( تحرير ) ومصدر قوة إستراتيجي .. أم إحتلال ومصدر ضعف تأريخي

 
 
 

شبكة المنصور

كامل المحمود

عندما قامت الولايات المتحدة بغزو وتدمير وإحتلال العراق قبل أكثر من ست سنوات وإستنادا الى مبررات كاذبة.. رفعت قوات الإحتلال فور دخولها الى بغداد شعارات (إعادة الإعمار)و(تشغيل العاطلين)و(تحويل العراق الى يابان وألمانيا الشرق الأوسط) من خلال جعله (النموذج الفريد والمثير للدهشة في الأمن والديمقراطية والإزدهار)..

 

ومضت السنوات ثقيلة ومؤلمة في دمويتها وفسادها بعد سنة (التحرير)..وكلما كان ياتي يوم الإحتفال بالذكرى السنوية (لتحرير العراق) تتوسع قائمة (الإنجازات النظرية) لواقع يزداد سوءا ودمارا وتشتتا وثأرا وإنتقاما على الهوية والمذهب والطائفة بعد أن تفاخروا (بتصفيتهم لرموز النظام السابق) وإستئثارا وإقصاءا وإنقساما للشعب وترديا مخيفا في الخدمات العامة والأمن والحقوق الإنسانية بعد فقدان حق المواطنة!..

 

وإنتبهت قوات الإحتلال للتسمية فغيرتها من (تحرير ) الى إحتلال!..

في حين بقي المستفيدين من الحالة العراقية (الجديدة) مُصرّين على تسميتها (بالتحرير)..!

 

وكان المُعلن أن العراق سيتحول الى (واحة فريدة وسط صحراء العرب والمنطقة ) ..وتردد بان (إسرائيل نفسها ستحسد العراقيين على هذا النموذج الرائع)!..

 

ومثل هذا (النموذج العراقي المُصَمَّم في الولايات المتحدة ) سيكون بالتاكيد ووفقا للحسابات النظرية (عامل قوة إستراتيجي دائم للولايات المتحدة ولقرون طويلة)!..

 

ولكن الذي حدث وكما أوردت صحيفة كريستيان ساينز مونيتر قبل أكثر من سنة أنه:

( لم تعرف واشنطن أنه بدلاً من ذلك سيتحوّل هذا التغيير في العراق الى مصدر إستراتيجي لضعف الولايات المتحدة، وإلى "بالوعة" يحتمل أن تستمر مصادرها حتى وقت مقبل ليس قصيراً)!.

 

فلو فرضنا أن الإدارة الأمريكية السابقة كانت(جادة) في سعيها لخلق هذا النموذج العراقي الفريد من خلال إسقاط الدولة ومؤسساتها عسكريا ( بفرضية إن إسقاط الدولة العراقية وتوجهاتها لم يكن هو الهدف والمهمة!)..

 

وبعد كل هذه السنوات من الإحتلال ومصادرة السيادة والإرادة والتحكم بكل مقدراته وبعد كل هذه التريليونات من الدولارات التي تم صرفها وهذا الكم الهائل من الخسائر البشرية ..فإن العراق اليوم لم يتقدم خطوة واحدة على هذا الطريق الذي تخيلته الإدارة الأمريكية السابقة وغامرت بوجودها لتخطيط مساراته ورسمه وأبحرت بأساطيلها بهدف خلقه!..

وعوضا عن أن يَخلُق العدوان والإحتلال من العراق نموذجا متقدما للحرية والتقدم والتطور والرفاهية فقد خَلقَ لنا نموذجا هجينا ومتناقضا ومثالا للتفتت والتشتت والفرقة والكراهية والحقد والعودة مئات السنين الى نُظم بالية من العشائرية والقبلية والعصبية والعنصرية والطائفية الدينية وأغرق هذا النموذج كل مدن وقرى وحقول ووديان العراق بالدم الذي لاينام أصحابه على ثأر ودَين كما يعلم (الدائن والمديون)!..

 

وتحول هذا النموذج الذي صنعه المُحتل من عامل دائم لقوة إستراتيجية للولايات المتحدة الى عامل ضعف تأريخي دائم لها ولأجيال قادمة كثيرة..

 

وأطاحَ عامل الضعف الأمريكي هذا في أول تأثير مباشر له بالقادة الأمريكيين الذين خططوا لوجوده ونفذوا حملة الغزو لخلقه ..عندما رفضتهم الإرادة الشعبية الأمريكية وإختارت منافسيهم طمعا (بالتغيير)!..

 

ولايوجد اليوم من لايؤمن بأن الإدارة الأمريكية الجمهورية السابقة هي التي خلقت مصدر الضعف الدائم للولايات المتحدة بعيدا في صحراء تبعد عنها آلاف الكيلومترات حيث يُقتل جنودها ويعوقون يوميا وتتراكم آلياتهم ودباباتهم المحطمة في مقابر حديدية هي الأكبر في التأريخ في وقت لم يَعُد خافيا على أي شخص عُمق المأزق والمستنقع السياسي الذي أَقحَمت الولايات المتحدة نفسها فيه من جراء مغامرة وُضعت لها مبررات وأسباب كاذبة وغير حقيقية!..

وتكمن مشكلة هذا المصدر الدائم للضعف الأمريكي أيضا بكونه مصدر ديناميكي متفاعل ( متحرك وغير ساكن وغير جامد ) وتتراكم بوجوده عوامل ضعف نفسية وعسكرية وإقتصادية وإجتماعية تطول بتأثيرها كل الحياة الأمريكية من قمة الهرم السياسي والإقتصادي والعسكري وقواعده وأركانه الى المثقف والمدرس والعامل والمزارع الأمريكي البسيط كمشارك في الحرب وكدافع للضرائب!..

 

ويعرف الديمقراطيون هذه الحقيقة جيدا!..

فإذا كانت الإدارة الأمريكية السابقة هي أساس صنع مصدر الضعف الإستراتيجي الدائم للولايات المتحدة فهل تكون المعالجة بمنع محاسبة من قام بهذا الضرر الدائم والإكتفاء بغلق الملفات والهروب من العراق تحت مسميات عديدة منها مايعرف بخطة الإنسحاب وترك العراق للعراقيين؟..

 

بمعنى ترك العراق للحكومة العراقية الحالية وأحزابها !..

وهل أن ترك العراق بهذه الصورة وهو في هذه الحالة سيكون عامل منع ديمومة تأثير هذا المصدر للضعف الذي أصاب الولايات المتحدة؟..أم سيكون الفرصة الذهبية السانحة لوصم الجبين الأمريكي بالعار الى الأبد؟..

 

أم أن الحل الصحيح يكمن في الإحتكام للعقل للوصول الى حل جذري يعتمد على معرفة الأسباب التي أدت الى خلق ( هذا المصدر وإيقاف نزيف تأثيره)؟..

 

وماذا عن المسؤولية الأخلاقية للإدارة الأمريكية الجديدة حيال الشعب العراقي ؟..

ومَن يتحمل مسؤولية مصدر الضعف العراقي الإستراتيجي الدائم جراء الغزو والتدمير والإحتلال والنهب والتقسيم ونسف منظومة القيم والمباديء؟..

 

وإذا كانت السفينة العراقية تتعرض اليوم للغَرَق بفعل العواصف الهوجاء والأمواج العاتية والمذابح الكبيرة والتدمير الهائل والإستئثار الشخصي والطائفي والعنصري والقتل وحمامات الدم وتناحر وتشتت  كل مكوناتها !..

 

فهل يكمن الحل الأخلاقي الأمريكي بعد كل الذي جرى من جراء إحتلالهم لهذه السفينة تحت وعود وأهداف شتى!..  بالقفز من هذه السفينة الى زوارق النجاة الأمريكية ..وترك السفينة لأهلها وهي بهذه الحالة!..

عندها سيكتب التأريخ رغما عن الجميع :

(إن قرار غزو وتدمير وإحتلال العراق خَلق مصدر الضعف الإستراتيجي للولايات المتحدة.. أما قرار الهروب منه بهذه الطريقة فهو الذي عَزَّزَ الديمومة التأريخية لهذا الضعف)!..

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاحد  / ٠٥ رجــــب ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٨ / حزيران / ٢٠٠٩ م