من أدب المقاومة العراقية

يوميات فتاة ليست عانس سبع سنوات من الاحتلال ، سبعمائة عام من العنوسة

﴿ الحلقة الاولى ﴾

 
 

شبكة المنصور

كلشان البياتي - بغداد المحتلة

اسمي ٌُسرى ، ُسرى العانس ، هكذا ينادوني أهل البلدة  ، من يبحث عني ويستفسر من سكان حي اليرموك الشهير في بغداد يحتاج أن يلصق العانس بإسمي لأني صرتُ اشتهر بالعنوسة أكثر من أي شيءٍ آخر . أنا لست عانس ، وتاريخ ميلادي في العاشر من حزيران عام 1980 يمحي عني العنوسية ولا يشير إني عانس بالزمن فالعنوسة في مجتمعنا العربي  تبدأ أحيانا بعد الأربعين من العمر وأنا لم ابلغ هذا الرقم  لكن إحساسي بالعنوسة المبكرة هي التي قادتني إلى العنوسة.

 

وأنا لست عانس بسبب مظهري الخارجي فأنا أجمل فتيات الحي وأكثر فتنة من فتيات الكرادة مريم  وشارع فلسطين ، وراغبة خاتون وبغداد الجديدة .... هادئة ، محبوبة، اجتماعية ، أنيقة ، طويلة القامة ، رشيقة الجسم ، شعري اسود،  طويل ، يتدلى  على كتفي ، عيناي زرقاوان  بلون السماء والبحر . ولست عانس لعيب خلقي أو عاهة مستديمة ، باختصار جمالي الطبيعي كفيل بان يجذب نصف رجال الكرة الأرضية بما فيهم الملوك والكهنة والزعماء وأصحاب الشهادات والكفاءات العلمية النادرة وقادة الميدان من العسكر وحتى رعاة الغنم في البوادي.

ليس مهماً أن اذكر لماذا صرتُ عانس وكيف طمست قدماي في بحر العنوسة ..وأنا لست أول عانس ، ربما أكون العانس رقم عشرة أو المائة أو المائة والخمسون وربما المائة  بعد الإلف  لكن لن أكون العانس الأخير في هذا العالم الممتلئ بالتناقض والأعاجيب .  وليس مهماً أن أبين أن كانت العنوسة  لاحقت بي من جراء نزوة شبابية أم إن مشيئة الرحمن هي التي أرادت أن أكون هذا الكائن البائس : نصفه ميت ، ونصفه الآخر شبه حي ، أم أن العنوسة حالة قيدت بي ولاصقت بأذيالي منذ أن درج اسمي في ذلك اللوح المحفوظ ..  لقد أصبحت عانس وهذا يكفي وكل شي عداه لن يقدم ولن يؤخر..

 

وإنا اليوم عانس وكل الذين حولي من البشر والكائنات الحية والأشباح والأطياف  تتعامل معي على هذا الأساس .. كائن نفذ  صلاحيته  ، وإذا كان الآخرون ينظرون لي نظرة أخرى لسبب ما في نفس يعقوب فأنا أرى نفسي في مرآة البيت ومرآة روحي عانس انتهى صلاحيته لبعض الشي أن لم اقل لكله .

 

ومثل أي عانس ،تعشعش فوقه الهموم والإحزان بسبب وبدونه ، استفيق باكراً بعد ارق ليلٍ طويل ، تخنقني العبرة واشعر أن العالم حولي مظلم كظلام الليل الشتاء الدامس، الإحساس باني عانس  أحساس مرّ كفيل بان يسلب مني نعمتا النوم والراحة والسعادة.

 

دبابات أمريكا ، همراتها ، مصفحاتها  ، راجمتها ، أساطيلها ، ناقلات جندها ، عرباتها وهي تصول وتجول في شوارع بغداد –للمرة الأولى- كلابها المتوحشة وهي تلسع  أجساد المعتقلين المقيدّ بالسلاسل  ، الرأس المعبأة داخل الكيس الأسود،جنودها المدججون بالأسلحة والرعب ، صور انتهاكاتها في السجون ، طائرتها التي ترمي الصواريخ على البيوت والعمارات ، الجثث العفنة التي تلقى في الترع ومجاري المياه وساحات القمامة - كانت الشرارة الأولى التي أيقظت إحساسي بالعنوسة وولدت لديّ أحساس أزلي لم يفارقني -أحساس بأني ولدتُ عانس ، وسأبقى عانس ، أموت عانس ، وابعث عانس .  

 

كلما وقعت عينٌ من عيناي على همرٍ يركل بعجلاته بلاط قلبي وإسفلت الشارع في مدينتي الآيلة للعنوسة _ يرسخّ الشعور وينميّ الإحساس في رأسي بأني عانس فعلاً وان التخفي خلف أوهام الشبابية لم يعد يجدي نفعاً .

 

قبل الاحتلال ، بعشرة أعوام ، خمسة عشر عاماً ، كان يفترض أن أصبح  عانس وأعامل معاملة العانس لكني لسبب لازلت اجهله لم يحدث ذلك  ، لما لم اشعر بأني عانس وبأني فاقد الأهمية والجدوى والصلاحية في تلك السنوات التي كان الوطن محاصراً ، معزولاً عن  أصدقائه وجيرانه ، ربما أن الأوطان هي التي تمنح صبياها وبناتها الشابات الإحساس بالعنوسة والإحساس بالشبابية والأنوثة . الوطن حين يحتل وتدوس أرضه بساطيل جنود المحتل  هو فقط يولدّ الشعور بالعنوسة المبكرة ... بعد هذا السيل من الأعوام  ، اجزم أن ستيفان ذلك الجندي الأميركي الأسود الذي كان ضمن تلك الشلة من الجنود  الذين داهموا  بيتنا في منتصف ليل شتاء ماطر بحثاً عن إرهابي اسمه حسون ، صار عنده قناعة تامة بأنه إذا وقع في يد أي رجل عراقي  فلا مفر من انه سيدفن حياً وسيحرق جسده بالتيزاب وبالبنزين الذي يجاهد  سائقو العراق بالحصول عليه بعد أيام من المشقة والعناء  في النوم على الكراسي الخلفية للسيارة  أو مفترشين الشارع ، وسيعلمُ ذلك ستيفان الشقي  أن أسباب نقمة الرجل عليه لا تتوقف عند حدود احتلال وطن ، وتدمير حياة ورغبات وأحلام .. اجزمُ أن ستيفان ذلك المرتزق الأميركي سيكون واثقاً من أن رؤيتهم في شوارع بغداد أنعشت الإحساس بالعنوسة وأفقدت امرأة مثلي كل رغباتها في الحياة والحب والشراكة والأنوثة .

 

سبع سنوات من الاحتلال ولدتّ سبعمائة عاماً من الإحساس بالعنوسة والشلل وبالا جدوى وتلاشي الشعور بالحب والرغبة في الشراكة والارتباط ..

 

لن أعود شابة يتراكض خلفي الشباب ، لقد قادني الإحساس بالعنوسة إلى العنوسة فعلاً فلم اعد  أجدي نفعاً ، وكل الإزهار التي سيفرشها ستيفان ورفاقه المحتلون دمي ودماء الآلاف  من أمثالي  لن يمحي عني ومن الشاعرات بالعنوسة -هذا الإحساس البشع ، المميت..

 

هل أدرك ستيفان المحتل ماذا يعني أن تراود امرأة مثلي إحساساً بأنها عانس وبأنها لن تكون موضع اهتمام من قبل أي رجل كلما وقعت عيناها على رؤيته وهو مدجج بالسلاح ، ينهر ويصرخ ويزعق ، محاط بالعشرات من الآليات المزودة بأحدث الأسلحة ، يقتل ويستبيح وينتهك ويدمر الأحلام والرغبات والبنيان.

 

مثل ورد يذبل في السنا دين المرصوصة في (طارمة) البيت وسياج الشرفات  عطشاً ، مثل أوراق أشجار النارنج والتين والعنب والبرتقال والتوت في حدائق بيوتنا – وهي تصفر وتذبل – جراء الإهمال ونقص العناية والماء والضوء –بعد أن ترك الناس بيوتها وهجرت أوطانها هرباً من الموت المحتوم المفروض على الرجال والصبيان ، هرباً خوفاً من جحيم شعور بنات العائلة –بنتاً اثر بنت – بالعنوسة المحتومة .

 

منذ سبع سنيين وباب منزلنا لم تطأ طاه  قدما رجل ، أوصده جنود الاحتلال بالمفتاح حينما أوصدوا باب قلبي وجعلوني عانس ُرغما عني. باب لا يقترب منها الرجال ، باب موصدة ، لا يفتحها احد ، لا يطرقهٌا احد.

 

العنوسة ليست وراثة في عائلتي ، جدتي منال توفيت بعد عمر ناهز المائة وخمس سنوات وكانت تتمتع بصحة موفورة وظلت تشعر إنها شابة حتى اجتازت التسعين من عمرها .. والبنات في عائلتي تزوجن وهنّ في السن السادس عشر ، وصرنّ أمهات وبعضهنّ أصبحن جدات ..

 

كانت الجدة سعدية وهي صديقة حميمة لجدتي وتصغرها بسنوات تردد دائماً أن الزوج الصالح هو الذي يحافظ على شبابية زوجته والمرأة لا تشعر بالكبر إلا حين تصادف رجلاً يريها نجوم الظهر في حياتها ، وتقول أن المرأة لا تكبر لكنها لن ُتعنس أو تشعر بالعنوسة ..فهما بلغت من العمر ستجد من يقطفها من العنوسة وتكون زهرة قلب أي رجل .. ماتت الجدة سعدية قبل الاحتلال بأيام وكانت لا تشكو من أي مرض عضّال لحظة وفاتها لكن الأطباء قالوا أن قلبها توقف فجأة بسبب صدمة عصبية قوية لم يمهلها .. ولم يبحث الطبيب الذي عاينها عن سبب الوفاة لقد كان مدركاّ أن الجدة سعدية أصيبت بصدمة عصبية وهي تشاهد ارتال الدبابات تزحف باتجاه بغداد في مشهد لم تألفهٌ من قبل.

 

يقطع العم سعيد البقال الطريق إثناء مروري من أمام محل البقالة ويمازحني أن كان هناك خاطب ما في الطريق ويعرض إمامي مواصفات لشاب عازب يرغب بالزواج فأكون مرشحته وعندما يلقي رفضاً من قبلي يشاركني في اللعنة على أمريكا وقواتها المدججة بالسلاح والتي مرغتّ مشاعرنا في العنوسة فلم تعد الفتاة منّا تفكر في الزواج وأصبحت أمنية الشاب قضاء ليلة في منزله دون الإحساس بالخوف من مداهمة ليلية قد تفضي به إلى الاعتقال فيقضي سنوات شبابه خلف الأسلاك الشائكة والقضبان التي تورث الغمّ والإحباط والشيخوخة.

 

يتسأل راسم كيف تفقد فتاة جميلة فاتنة كل رغباتها في الحياة وتشعر إنها عانس لمجرد أن تلمح رتلاً اميركياً يجتاز الشارع العام لكن راسم يغير رائيه وقناعاته عندما تنفجر سيارة ملغومة بالقرب من سوقه التجاري فتقتل العشرات من النساء والأطفال الأبرياء ويرى بركة الدم أمام عينيه  ويلمح أشلاء أجساد هنا وهناك ، كف هنا ، أصابع هناك ،  رأس هناك ، جسد بلا رأس هناك ....

 

يغلق راسم السوق التجاري الذي يعتاش عليه ويأخذ أسرته ويهاجر إلى السويد ، يحثني على الهجرة و يكتب أنقذي شبابك من الضياع ، ستصلين مرحلة العنوسة بالفعل وستكونيين عانس غير مرغوب فيها بتاتاً ، تعالي وسأجد لك هنا (شايب) يرضى أن يتزوج من عانس.

 

وجهي خالي من التجاعيد وبشرتي صافية صفاء سماء بغداد قبل أن تنفث فيه المروحيات الأميركية المقاتلة سمومها طيلة سبع سنوات من التحليق .. نقية نقاء نهر دجلة قبل أن تعكرها  أشلاء الذين تغدر بهم المليشيات وترميهم في قعر دجلة بعد أن تنال الهروات والكيبلات من أجسادهم وتشبعهم تعذيباً ..حين أقف قبال المرايا المنتشرة في إرجاء الغرف ،  مرآة في كل غرفة ، وصالة ، والحمامات الداخلية والخارجية ، هذه المرايا التي علقتها أمي على الجدران وجعلت أبوابا البيت ونوافذها مرايا تنبهني أن العمر يمضي والعنوسة تنتظرني قاب قوسين وأدنى أن لم الحق بالقافلة والتقط منها الظل والشريك والنصف الآخر  والشر الذي لابد منه حسب رأي أمي في أبي بعد زواج دام  ثلاثون عاماً أسفر عن إنجاب أربعة أولاد وخمس من البنات تزوجنّ وأنجبن صبية وصبيان .

 

كلشان البياتي - كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة - العانسة

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

 
 

شبكة المنصور

الاحد / ٠١ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢٠ / أيلول / ٢٠٠٩ م