مدير جهاز الاستخبارات العراقي محمد الشهواني قال إنه يملك معلومات موثقة وصورا وتسجيلات تؤكد تورط إيران والمجاميع الخاصة المرتبطة بها في هذه التفجيرات وغيرها. لكن الحكومة العراقية العميلة تصرّ على براءة إيران وحسن نواياها.

في ردود الأفعال الأولى التي تلت التفجيرات ساد تضارب كبير مواقف "المسؤولين العراقيين"، فهوشيار زيباري "وزير الخارجية" اتهم مجموعات أمنية من داخل السلطة نفسها (أي تلك التي اصطلح على تسميتها بقادة الميليشيات الذين نجحت أحزابهم في دسّهم داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخبارية) بأنها تنفذ أجندات خارجية على حساب الدم العراقي. وهو تفسير لم يكن بعيدا عمّا ذهب إليه الشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين في العراق عندما حمّل المجلس الإسلامي الأعلى بزعامة آل الحكيم المسؤولية المباشرة عن الهجمات الدامية.

 
ويبدو أن ما حصل في بغداد خلال الأيام الماضية إنما جاء ليضيف عبئا آخر إلى الصعوبات الأمنية التي تواجهها الحكومة العراقية العميلة. ولهذا فقد عملت على تحويل أنظار العراقيين عن فشل خططها واختياراتها إلى البحث عن متهم خارج الحدود تلصق به تهمة التآمر على العراقيين. ولهذا فقد سارع المالكي إلى التقاط خيط التفجيرات ليتّهم "التحالف البعثي التكفيري" بأنه يقف وراء حمام الدم الذي اجتاح بغداد. وفي ضوء هذا الاتهام الذي لا يعززه أيّ دليل تمّ استدعاء السفير العراقي في دمشق باعتبار أنّ سوريا توفر ملاذا آمنا للبعثيين الذين يهددون سلامة العراق ووحدته وأمنه.

كان مطلب المالكي من ذلك النوع الذي تعسر الاستجابة له: تسليم مائة من البعثيين العراقيين على رأسهم  محمد يونس الأحمد الذي يتزعم أحد جناحي البعث في العراق وهو عضو قيادة قطرية سابق وعقيد سابق في الجيش العراقي، وسطام الفرحان الملازم السابق في الجيش العراقي الذي أحيل إلى التقاعد عام 1990 وسجن عدة مرات عام 2003 قبل مغادرته للعراق.

من المفيد أن نذكّر أنّ دمشق وبغداد احتضنتا على الدوام معارضين سياسيين أو منشقين عن السلطة القائمة. وقد حدث ذلك في عام 1964 عندما لجأ إلى سوريا دفعة من البعثيين البارزين مثل علي صالح السعدي. وتبع ذلك عام 1966 هرب قيادات سورية إلى بغداد مثل ميشيل عفلق ومنيف الرزاز و الرئيس السوري الأسبق محمد أمين الحافظ.

كما أن كثيرا من القيادات الكردية (شأن جلال الطالباني) ومن الشيوعيين أقامت في دمشق. واحتضنت دمشق قيادات ممّا يسمّى بالقوى الإسلامية مثل نوري المالكي، وبيان جبر صولاغ.

واليوم يرجَّح أن حوالي مليون ومائتي ألف عراقي يقيمون في سوريا خرج معظمهم بعد دخول القوات الأميركية للعراق عام 2003. ومن بينهم عدد كبير من ضباط الجيش العراقي السابق للاحتلال.

كانت المواقف التي اتخذتها الحكومة العراقية العميلة تجاه سوريا متسرّعة وبعيدة عن الحكمة والتعقل لا سيما أنها جاءت عشية التوقيع على اتفاق تعاوني بين البلدين أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي المعيّن إلى دمشق، وهي الزيارة التي وُصفت بأنها "تاريخية".

لم يكتف ضباع المنطقة الخضراء بذلك، بل شرعوا في التلويح بمحكمة جنائية دولية على غرار المحكمة التي أنشئت في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ثمّ تحرّكوا في هذا الاتجاه، إذ  "قرر مجلس الوزراء تكليف وزارة الخارجية بمطالبة مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب الذين خططوا ونفذوا جرائم حرب وجرائم إبادة ضد الإنسانية بحق المدنيين العراقيين".

ومع تصاعد حدة اللهجة العراقية إزاء سوريا بدا لافتا أن دمشق حافظت على اتزانها ورصانتها في التعامل مع الموقف، ولم تصدر عنها اتهامات مباشرة أو إثارة لقضايا من شأنها أن تزيد في توتير الأجواء مع بغداد. واكتفت بطلب تقديم الأدلة التي تؤكد ضلوع الأحمد والفرحان في تفجيرات بغداد.

ورغم دخول كل من إيران وتركيا على الخط في إطار مساع يقال إنها لاحتواء الموقف ومنعه من مزيد التدهور فإن ما يفهمه المراقبون من تصريحات الطرفين لا يوحي بانفراج الأزمة الناشئة عن التفجيرات والاتهامات.

ولا شك أن الحكومة العراقية المعينة قد تعاملت مع الوضع بكثير من الاضطراب والفوضى، وهو اضطراب كانت له انعكاساته على كافة الأصعدة رغم أن قلة فقط من المحللين والمسؤولين تساءلت عن دور الاحتلال في كل ما حدث، إذ يفترض أنه  يشكل طرفا رئيسا في المشكلة وملابساتها، بل إن من الجائز أن نثير السؤال عن الدور الأمريكي والمصلحة الأمريكية في هجمات بغداد، وألا نكتفي بتبرئة ساحة المجرم الأول الذي كان سببا رئيسيا في كل ما حصل ويحصل بالعراق.

لقد خرجت سوريا سالمة من ترسانة الضغوط الإقليمية والدولية إبان فترة الرئيس الأمريكي جورج بوش الصغير، مثلما استطاعت أن تخرج من العزلة التي فُرضت عليها. لكن يبدو أن حلقة جديدة من الضغوطات والتضييقات ستمارَس على دمشق لتحييدها وكفّ تأثيرها في لبنان وقطع علاقاتها مع حلفائها في المنطقة، مثلما يبدو أن الولايات المتحدة كلفت عملاءها في العراق بابتزاز سوريا ودفعها إلى تقديم التنازلات الواجب تقديمها لأن واشنطن تريد أن تُنسي العرب والمسلمين تلك الصورة البشعة التي انطبعت في أذهانهم عن الثور الأمريكي الهائج.

إن السيناريو القادم أمريكي في جوهره ولكن الأمريكيين يريدون أن ينفذوه بأيد عربية. وفي رأينا فإن دمشق لن تقدم على تسليم أيّ من القياديين البعثيين اللاجئين فيها، كما لن تخضع لأيّ شكل من أشكال الابتزاز الرخيص، ولن تقبل أن تقوم بدور الحامي لأمن الحكومة العراقية العميلة وهي التي تحمّلت ثابتة صابرة كثيرا من الأذى بسبب رفضها تلبية نفس الشروط الأمريكية.