عزف منفرد  - أين اللؤلؤ ؟

 
 

شبكة المنصور

سلام الشماع
رسخ في ذهني منذ الطفولة أن اللؤلؤ بمنزلة الذهب والمعادن الثمينة والأحجار الكريمة التي لا يمتلكها الفقراء..
كانت جدتي رحمها الله تسميه (الليلو)، وكذا العراقيون جميعا، وهذه التسمية عمرها أكثر من خمسة آلاف سنة في العراق، وعندما كانت تصف جمال أسنان بنت تقول إن (سنونها جنها ليلو)، أي كأنها لؤلؤ، وروت لي أنني لم أسلم الطفح الجلدي الذي يظهر على وجوه الأطفال وأجسامهم إلا بتعليق قلادة ليلو، تمت استعارتها من عائلة ميسورة، في رقبتي لأيام.. كانوا يطببون الطفح الجلدي بهذه الطريقة التي توارثوها عن أجدادهم منذ أكثر من خمسة آلاف عام أيضاً.


والعراقيون كانوا يوصون الذاهب إلى البحرين أو القادم منها أن يجلب لهم من اللؤلؤ شيئاً، فإن الذاهب إلى ساحل اللؤلؤ، كما كان يسمى الخليج العربي، أو الآيب منه لابد أن يستطيع جلب هذا الشيء الثمين معه.
لا أريد أن أتحدث لكم عن عملية الغوص وأقدم لكم معلومات عن اللؤلؤ وأنواعه لاني سأكون كمن يبيع الماء في حارة السقائين او من ينقل تمرا الى هجر او البصرة، ولكني سأتحدث عن بغداد والعراق ككل وماذا يعني لديهم اللؤلؤ.


وعندما أقول أن علاقة أهل العراق باللؤلؤ تمتد إلى خمسة آلاف سنة فإنما استند في ذلك إلى العلاقة التاريخية التي ربطت حضارات وادي الرافدين بحضارة دلمون، وإلى ما يعتقده الباحثون المعاصرون من أن أول ذكر لرحلة الغوص كان ما ورد في ملحمة جلجامش عن زهرة الخلود، وأن المقصود بهذه الزهرة هو اللؤلؤ، مستدلين على ذلك بوصف طريقة الحصول على الزهرة من قاع البحر، وامتداد جذورها في أرضه وإن الباحث عن هذه الزهرة يستعين بحجر ثقيل لإيصاله إلى القاع... وإلى آخر ما ذهبت إليه الأسطورة..


وتدل آثار الآشوريين على احتفائهم باللؤلؤ الذي اطلقوا عليه اسم (عيون السمك)، وقد تكلم المؤرخ (بلينى) على (تايلوس) وكيف أنها كانت تشتهر باللؤلؤ.


وعلق اللؤلؤ في ذهني من الحكايات التي كانت ترويها لنا جدتي أيام الشتاء ونحن نتحلق حول الموقد الذي يقينا من البرد، ومن تلك الحكايات حكاية رجل جائع ليس في جيبه من نقود يستطيع شراء الطعام بها، عثر على كيس حرير وجد في داخله عقداً ثمينا من اللؤلؤ وحدث نفسه أن يبيعه ليشتري الطعام ولكنه وجد شيخاً في السوق ينادي: من وجد كيسا صفته كذا وكذا له ( 500 ) دينار من الذهب، فأعطى الشيخ الكيس ولم يأخذ المكافأة لأنه جعلها على الله، وبعد مدة سافر الرجل في البحر وغرقت السفينة ومات جميع من فيها إلا هو فقد تعلق بقطعة منها أوصلته إلى اليابسة حتى قذف به البحر إلى جزيرة فيها أميّون لا يقرأون ولا يكتبون، فجلس في مسجدهم وعلمهم القراءة والكتابة وطلبوا منه الزواج من فتاة يتيمة ثرية لكي يستقر في قريتهم، وعندما رآى الفتاة وجد عقد اللؤلؤ عندها وكان أبوها الشيخ قد توفي وأخبر أهل القرية بقصة العقد ثم أنجبت له المرأة ولدين ماتت وماتا وآل العقد إليه وباعه بمائة ألف دينار.


وقصص أخرى مثل هذه كانت تلهب خيالنا الطفل، لكننا كنا نسمع من كبار السن أيضاً أن اللؤلؤ يستطب به من بعض الأمراض ويستعمل في علاج الامراض الجلدية لميسوري الحال فلمسحوق اللؤلؤ مع بعض المستخلصات الحيوانية والنباتية قابلية شفائية للصدفية والاكزيما والامراض الجلدية المستعصية، ويستعمل مسحوقه ايضا في تراكيب لبعض امراض القلب او لتصفية الدم من السموم السحرية كما يستعمل في تراكيب تجميلية لازالة الاثار المستعصية الازالة في الجلد عامة وفي الوجه وفي عملية السنفرة وتبييض البشرة واعادة الشباب وازالة التجاعيد.


والمعروف المالوف لدى كبيرات السن ان ينصحن الامهات الحديثات الولادة بتعليق قطعة حلي  تحوي اللؤلؤ على كتف الطفل الوليد في اول ايامه لتفادي الطفح الجلدي او الشري الذي يصيبه نتيجة تغير المحيط البيئي للطفل.


وقد ورد اسما اللؤلؤ والمرجان مقترنين في القران لانهما بحريان ويستخرجان بالطريقة والجهد نفسهما فهما مكنونان ووصف القائمون في خدمة الجنان كانهم اللؤلؤ المكنون مايدل على التباهي ببديع خلقه وعظيم صنعه.

 
نافست العقود المصنوعة من اللؤلؤ العقود المصنوعة من الألماس، فقد كان اللؤلؤ من مقتنيات أصحاب الثروات وأصحاب السلطان، وظل محافظا على مكانته إلى منتصف القرن الماضي، إذ طورت اليابان صناعة اللؤلؤ وجعلت زراعته بكميات كبيرة أمرا ممكنا في مزارع خاصة، وكانت النتيجة انخفاض قيمة اللؤلؤ كحجر نادر، وتحوله إلى احجار متوفرة للجميع وبأسعار متباينة حسب نوعيتها، وسرعان ما أصبح العقد الذي كان يساوي عشرة آلاف دولار يباع مثيله من لؤلؤ مزارع اليابان بمبلغ لا يزيد على مائة دولار، ومع هذه التطورات كلها ظل اللؤلؤ ثمينا في نظر الكاتب الساخر شلش العراقي الذي خاطب قيادتي حزبي الطالباني والبرزاني، قبل أيام، بعد أن ذكر لهم المثل: (اتريد لؤلؤ؟ أغطس في البحر)، بقوله: (كركوك أغلى من اللؤلؤ بس لو تغطسون بالمحيط ما تصير كردية).


وقد صدق شلش لأن كركوك ليست كردية ولا عربية ولا تركمانية.. إنها مدينة عراقية فيها ألوان العراق كلها.
وكان من سوء حظي أن يتحقق حلمي أخيرا بزيارة البحرين، بل والإقامة فيها ولكن بعد أن انهزم اللؤلؤ أمام التكنولوجيا الحديثة وانسحبت بقايا قواته لتستقر في المتاحف.

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاربعاء / ١٨ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٠٧ / تشرين الاول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور