيجان وأرمينية وآسيا الصغرى، وحتى ذلك الوقت كانت تلك المناطق لازالت خاضعة للتأثيرات الثقافية والحضارية البابلية، ومنها اعتماد اللغة الآرامية على نطاق واسع. وفي اللغة الآرامية كتب عزرا الكاتب أول أسفار العهد القديم، وعزاها الى النبي موسى. ويُرجح أن عزرا استغل محفوظات البلاط الإخميني، وتراث المنطقة البابلي التي تأصل منها عند كتابة أول أسفار العهد القديم.

 

يُنسب الاستاذ الدكتور سهيل زكار في تقديمه لكتاب " التلمود  اصله وتسلسله وآدابه" الى أن الاخمينيين أسكنوا حول القدس حامية عسكرية لهم، لم يتجاوز عددها اثني عشر الف انسان، وإن أفراد تلك الحامية عبدت الها لها  أسمته "يهوة" وهو الإله الذي آمن به عزرا الكاتب، لكن مع وجود مؤثرات زرادشتية واضحة، وكانت الزرادشتية ديانة الإمبراطورية الإخمينية وهي تنتمي الى مؤسسها زرادشت الذي ظهر في القرن السابع قبل الميلاد.

 

ان علامات الزرادشتية ظلت واضحة في اليهودية حتى ما بعد سنة سبعين قبل الميلاد، كما تبرهن على ذلك مخطوطات البحر الميت. كما برهنت الحفريات ان القدس في القرن الرابع قبل الميلاد كانت بلدة متواضعة كثيرا، ولا يزيد عدد سكانها على ألف وخمسمائة نسمة، وجُلَ المكتشفات الاثرية التي وجدت هناك كانت عبارة عن طبعات الاختام على الاواني الفخارية، صنعت في المقاطعة التي سكنتها تلك الحامية الإخمينية. وان كلمات :[ يه، ويهد، ويهود]،  ماهي الا تجميع او إنفراط  لمفردة "يهوة"؛ لذا يصل الباحثون الى استنتاج هام:  (... ان كلمة يهود أُشتقت من اسم منطقة ادارية لحامية عسكرية إخمينية حول القدس). وهذا بحد ذاته يُبطل الحكايات التي يتقولها اليهود عن انتسابهم المزعوم  لـ  "سبط يهوذا"، وغير ذلك.

 

وهكذا فمن يقرأ سفري عزرا ونحميا بتمعن يشهد ان تلك الحامية الإخمينية  كانت محاصرة في وسط رافض لها ومعاد. ويرى الاستاذ الدكتور سهيل زكار: (..ان قراءة متمعنة لبقية أسفار العهد القديم، خاصة حكايات العلاقات الجنسية، يدرك ان الوسط التي نبعت فيه هذه الحكايات كان مغلقا، مصابا بجميع أمراض الشذوذ).

 

انتهى الحكم الاخميني بعد عام 333 ق.م. على يدي الاسكندر المقدوني، ويرجح ان عددا من زعماء الحامية الإخمينية تركوا منطقة القدس وسكنوا في بلاد بابل وإقليم ميديا، ويبدو ايضا مع إنسحاب فلولهم رافقهم ظهور اليهود في بابل مرة اخرى، ومن اليهود من جاء من مصر، وقدموا الى العراق حيث عاشوا في وسط بابلي حضاري، لم يعرف الاضطهاد والقمع الديني لهم. ومنهم من حافظ على صلات مع الذين بقوا شتاتا في فلسطين. وبتكاثر هؤلاء ظهرت لهم حاضرتهم بقرية اسمها مودين قرب القدس، ويبدو ان بعض سكان فلسطين تحولوا الى اليهودية الزرادشتية كما تشير عدد من المصادر والبحوث.

 

ان تسلسل الاحداث التاريخية بعد سنة 63 ق.م.باستيلاء القائد الروماني بومبي على سورية وإزالته حكم الدولة السلوقية رافقه ظهور دولة الأنباط العربية التي تزامنت مع ظهور حركات دينية إصلاحية بشرت بظهور المسيح المنتظر، ومن ثم صلبه من قبل اليهود. تلتها ايام حكم الامبراطور نيرون الذي قرر القضاء على المسيحيين وعلى مثيري الفتن في فلسطين، فكلف القائد الروماني تيتوس بقمع الاضطرابات في فلسطين. وعندما اعتلى تيتوس عرش الامبراطورية، عهد الى إبنه فسبسيان بهذه المهمة.

 

وخلال عقد انتهى بعام 73 ق.م. فرغ فسبسيان من أعماله العسكرية بهدم القدس تماما، وإفراغ فلسطين من سكانها. ومن المعتقد ان عدد الذين قتلوا في فلسطين في تلك الحملة الرومانية بلغ مليونا وثلاثمائة وخمسين ألفا، وصارت البلاد خالية، ولم يعد في فلسطين من اليهود إلا شرذمة صغيرة هربت الى أطراف مناطق طبرية، وربما كانت هناك شرذمة اخرى مماثلة لاذت في قيسارية فلسطين الحالية، لكن بلاد بابل ظلت مفتوحة للهجرة نحوها من جديد حيث ظلت فيها طائفتها من اليهود، ويعتقد انه التحق بها بعض يهود فلسطين أيضا. فهناك في بابل  توفر لهؤلاء الحياة بأمان ولديهم حاخاماتهم الذين قاموا باعادة النظر بنصوص أسفار العهد القديم، زيادات وشطبا وتهذيبا. واستمرت هذه العملية قرابة عشرة قرون، أعاد هؤلاء تأسيس العقيدة اليهودية بإزالة المؤثرات الزرادشتنية الثنوية منها، وفي هذه اليهودية الجديدة ظل العهد القديم حجر الزاوية، وعرف بعدها باسم التلمود " التعليم".

 

وهكذا بات لدى اليهود نصان للتلمود: الاول بابلي، وهوعمل موسوعي كبير، ضم الشروحات والإضافات يقع في ثلاثين مجلدا، والثاني عُرف بـ  " اورشليمي" . وفي هذه التسمية مغالطة تاريخية، يرى الباحثون والمؤرخون: إن الأصح في تسميته "قيساري". ويبلغ حجم هذا التلمود القيساري ثلث البابلي.

 

والقراءة المتمعنة لكليهما تلفت الانتباه إن الاتصالات بين اليهود القيساريين والبابليين لم تنقطع، وظلت المرجعية بيد اليهود القاطنين في بابل. ورغم ان يهود بابل لم يمتلكوا سلطانا بشكل مباشر أو غير مباشر في بابل، لكنهم جاؤوا اليها مرة اخرى إثر سقوط الدولة الاخمينية التي حلت محلها "دول الطوائف"، وبعدها جاء حكم الاسرة الساسانية التي قضت على دول الطوائف، ويبدو ان شراذم اليهود عاشوا هناك، وخضعوا وتكيفوا مع ألتقلبات السياسية في كل من الشام والعراق وتخلوا عن العودة الى فلسطين حتى جاءت الفتوحات الاسلامية فعاشوا في أمصار المسلمين بكفالة الاسلام وحمايته لأهل الذمة.

 

كل ما دونوه من التلمود، لم يصل الى مستوى الكتاب، فقد دونوه على مدارج، ومن دون تصفيح، وفي غالب الأحيان كان الحاخام يملي مما حفظه أو مما نسبه إلى وحيه الذاتي، وللإملاء الشفوي مخاطر السقط والتصحيف لم يسلم منها التلمود. في عام 200 م. قام حاخام اسمه يهوذا ها  ناسي وعرف باسم " رابي" أو " الأمير" يجمع نسخا كثيرة من نصوص التوراة فيدمجها ويهذبها ويعيد صياغاتها، متجاهلا أسماء الرواة والمعارضين لخطته؛ لذا أخرج مجددا نص "المشنا"، بانتقائية واسعة للروايات التي فيها الكثير من المخادعة والتضليل. وبذلك يكون يهوذا ها ناسي هو الذي تولى تأليف "المشنا"  وتدوينها مثلما كان عزرا الكاتب هو صاحب مشروع التوراة الأول.

 

إن المستعرض للتلمود ومواده يجد فيه خليطا من احكام وطب وتأويل وسحر وتشريع وأساطير. ويلاحظ سيطرة الطابع اليهودي المنغلق والشاذ عليه، فالأشياء التي حُرَمَتْ مثلاً ليس لأسباب مسوغة؛ تتعلق بالصحة والأخلاق، وسلامة المجتمع وأنظمته، وكثير من المحرمات كانت مُحرمة لصلتها بغير اليهود؛ فالربا محرم تطبيقه بين اليهود، لكنه مشروع التطبيق على غير اليهود، وعلى شاكلتها كانت قضايا مثل الزنا والأضاحي بأطفال الآخرين. والموقف العام من جميع شعوب الدنيا في التلمود ظل موقف البغضاء بلا حدود والضغينة الى الحد الأقصى. وخلال العصور الوسطى أمر البابا بإتلافه، ولكنهم أعادوا طباعته في البندقية عام 1520م. ثم تكرر بعدها طبعه وبتحريفه وتلطيف بعض عباراته؛ لكي يتكيف مع موقف ومطالب الكنيسة الكاثوليكية وحكومات اوربا الغربية.

 
 
للمقالة العديد من المراجع والمصادر منها:
- التلمود اصله وتسلسله وآدابه، ترجمه عن العبرانية وشرحه الدكتور شمعون يوسف مويال، قدم له الدكتور سهيل زكار، دار التكوين، دمشق،2005.
- حسن عبيد عيسى، التآمر اليهودي على بلاد الرافدين، بيت الحكمة، بغداد، 2002.
- رشاد عبد الله الشامي، اشكالية الهوية في اسرائيل، عالم المعرفة، الكويت، 1997.
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاربعاء  / ١٢ رمضان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٢ / أيلول / ٢٠٠٩ م