عقدوها بباريس ... ثم عتّموا عليها بالكامل !
ندوة أخرى لحوار الأديان ضَمّت الأقل مستوى من الأئمة والحاخامات !

 
 
 

شبكة المنصور

نبيل ابو جعفر / كاتب وصحافي يقيم في باريس
هل يمكن التصوّر أن تقوم دولة ما بتنظيم مؤتمر دولي في عاصمة دولة كبرى، وبالتنسيق مع رأس السلطة فيها، ثم تقوم هي ذاتها بخنقه إعلامياً، فلا يأتي أحد على ذكره ؟


بالتأكيد لا. ولكن هذا ما حصل بالفعل مؤخراً، وفي العاصمة الفرنسية . فقد عَقد "المنتدى الدولي لحوار الأديان من أجل السلام" مؤتمراً في باريس يوم الأحد 17 أيار/مايو، دُعي إليه لفيف من المسؤولين الحاليين والسابقين والمفكّرين والمهتّمين بشؤون الحوار والسلام من مختلف الجنسيات ، وغُيّبت عنه وسائل الإعلام بالكامل !


شاءت الصدفة ـ ربما ـ أن نكون استثناء ، لا بالنسبة للحضور بصفتنا الصحافية بل " الإهتمامية " في هذا الموضوع الحساس وغير المجدي في آن ، وقد سجّلنا مجموعة من الملاحظات تستدعي التوقّف أمامها نظرا لغرابتها ، إنطلاقا من أن نشاط هذه المؤسسة (المنتدى الدولي ) التي سبقتها مؤسسات أخرى مشابهة ، ينحصر في إقامة ندوات للتأكيد على نوايانا السلمية الأكثر من حسنة ، وصل عدد التي نظّمتها دولة قطر لوحدها ستّ ندوات للحوار، وكانت هذه الأخيرة بتوجيهات من أميرها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وعُقدت تحت رعاية الرئيس الفرنسي سركوزي، وهذا ما حملته بطاقة


الدعوة التي طُبعت بألوان العلم الفرنسي، واتضّح من نصّها أنها نتاج تعاون فرنسي – قطري، كما حُدّد فيها أسماء المشاركين الأساسيين في عملية الحوار الذين ضمّوا الدكتور إبراهيم النعيمي رئيس المنتدى وغالب بن شيخ رئيس المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام في الأراضي المقدسة، الأب ميشيل لولونغ / مفكر ورجل دين فرنسي ، السيناتور حليمة بومديين عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، هيرفيه دو شاريت وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، باسكال يونيفاس مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية، بالإضافة إلى عدد من رجال الدين أو المهتمين بالشأن الديني وكذلك


الوزراء والمسؤولين السابقين ورئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية . فلماذا تم التعتيم على هذه الندوة  الى الحد الذي لم تنل فيه أي تغطية  إعلامية  عربية أو عالمية ؟


لفت إنتباهنا أولا وجود اسم العميد السابق لمجلس جامع باريس الكبير دليل أبو بكر بين المشاركين الأساسيين على اعتبار أنه العميد الحالي ،  مع أنه لم يعد كذلك منذ أكثر من سنتين، كما أنه فوق ذلك لم يحضر أعمال هذه الندوة ! فهل كان إدراج اسمه "اعتباطياً" دون علمه ؟ وإذا كان كذلك أو العكس ، فكيف تمّت الإشارة إلى كونه عميد المجلس رغم أن الكل يعلم  بانتخاب غيره ؟!


البحث عن سرّ التعتيم
تجدر الإشارة هنا إلى أن غياب الإعلام الملفت للإنتباه لم يقم أحد من المسؤولين القطريين بتفسيره أو تبريره ، لا من قبل القيّمين على المنتدى ولا من أعضاء السفارة القطرية بباريس . وزاد الأمر غرابة عدم تغطية أخبار الندوة  في سائر وسائل الإعلام القطرية أيضا !


صحيح أن مؤسسة منتدى الحوار ليست رسمية – كما هو مفترض – لكنها بكل تأكيد ليست مقطوعة من شجرة. أي لا يأتي دعمها ولا إمكاناتها المادية من الهواء الطلق. فليس سراً أنها تحظى بدعم رسمي قطري معلن، ومن رأس السلطة في الإمارة، فلماذا حصل ذلك؟


وحتى يكون كلامنا أكثر دقة لابد من الإشارة الى أن صحيفة "الراية" القطرية قد نشرت مقالاً يتيما في عددها الصادريوم 19 أيار/ مايو تناول بشكل أساس نشاط السفارة القطرية بباريس التي أقامت حفل استقبال للمدعوين الى الندوة، وتضمّن تركيزاً على ما قاله السفير ووزير الثقافة القطري في حديث خاص لـ "الراية"، وليس تغطية للندوة ،  كما تضّمن تصريحاً خاصاً للصحيفة من قبل رئيس المنتدى ، مع أنه تكلّم في الندوة ولم يُنقل كلامه فيها !


وهكذا أمكن الملاحظة أن ما كُتب جاء في سياق "استجواب" خاص على هامش ذكر الندوة في معرض تغطية نشاط السفارة والسفير بشكل خاص، ولم يحمل المقال إسماً . أما أسلوبه فيُعطي لكل ذي خبرة بهذا المجال انطباعاً بأنه كُتب من قبل موظف رسمي ، وبقلم أحد موظفي السفارة على الأغلب  !


الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة
كان هذا الجانب الأبرز بالنسبة للشكل الإجرائي وغياب التغطية الإعلامية. أما بالنسبة للمضمون الذي لم يخرج عن مضمون ما تابعناه في السابق حول مؤتمرات الأئمة والحاخامات التي لم تحقق حتى الآن غير الفشل الذريع ، بالرغم من الإستماتة العربية والإسلامية في إظهار حُسن النوايا تجاه الحاخامات والمشاركين الصهاينة. هذا المضمون لم يتغيّر من حيث الجوهر ولم يحقق أي إنجاز ما، مهما كان طفيفاً أو حتى هامشياً. لكن ثمّة فوارق ، ما زال البعض يراهن على " تطوّرها" في معرض إصراره على استمرارية الحوار العبثي بكل تأكيد  !


هذه الفوارق تتعلق بطبيعة هذه الندوة وأجوائها التي تميّزت ببعض التفاصيل عن سابقاتها، ويمكن إيجازها بالتالي:


-         الملاحظة الأولى: خلوّها من الأئمة والحاخامات وخلّوّها من التزمّت في المطالب، كإصرار الحاخامات – في السابق – على إدانة "الإرهاب الفلسطيني"، بدل إدانة كل أشكال الإرهاب بشكل عام ، وإصرارهم على إحراج الأئمة ـ حتى لا نقول إهانتهم ـ  !


-         الملاحظة الثانية: استبدال الأئمة والحاخامات بشخصيات أقلّ تأثيراً وليست صاحبة قرار. فإذا كان الأئمة والحاخامات لم يستطيعوا الإلتزام بشيء أو التوافق على الدفع باتجاه عمل جدّي خارج إطار الكلام الإنشائي، فكيف يمكن للذين لا ثقل لهم أن يحققوا ذلك. ؟!


-         الملاحظة الثالثة: إقرار ضمني مسبق بترجيح الفشل رغم تغيير الوجوه وتهدئة لغة التخاطب، ورغم الإستعانة برعاية رسمية من قبل رئيس دولة كبرى لم تشأ التدّخل بين المتحاورين ولا حتى التواجد، وقد تمثّل توجهها هذا في غياب وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير الذي أُدرج إسمه في مقدّمة المتحدّثين، وجاء من يتحدّث باسمه فقال كلاماً وسطياً يُرضي الطرفين . وعند استعراضه لإمكان حل الصراع العربي – الإسرائيلي أشار إلى رؤية البابا للحل العادل، ورأى وجوب أن يتضمن ذلك "تحديد الحدود ومعالجة قضية اللاجئين"، ووصف الهجمة على غزة بـ "القاسية". وقد


تأكّد هذا الفشل مسبقا من خلال تغييب الإعلام الذي لا تفسير له خارج هذا الإطار.


غلّو في الإنشاء.. إنعدام للتنفيذ!

 

أما على صعيد ما دار وما طُرح في هذه الندوة التي التفّ المشاركون فيها تحت عنوان "التعايش معاً: كيف يمكن للمؤمنين المساهمة في إحلال السلام في الأراضي المقدسة"، فقد كانت أبرز البنود التي تصدّرته هي التالية ، نوردها نصا  نظرا  "لأهميتها الإنشائية !" التي تستوجب عقد ندوة أخرى لفكّ طلاسم ما تعنيه بالتحديد :


-         مساهمة المؤمنين من مختلف الديانات في عملية السلام في الأراضي المقدسة. وهذا البند هو الذي عُقدت الندوة تحت شعاره كما ورد آنفاً.


-         إمكانية الخروج من الأزمة التي تطال الأراضي المقدسة.
-         أين وصلت  عملية السلام في الشرق الأوسط.. وماذا عن مسؤولية المؤمنين؟!
-         التعهّد حيال موضوع العدالة والسلام ضمن الملتقيات المتعددة الأديان"؟!".
-         أين مبدأ الأخوية ومبدأ الأمل؟!


وللدقة يجب القول، أنه إلى جانب إنشائية هذه البنود وشموليتها الروحية المفرطة بتصفيف الكلام، فإن مضامينها لم تجر دراستها بعمق ، ولا خضعت للبحث الذي يرتقي الى مستوى إدراجها كأسس للحوار والتفاهم وحتى إتخاذ القرار ولو رمزياً في بيان أو تصريح أو ما شابه، عدا عن أنها "سُلقت" كلها في يوم واحد وأُدمغت ببعضها البعض، حتى أننا لم نعد ندري ما الذي إتُفق عليه هنا، وما هي الرؤية هناك؟


خلاصة كل هذه المسيرة
وعود على بدء يمكن الوصول إلى نتيجة لكل هذه المسيرة المعطَّلة منذ الأساس ، قد يُلخّصها هذا السؤال: إذا كان المسلسل الطويل الذي مرّت به ندوات الحوار كلها لم يُزحزح الإسرائيليين بوصة عن عنادهم واستشراسهم بالتهام المزيد من الأراضي، وقتل المزيد من الأبرياء، فأي أمل يُرتجى من استمرار الحوار معهم، وهو حوار قد يصبح "عادة" مزمنة دون أن يُفضي في أحسن الأحوال إلاّ إلى خسارتنا، ولن يولّد مع الأيام والسنين إلاّ شرعية استمرار الإحتلال ، ذلك لأن أية تسوية بين غاصب ومغتصبة أرضه لا بدّ أن تعني بالضرورة تنازل الطرف الثاني لصالح الأول !


وحيث أن هذا الطرف قد أعطى أقصى مما كان يمكن أن يُتصوّر، فماذا تبقّى أكثر من ذلك، وما معنى إصرارنا نحن فقط على قبول التنازل تلو التنازل، حتى لم تعد هناك أي جهة في الدنيا "أجرأ" منا على الخسارة والتفريط ؟! والمعنيّ هنا بشكل أخص ، أولئك الذين لم تحترق أعصَابهم وهم يتابعون الجرائم الإسرائيلية بحق أهلنا في غزة، ولم يتحرّكوا ولو بالحد الأدنى في محاولة لوقف هذه الجرائم ووضع حد للحرائق التي أشعلتها، كما حاولت قطر وغيرها القليل ، على سبيل المثال .   


طبعا ، هذا الكلام لا يُبرر لأي كان استمرار التعلّق بالسراب الصهيوني ، كما يثير في المقابل ومن باب أولى القرف من هَوَان الذين بقوا يتفرّجون على حرائق غزة وأهلها – ورغم ذلك ما زالوا يصرّون أكثر من غيرهم على تغيير "مبادرة السلام العربية" وإزالة نص حق العودة منها، وإبداء كامل استعدادهم لجلب كل العرب والمسلمين إلى حلبة  الإعتراف الجماعي بإسرائيل ، وهو ما أُبلغ مرة أخرى الى أوباما أثناء زيارته الأخيرة لمصر والسعودية!   


هذا التوجه الذي تقوده السعودية ومصر بالدرجة الأساس يُذكّرنا باستماتة "خادم الحرمين" بعد فشل أول خمس مؤتمرات للأئمة والحاخامات ،على عقد مؤتمر آخر في الأمم المتحدة/في شهر كانون الثاني/نوفمبر من العام الماضي، حيث التقى فيه بقادة الصهاينة وكبار الحاخامات بعد بضعة أشهر فقط من وضعه كل العصي في كل الدواليب لكي يستنكف عن حضور القمة العربية ، لأنها تُعقد في دمشق !


في مقابل ذلك لن ننسى وسنبقى نذكر بالخير ما قاله الأب (الفرنسي) بيير لولونغ في ندوة باريس الأخيرة حول ضرورة الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في العيش بحرية وكرامة ،  وضرورة إدانة إسرائيل وكل من يدعمها في عدوانها – هكذا بالحرف الواحد -، مشيراً إلى جرائم قتل الأطفال في غزة بالقنابل الإسرائيلية  بصيغة لم يقلها " المعتدلون " العرب ، ولا ممثل كوشنير بالطبع !


ليت "خادم الحرمين" يسمع بأذنيه هذه المرة ما قاله (هذا الأب الفرنسي)، ثم يدلّنا : أي فرق شاسع بين كلامه وكل هذا اللهاث الرسمي العربي لـ "تعديل" المبادرة بالاتجاه الذي يساير الرياح الأكثر صهيونية من غيرها ، ولن نسأل الرئيس المصري ذلك لأنه "مشغول" بقضايا أهم !!

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ١٤ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٩ / حزيران / ٢٠٠٩ م