يا حسرتي ، ' شمال ' أيه و' جنوب ' أيه ؟

 
 

شبكة المنصور

علي الصراف
برغم ان المنافسة التي خاضها وزير الثقافة المصري فاروق حسني مع المرشحة البلغارية إيرينا بوكوفا لمنصب مدير عام منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) كانت شديدة التقارب الى درجة ان الجولة الرابعة من الانتخابات انتهت بالتعادل، إلا الصحافة المصرية صورت المعركة على أنها "صراع حضارات" واعتبرت فوز بوكوفا انتصار "للشمال" على "الجنوب".


والحال، فلو كان صراع الحضارات على تلك الدرجة من التقارب، لكان العرب والمسلمون بأسعد حال. ولكنه ليس كذلك في الواقع. فالمسافة في هذا الصراع ما تزال بعيدة لصالح الطرف الآخر، وهو ما لم ينعكس في تعادل الأصوات بين المتنافسيْن.


وفي حين يبدو من المستحيل ان يكون فاروق حسني ممثلا "للجنوب"، فمن الصعب اعتبار بوكوفا (وهي من افقر بلد في أوروبا) ممثلة "للشمال".


ويا حسرتي، على الشمال والجنوب حيال هذا الترشيح.


ففاروق حسني لا يمثل ثقافة "الجنوب" ولا تطلعاته. ولم يُسمع عنه تبني سياسات "جنوبية" في ما يتعلق بقضايا الثقافة والتربية والعلوم. بل انه لا يمثل جنوب مصر أيضا. فالرجل الذي يتصرف كارستقراطي، ظل بعيدا عن عالم الفقراء والكادحين المصريين، ولم تسجل له مبادرة واحدة لرفع شأن التربية والثقافة والعلوم خارج أوساط العاصمتين المصريتين (القاهرة والإسكندرية). وحتى في هذه الأوساط، فقد كسب حسني عداء مثقفي مصر الحقيقيين وكبارهم، بينما أحاط نفسه بأنصاف وأرباع المثقفين من الأفاقين والطباّلين. ويكاد لا يوجد في قائمة مؤيديه أي أحد من كبار الكتاب والمفكرين المصريين. وهذا وحده كاف كمؤشر على مدى عزلته عن عالم الثقافة المصرية.


ولولا دعم السلطة التي ينتمي اليها، فان حظوظه بالترشيح ما كانت لتزيد عن صفر إذا أخذ في عين الاعتبار ان الرجل قاد وزارة الثقافة في مصر ليحوّل الوزراة والثقافة معا الى حطام حقيقي.


فسوى المهرجانات خالية المحتوى، والتي لا تترك تأثيرا في محيطها الإجتماعي المُعدم، تكاد لا توجد حركة ثقافية في مصر. وإذا وجدت فبفضل جهود مثقفين أفراد لا تدعمهم وزارة الثقافة. وبسبب من طابعها الفردي، فان هذه "الحركة" تبدو بلا إتجاه، او تتنازعها اتجاهات متضاربة تعكس طبيعة الضياع العام الذي تعانيه مصر. فهذا البلد يبدو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بلدا بلا رؤية ولا اتجاه. وهو بالتأكيد بلا مشروع، لا داخلي ولا إقليمي، ولا قومي ولا دولي. وعظمته السكانية والجغرافية والتاريخية تكاد تضيع تحت أكوام الفقر والجهل التي تتراكم برعاية وزارة فاروق حسني.


لقد كان من حسن حظ مصر، ومن حسن حظ الثقافة فيها، أن يخسر فاروق حسني السباق، ولو بفارق بسيط للأصوات. ففوزه، لا سامح الله، كان سيعتبر "إنتصارا" لثقافة النفاق والجدل السائدة في محيط العوالم والطبالين الذين ظلوا يطبلون ويهزون الوسط للرجل. وبدلا من القيام بمراجعة نقدية جادة لأحوال الثقافة في مصر، ولدورها في المنطقة، من اجل العثور على رؤية ما، فقد كان العمى الثقافي سيعلن نفسه بوصفه المنتصر الوحيد.
شيء واحد يبدو مثيرا للإلتباس، وهو ان الإسرائيليين بدوا (بعد إعلان النتائج) سعداء بهزيمته. ولكن الحقيقة الأكيدة هي ان إسرائيل احترمت تعهدها بعدم الوقوف حجر عثرة امام فرص حسني. والأصوات التي اندلعت للتنديد ببعض موافق فاروق حسني تجاه إسرائيل، خمدت تماما طوال الأشهر التي أعقبت الإتفاق المعلن بين الرئيس المصري حسني مبارك، وبين رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو.


وكان الإعتقاد السائد بين المثقفين المصريين هو ان فوز فاروق حسني سيحوله الى حصان طروادة حقيقي لصالح إسرائيل.


ولو فاز، فإن الإسرائيليين الذي يقولون اليوم انهم فرحون بخسارته، كانوا سيقولون له انه من دونهم ما كان ليفوز.


نوع من تسويق الذات، وإظهار النفوذ، هو ما يدفع بعض الصحافة الاسرائيلية الى القول أن "موظفين في القدس جندوا مفكرين يهوداً مثل ايلي فيزل وبرنارد أنري ليفي والمخرج السينمائي كلود لينتسمان، إضافة إلى رؤساء المنظمات اليهودية الكبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا، كي يعملوا ضد انتخاب حسني".


ولكن عدا عن أن هؤلاء المفكرين صمتوا كليا عشية الإنتخابات، فهم عندما شعروا بان فاروق حسني يتمتع بفرص حقيقية (وهو ما دل عليه تعادل التصويت) فانهم كانوا يريدون (قبل الصمت) أن يفرضوا عليه نفوذهم وان يجبروه على التراجع عن بعض التصريحات التي بدت وكأنها معادية لإسرائيل. وكسبوا منه بالفعل تراجعا ذليلا واعتذارات مخزية. وبدلا من دعوته السابقة لحرق الكتب الإسرائيلية، تحت تأثير المقاطعة الثقافية المصرية لإسرائيل، فقد عاد ليدعو الى ترجمة أعمال "الأديبين" الإسرائيليين عاموس عوز ودافيد غروسمان إلى العربية، وتعهد بزيارة إسرائيل والعمل على التقريب بين المسلمين واليهود.


بموقفه الداعم للمقاطعة الثقافية لم يكسب وزير الثقافة المصري دعم المثقفين المصريين، لانهم كانوا يعتبرون موفقه غير المتناسب مع موقف حكومته مجرد "حركات..." من "البتاع" التي يمارسها أهل "البتوع" الثقافي. وبرغم ان الإسرائيليين كانوا سيخرجون رابحين لو كان هو الذي فاز، بدالتهم عليه، إلا انهم هم أيضا لم يصدقوه.


بين هذا وذاك، فان خسارة فاروق حسني لأهم منصب سعى اليه في حياته، تمثل فرصة استثنائية لكي نعرف من هو فاروق حسني الحقيقي.


وسيكون من حسن حظ الثقافة في مصر لو أنه استقال لكي يجري مراجعاته الخاصة بشأن سجله، لعله سيكتشف أين أخطأ كوزير وأي كارثة صنع كـ"مثقف".


ولو سمحت الخسارة لمصر بأن تجري مراجعات لتحديد رؤية، فان مصر تستطيع ان تحول تلك الخسارة الى مكسب.


ساعتها فقط ستكون مصر معنا لا ضدنا في صراع الحضارات. ولعلها ستكون ممثلا للجنوب، أكثر مما تمثله "الشمالية" بوكوفا، خريجة جيبوتي الأوروبية.


ولكن، يا حسرتي. فهذا ما لن يحصل في أي وقت قريب.

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

 
 

شبكة المنصور

الاربعاء / ٠٤ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢٣ / أيلول / ٢٠٠٩ م