تقرير '' غولدستون '' ساوى بين جلاد متوحّش وضحية أعزل

 
 

شبكة المنصور

محمد العماري

إعتبر الكثير من السياسيين والمحلّلين والناس البسطاء, خصوصا في الوطن العربي, تقرير القاضي ريتشارد غولدستون, رئيس بعثة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق حول الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزّة, إنتصارا للحق وإدانة قوية وصريحة للقادة الصهاينة, بالرغم من أن السيد غولدستون ساوى, بشكل مقصود ومدروس غايته عدم إحراج وإغضاب دويلة إسرائيل العنصرية, بين الجلاد الاسرائيلي المتعطّش للدماء وبين الضحية الفلسطيني الذي إُغتصبت أرضه بالقوة وتمّت مصادرة جميع حقوقه الانسانية وتمّت محاصرته وسجنه في ما تبقى من أرضه.


ولم بيقَ أمام الضحية الفلسطيني غير الدفاع المشروع, حسب جميع الشرائع والسنن والقوانين والأعراف, عن نفسه وأرضه وكرامته التي تُهدر كل يوم, مستخدما وسائل وأسلحة شبه بدائية مقارنة بترسانة الكيان الصهيوني المدمّرة والحديثة جدا, والتي لا تخضع لا لأخلاق ولا لضمير ولا لرأي عام ولا هم يحزنون. على العكس تماما, كلّما زادت جرائم الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني زاد بالمقابل دعم وتأييد أمريكا والدول الأوروبية له.
وذهب الخيال ببعض الساسة الفلسطينيين الى درجة المطالبة باستغلال, على حدّ قولهم, تقرير القاضي غولدستون لملاحقة قادة الكيان الصهيوني قضائيا أمام المحاكم الدولية. وكأن"الحمل الوديع" إسرائيل يرتكب لأول مرّة مجازر حرب وجرائم ضد الانسانية. وحتى لو إفترضنا إن )إسرائيل( دولة شأن باقي الدول الأخرى, وليس كيانا لقيطا خارج عن القانون, فمن يا ترى يملك القدرة والسلطة لجلبها أمام المحاكم الدولية؟ مع علم الجميع بإنها ترتكب, ومنذ ستين عاما, جرائمها بحق الشعب الفلسطيني مدعومة بصمت ولا مبالاة وأحيانا بمشاركة المؤسسات والمنظمات الدولية, وعلى رأسها "مجلس الأمن الدولي" المسيّر بشكل مكشوف ومفضوح من قبل الادارات الأمريكية.


لكن الكلام المعسول الذي ورد في تقرير غولدستون, وإن كان مخلوطا بكثير من السموم, يطرب آذاننا نحن العرب. فبعد أن عجزنا, سواء بالحروب أو بالمفاوضات العبثية أو بالاستسلام المجاني, عن إستعادة شبر واحد من أرض فلسطين المغتصبة, صرنا نبحث عن"نصر ما" بين صفحات التقارير التي تصدرها هذه المنظمة الأممية أو تلك. ولو كان الكلام مجديا مع العدو الصهيوني الحاقد, الذي يعتبر جميع الفلسطينيين بما فيهم الأجنة في أرحام أمهاتهم, أعداء يجب القضاءعليهم, لكانت قرارات الأمم المتحدة الصادرة بحقّه قد إنجزت لنا شيئا ما وإعادت ولو خمسة بالمئة من حقوقنا المهدورة.


لكنّ الكثير منّا نسى أو تناسى, على ما يبدو, ان الأمم المتحدة أصدرت ضد )إسرائيل( أكثر من 60 قرارا دون أن يكون لها تأثير يُذكر على تصرفات وسلوكيات وسياسة قادة إسرائيل القتلة. بل إزدادت هذه الدويلة العاقّة همجية وغطرسة ودموية. ولا يغرنّكم ما يصدرعن الكيان الصهيوني هذه الأيام من صراخ وعويل وتباكي, وجلّه ظاهري ومفتعل, بسبب الّلهجة الحادة التي تضمنها تقرير السيد غولدستون والاتهامات الواردة فيه. فاسرائيل العنصرية, التي تعاملها الدول العظمى بدلال مبالغ فيه وزائد عن الحاجة, إستطاعت في السابق الخروج "بريئة" براءة الذئب من دم يوسف بعد كلّ جريمة ترتكبها, من مجزرة كفر قاسم ودير ياسين الى يومنا هذا. وفي كلّ الأحوال, سوف يوضع تقرير السيد غولدستون ولجنته لتقصّي الحقائق, التي لم تكن بحاجة أبدا الى تقصّي لوضوحها وضوح شمس الظهيرة, فوق رفّ النسيان والاهمال الى أجلٍ غير مُسمّى.


وهاهي أمريكا, عرّابة الكيان الصهيوني وحامية حماه, بدأت تعلن على لسان أكثر من مسؤول عن رفضها الشديد لما جاء في التقرير الأممي وتعتبر أنه "ركّز أكثر من اللازم على تصرفات - وليست جرائم ومجازر ! - إسرائيل بينما أشار بشكل عابر وخفيف على ما فعلته حماس". وبديهي إن الانتقادات الأمريكية والرفض لا يعنيان الاّ شيئا واحدا, وهو رفع سيف "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي أمام كلّ من يحاول, ولو بينه وبين نفسه, الدعوة الى رفع تقرير القاضي غولدستون الى المحاكم الدولية المختصّة.


وبالتالي, ليس أمام العرب, وبالأخص أنظمتهم الضالعة في كل جرائم أمريكا والكيان الصهيوني بحقّنا, الاّ أن يتوسّدوا تقرير لجنة تقصّي الحقائق حول العدوان الأخير على غزّة والبالغ 500 صفحة, ويناموا نوما هنيئا الى أن يمنّ ويتكرّم عليهم بعض أصحاب "النوايا الحسنة" بتقرير جديد يجعلهم يرقصون ويتقافزون فرحا لنصر لم يتحققّ لهم, بسبب خنوعهم وتبعيتهم وجبنهم, الاّ بين كلمات مترجمة من لغة أخرى, سوف تخضع بكل تأكيد الى ألف شرح تفسير ووجهة نظر.

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

 
 

شبكة المنصور

الاثنين / ٠٢ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢١ / أيلول / ٢٠٠٩ م