الكيل بمكيالين .. حتى في التغاضي والدعوة للنظر الى المستقبل !

 
 
 

شبكة المنصور

كامل المحمود

قبل أكثر من عام أوردت صحيفة كريستيان ساينز مونيتر تحليلا ذكرت فيه:

 

( كانت إدارة بوش ترى أن تحرير العراق قد يحّول العراق الى خلية نحل سلمية للديمقراطية بحيث يصبح هذا البلد النفطي ألمانيا الشرق الأوسط ومصدر القوة الإستراتيجية للولايات المتحدة ضمن نظرة متفائلة طويلة المدى.. ولم تعرف واشنطن أنه بدلاً من ذلك سيتحوّل هذا التغيير الى مصدر إستراتيجي لضعف الولايات المتحدة، وإلى "بالوعة" يحتمل أن تستمر مصادرها حتى وقت مقبل ليس قصيراً)!.

 

لقد مضت سنوات طويلة على العراق بعد (تحريره !)..سنوات عانى منها العراقيون كثيرا كما عانى منها الأمريكيون الذين فقدوا أبنائهم وزادت نسب البطالة والعوز والضرائب بينهم وتراجعت مستويات الخدمات المقدمة لهم من جراء مغامرة غزو وإحتلال العراق!..

 

وكان (التحرير!) فريدا في طريقته وأساليبه وأدواته وحتى في (مساندة وسكوت كل العالم عن عدم شرعيته)!..

ولو أن الذي حدث في العراق (كان حدثا داخليا فقط) بحيث أن العالم فوجيء صباحا (بتحرير العراق من النظام السابق!) لكان بالإمكان بل من المنطق السكوت عشر سنوات أخرى قبل أن نرى أو نسمع عند بداية بناء للعراق وللإنسان ليكون (نموذجا سلميا للديمقراطية ولكي يصبح هذا البلد النفطي ألمانيا أو يابان الشرق الأوسط !)..

 

ولكن الذي قام (بالتحرير!) أكبر وأعظم قوة في العالم عسكريا وتقنيا وإقتصاديا وعلميا وكانت تحيط بهذه القوة العظمى وتؤيدها كل القوى العظيمة الأخرى كبريطانيا واليابان وإيطاليا وإسبانيا وإستراليا وغيرها !..وكان من المفروض ان لاتمر سنة واحدة ليتحول العراق الى خلية نحل للبناء والإعمار والإعداد لنموذج فريد في إزدهاره ونموه وديمقراطيته ورفاهيته!

 

فلماذا لم يتحول العراق الى (نموذج مثالي للرفاهية والديمقراطية)؟..

وكيف تحول العراق الى بؤرة للفساد والإرهاب والضياع والتشتت ؟..

 

ولا يريد أحد أن يسمع أن ( قوى الإرهاب والظلام والنظام السابق )هم من وقفوا حجر عثرة أمام هذا البناء!..

لأن المفروض أن يكون رد الفعل هذا محسوب للمخططين الإستراتيجيين الأمريكيين بشكل تفصيلي !..

 

ولأن أكثر من ست سنوات مضت على (التحرير!) وإسقاط الدولة والمؤسسات والنظام وحل الجيش والشرطة أصدرت فيها الإدارة الأمريكية والحكومات العراقية التي تعاقبت على حكم العراق في ظل الإحتلال العديد من القوانين والقرارات التي تضع العراقيل والمحددات وتقطع الطرق وتغتال وتقتل وتعتقل وتُغيب المشتبه بهم وتطرد من الوظائف بغية منع (عودة النظام السابق!)..

 

وتحولت أهداف الولايات المتحدة وحلفائها ومن جاء معها من مهمة جعل العراق (يابان وألمانيا الشرق الأوسط)الى جعل العراق (بالقانون والدستور والقرارات والتوجهات والسياسات والتثقيف والإعلام الموجه ) ساحة يلعبون بها وحدهم كفريق واحد ..وهذا الفريق هو الذي يخطط ويرسم ويحدد وينفذ بكل قوة السلطة والمال ويختار الزمان والمكان والآليات متى يدافع ومتى يهجم ومتى يضرب ومتى يتوقف ومتى وأين يحقق الأهداف التي يرسمها  (لتصفية الحسابات ولكل من له قضية أو شكوى سواء كانت حقيقية او ملفقة للفترة من 17 تموز 1968 الى 9 نيسان 2003)!..

 

وتحول العراق من أقصاه الى أقصاه الى ساحة محاكمة كبيرة ..التُهم فيها كيفية ..وزمن فعالياتها يمتد الى عشرات السنين القادمة !..وكل القضاة والمحامين والإدعاء العام يهدفون الى تصفية من ورد عليه إتهام وكل مرافق الدولة ومؤسساتها المهدمة والتي (يجري بنائها) مشغولة بتبادل الإتهامات!..

 

 وتناست القيادات السياسية والعسكرية الأمريكية ومن جاء معها عن قصد واجب التفكير بكيفية تحقيق (الحلم الألماني والياباني في العراق)!..لتخلق بدلا عنه (نموذج للفوضى والحقد والثأر والإنتقام بزمن لا نهاية له!)..

وقد كلف هذا النهج كل من العراقيين والأمريكيين الكثير!..

 

ففي العراق اليوم وطن مهدم وبائس ومسلوب الإرادة ومسروق وفاقد للأمن والأمان والخدمات ومليء بالمتناقضات والصراعات والمحاصصات والتعصب الطائفي والعنصري وفقدان الثقة وشيوع ثقافة الكراهية والحقد  والإنتقام ومايزيد على مليوني قتيل ومليون إمراة أرملة ومليوني يتيم وأربع ملايين مهجر ولاجيء في الداخل والخارج وغياب للوضوح وعدم وجود رؤية مستقبلية لحل أي مشكلة وفي أي قطاع!..

 

أما الولايات المتحدة فقد خسرت مئات الآلاف من شبابها بين قتيل وجريح ومعوّق إضافة الى الخسائر المادية والإقتصادية وفقدت مصداقيتها عندما غزت العراق ودمرته وإحتلته لأسباب ثبَتَ زيفها وكذبها وإختلاقها وتتحمل المسؤولية الكاملة عما جرى ويجري لاحقا!..

 

 وبعد مرور أكثر من ستة أشهر على وصول الإدارة الأمريكية الجديدة للبيت الأبيض وهي تمتطي حصان التغيير وتحمل سيف (الحق والعدالة) وترفع شعرات (إعادة هيبة الولايات المتحدة التي إنهارت الى أدنى مستوياتها)..طرحت هذه الإدارة خطتها تحت مسمى (الإنسحاب من العراق) ! بدون تحليل للحالة وتحديد مسؤولية الجهة التي تسببت بما جرى للعراق وتركزت الخطة الأمريكية على مبدأ (الإنسحاب وترك العراق للعراقيين )!..

 

وتحت تأثير هذا الجو العام للإحباط في كل المجالات تتوضح معالم السياسة الأمريكية الجديدة التي تتبنى لحد الان نهج (عدم نبش الماضي)!..والمقصود عدم إثارة أي تساؤل أو تحقيق يخص الإدارة السابقة في كل المجالات ..في حين يبقى ملف (ماضينا العراقي ) مفتوحا وخاضعا للتقييم والتحقيق والمتابعة والمحاكمة !..

 

وهنا يتم التأكيد على (بطولة وإقدام وشجاعة وصحة قرارات القادة الأمريكان الذين خططوا وأداروا الأزمة مع العراق والتي إنتهت بغزوه وتدميره وإحتلاله والغوص بمستنقعه والتغاضي عن أخطائهم وضعف معلوماتهم وقصر نظرهم والسكوت على أفعالهم ودوافعها )!..

 

مع التأكيد على (ديكتاتورية وتسلط وعدوانية النظام السابق الذي كان ولايزال يمثل العدو الأول لهم والمضي بقوة بكشف أو تزوير أحداث تغالي بفضحهم)!..

 

فإذا كان منهج الرئيس الجديد أوباما يستند على شعار التغيير  فهل يشمل هذا التغيير مفهومهم للكيل بمكيالين؟..

ثم إذا كان النهج الجديد للإدارة الجديدة يرتكز على مبدأ (عدم نبش الماضي ) وعدم (البحث في ظروف إتخاذ القرارات السابقة ومنها الغزو والتدمير والإحتلال للعراق ) وعدم (جدوى التحقيق في مبررات الإدارة السابقة لشن الحرب على العراق) فلماذا تستمر الإدارة الجديدة بترديد نفس تقييم الإدارة السابقة للوضع العراقي قبل الحرب؟..وتؤكد آلتها الإعلامية بإصرار وتفنن على (المظالم والجرائم والملاحقات )! التي جرت في السبعينات والثمانينات ولاتتحدث عن جرائم اليوم؟..

 

أليس هذا دليلا على أن النهج الجديد لازال يؤمن بإستخدام (الكيل بمكيالين)!..وهو إستمرار للإيمان المطلق بما كانت تؤمن به الإدارة السابقة ؟..

 

وبذلك يكون رفع شعار التغيير وفيما يخص العراق يعني (تغيير صيغ التعامل مع الحالة العراقية كما هي مع ثبات الأهداف السابقة) ..

 

وليس ( تغيير النظرة في تحليل تورط الولايات المتحدة فيغزو وتدمير وإحتلال العراق وإنصااف أهله والإعتذار لهم)!..

 

لأن سياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة وإن تغيرت الوجوه فهي لاتعتذر لأحد عن عمل قامت به إدارة سابقة!..

وعن سياسة الإستمرار في الكيل بمكيالين ..

 

فإن المفهوم الأمريكي (لعدم نبش الماضي) يعني:

 (عدم نبش ماضيهم الأمريكي والمغالاة في نبش ماضيبنا العراقي )!..

و(تمجيد القادة الأمريكان السابقين ومهاجمة وفضح قادة نظام العراق السابق)!..

و(على المتضررين وأهالي القتلى والمفقودين والمعتقلين أن ينظروا للمستقبل وينسون أبنائهم)!..

في حين (على المحتل وجماعته أن يستمروا بالبحث في الماضي وتدقيق كل الملفات السابقة بما فيها الإستماع لإفادة شاهد عن حادثة قديمة كان حينها هذا الشاهد  طفلا رضيعا )!..

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الخميس  / ٣٠ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٥ / حزيران / ٢٠٠٩ م