خيرُ أمّةٍ أخرجت للناس بين ( البدون ) والأبدان

 
 
 

شبكة المنصور

محمد العماري
إن صلة الأنظمة العربية بالمواطن تكاد تكون معدومة, وإن وجدت فهي مبنية في الغالب على الارغام والاكراه وفي كثير من الأحيان على التجاهل المتبادل. وأكاد أجزم بان معظمنا يعتبر نفسه ( بدون ) رغم إنتمائه الى وطن معيّن. لأن حكّامنا المخلّدين في السلطة, والذين لا يستمدون شرعيتهم أو أسباب بقائهم من شعوبهم, حوّلونا الى غرباء في أوطاننا. ومن يلقي نظرة عابرة على فضائيات ( خيرُ أمّة أخرجت للناس ) يجد إن مواطنيها هائمون بين أبدان طرية تتمايل على رنّات الابتذال والانحطاط في الأذواق قبل الأخلاق وصدور مشرّعة الأبواب (تقول لمن يمرّ ألا تراني ) وبين مخيمات لجوء وسجون وطوابير من البشر على أبواب السفارات الأجنبية بحثا عن جنّة وهمية خارج الوطن حتى وإن كانت وسط جحيم حقيقي.


وأصبح لكل بلد عربي حصّته من ( البدون ) رغم أنهم لم يحصلوا بعد على هذه الصفة بشكل رسمي. وباستثناء ( بدون ) مشيخة الكويت أو ( إمارة آكلي المرار سابقا ) فان قطاعات وفئات واسعة من الشعوب العربية تعيش حالة ( البدون ) هذه مع انها تحمل وثائق وجوازات سفر حقيقية ونافذة المفعول. وإذا كانت الدول المتحضرة تمنح جنسيتها للأجنبي بعد بضع سنين من إقامته فيها فان المواطن العربي, سواء كان إبن البلد أو يقيم ويعمل فيه لعشرات السنين, معرّض في أية لحظة لأن يفقد جنسيته وعمله ومستقبل عائلته وأطفاله. وبما أن ظاهرة ( البدون )عربية الشكل والمضمون فقد وصلت الى الأردن الشقيق وبدأت رحاها تدور على مئات وربما آلاف العوائل. وكالعادة وسط تضارب التفسيرات والأهداف والمسببات مما يجعل حياة المعنيين بالأمر عذابا متواصلا.


فالأنباء الواردة من الأردن تقول إن قائمة ضحايا سحب الجنسيات, يعني ( بدون ) المستقبل تشمل أحد أشهر الجراحين وزوجات صحفيين وكتاب وإبن وزيرة سابقة في الحكومة وأبناء عسكريين متقاعدين, فضلا عن آلاف الناس البسطاء. بينما تتحدّث منظمات حقوق الانسان عن قوائم بالجملة تضم عوائل باكملها. وما يثيرالريبة والشك هو إن تفسير الحكومة الأردنية لحملة ( البدون ) هذه لا يقنع حتى الأطفال. فالحكومة تقول أن الهدف هو ( تعزيز صمود الأهل في فلسطين ) بينما الواقع هو إن مآسي جديدة وأحزان إضافية ومشاكل مختلفة سوف تنهال على رؤوس ( الأهل في فلسطين ). وكأن أهل فلسطيين لم ينقصهم شيء سوى عملية تشريد جديدة لأبنائهم وأقاربهم المشرّدين أصلا في أكثر من بلد.


وبما أن الأنظمة العربية, سواء كانت معتدلة أم متطرّفة أو بين بين, عاجزة عن إيجاد حلول ناجعة لمشاكلها الداخلية, والفلسطيني في كل الأحوال ليس سببا في هذه المشاكل, فلا تجد غضاضة في إلقاء اللوم دائما على العدو الصهيوني. وهذا ما قاله بكل صراحة وزيرالداخلية الأردني نايف القاضي تعليقا على هذا الموضوع: ) إنها مؤامرة إسرائيلية تورّط بها من يطرحون هذه القضية ). والظاهر إن نظرية المؤامرة تجري في عروق الحكام العرب الذين يبحثون ليل نهار عن أية حجّة للتخلّص من الفلسطيني. بالرغم من أن الكثير من هذه الدول, والأردن خير مثال, بُنيت وتطوّرت وإزدهرت على أكتاف الفلسطيني. والمشكلة سياسية بحتة ولا علاقة لها بتعزيز صمود الأهل في الداخل. ولو كانت الحكومة الأردنية صادقة في نواياها لكان حريّ بها أن تسحب السفير الأردني لدى الكيان الصهيوني ردّا على المؤامرة المزعومة.


ولكن في أرض العرب الواسعة, والتي غالبا ما تضيق على الفلسطيني, تستطيع أية مطربة أو راقصة, إذا خرجت على الملأ بثوب شفاف فضفاض, أن تجمع حولها أكثر من 50 ألف مواطن وتجعلهم في حالة إنذار قصوى, جسديا وذهنيا وعاطفيا, بينما يعجز أي حاكم عربي من حشد 5 آلاف من أنصاره في أية مناسبة. وإن حصل ذلك فان نصف هذه العدد يتكوّن من رجال الأمن والمخابرات والجيش والحماية الخاصة وأركان النظام وبعض المقرّبين منه. وحالتنا هذه, أي الضياع بين ( البدون ) والأبدان هي نتيجة طبيعية لمرض الخرف والزهايمر وإنفلونزا السياسة التي أصابت إنظمتنا العربية من المحيط الهاديء جدا الى الخليج الهائم وجدا.

 

فالمسافة بين أهل الحكم, رغم بطشهم وعجرفتهم وتجبّرهم, وبين شعوبهم تزداد إتساعا, طولا وعرضا. لأن غايتهم الوحيدة هي الخلود في السلطة وتحويل شعوبهم الى ( بدون ) في أوطانها.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ١٤ رجــــب ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٧ / تمــوز / ٢٠٠٩ م