المهمة وحدود المرونة ..

 
 
 

شبكة المنصور

كامل المحمود

شرعت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بالتهيئة لغزو العراق مستندة على سيل كبير من المعلومات الكاذبة التي كانت تتركز بالدرجة الأولى على (إمتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وعلاقته بالقاعدة)..

 

ووصل الأمر الى الذروة يوم 11 سبتمبر 2001 عندما أبدى المسؤولين الأساسيين في البيت الأبيض رغبتهم بغزو وإحتلال العراق وتغيير نظامه وحتى قبل أن يهوي برجي التجارة الأمريكيين من الضربة وقبل أي تحقيق او ورود لمعلومات عن منفذيها!..وهذه الرغبة موثقة في مذكرات لعدد من الساسة الأمريكيين المتنفذين في حينها ومنهم  تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

 

وأبحرت الحملة العسكرية تصحبها إرادة أمريكية وبريطانية عازمة على إحتلال العراق وتغيير النظام مهما كلّف الثمن!..

 

وكانت المهمة المعلنة للحملة هي :

(تجريد النظام العراقي من أسلحة الدمار الشامل بالقوة )..

 

وعسكريا يعني ذلك تدمير قوة العراق العسكرية والإقتصادية وإحتلاله لتجريده من هذه الأسلحة ولأن النظام العراقي كان يمثل (خطرا على العالم)!..

 

وتم غزو وتدمير وإحتلال العراق ..

ولم يتم العثور على أسلحة دمار شامل..

وثَبَتَ عدم وجود صلة أو علاقة للنظام العراقي بالقاعدة..

وثبَتَ أيضا ان العراق لم يكن يشكل مصدر تهديد للعالم!..

وكذَبَت إستخبارات بريطانيا عندما أقنعت مجلس العموم والشعب البريطاني بان العراق يمكنه ضرب لندن بأسلحة كيمياوية وخلال 20 دقيقة!..

وثبَتَ أن كل المعلومات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل العراقية والتي إعتمدتها المخابرات الأمريكية والبريطانية كان مصدرها الإنترنيت ومصادر طلاب دراسات عليا!..

 

وبدأت أسباب الإدارة الأمريكية السابقة وحكومة توني بلير لشن الحرب تتبدل بإستمرار ..

تماما وكأنها أهداف تعبوية وسط معركة محتدمة وملتهبة ويحق لمَن كان يكتوي بنارها أن (يناور) بقطعاته ويحركها بإستمرار فيصول على هدف أو عارضة وعندما يصعب عليه مسكها بعد خسائر كبيرة يعود ليستغني عنها بالتراجع أو التقدم في محور آخر ليعلن عن هدف جديد!..

 

لقد كانت الحرب على العراق من وجهة النظر الأمريكية تتميز بهذا النمط من (السياسة الديناميكية) ذات المناورة العالية (في الوسائل والمباديء والأهداف ) والقادرة على (التلون والتأقلم مع الأحداث السريعة ) مع (سرعة الرد في الفعل الذي تراه مطلوبا ) و(سرعة رد الفعل عليه )..ثم التعامل مع ما يُستجد من احداث وتطورات في حينها!..

 

وتحولت الأهداف الكبيرة والرنانة الى أهداف أقل بريقا..

وتميزت هذه الأهداف بانها لا ترتقي لدرجة تحميلها كل هذه التضحيات البشرية والمادية والمعنوية وفقدان للمصداقية!..

 

ويمكن إعتماد هذه المناورة في فنون الحرب والسياسة ..شريطة أن تكون المهمة واضحة!..ومن غير المعقول أن المهمة غير واضحة ويجري تغيير المقتربات إليها!..

 

والغريب إن السياسة البريطانية  بعيدة جدا عن هذا الأسلوب !..

فهي تتميز في أحيان كثيرة بالدراسة والتأني وحساب الإحتمالات وبالصرامة والوضوح والتشدد ..كما أنها تتبنى الفعل بعد دراسة وتمحيص وتحليل ومعطيات ويكون رد فعلها دائما رد غير إنفعالي وغير آني ..كما تتميز السياسة البريطانية بالمكر (والعمل الهاديء والمخفي وطول النفس والبال والصبر والتحمل ) لتحقيق الأهداف .

والأغرب إن كلا الإتجاهين الأمريكي (المتسرع ) والبريطاني (المتأني) إلتقيتا في مسار واحد من أجل تحقيق هدف مشترك واحد!..

 

وإتفقا على أن يكون هذا الهدف المشترك هو ( تخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها النظام العراقي  بالقوة العسكرية المباشرة وإحتلال العراق)!..

 

وإستند الطرفان على معلومات (ثبت بطلانها حيث تم إختلاقها عمدا لتمرير الحملة العسكرية)!..

 

وكان من أهم المعلومات التي خُدع بها الشعب الأمريكي والبريطاني والعالم هي :

 

(الولايات المتحدة..أن النظام العراقي نظام خارج عن الإرادة الدولية وهو حليف للإرهابيين وللقاعدة التي شنت بالتعاون معه وبدعمه هجومها المدمر على المدن الأمريكية في 11 أيلول ..وبإمتلاك هذا النظام لأسلحة دمار شامل فسيقوم بتسليمها  الى القاعدة لتقوم بشن هجمات مرعبة  على الولايات المتحددة وبقية حلفائها وتهدد الأمن القومي الأمريكي والعالمي..والنظام العراقي بذلك يشكل خطرا على العالم وعلى امريكا بالتحديد)!..

 

و(بريطانيا..إن  النظام العراقي وبإمتلاكه لهذه الأسلحة الفتاكة قادر على أن يضرب بريطانيا بها خلال 20 دقيقة)!..

 

وأثبتت الحقائق إن هذه المعلومات الإستخبارية كانت قد أُخذت من مواقع الإنترنيت وبعضها من بحوث عامة للطلاب في بريطانيا!..

 

بعد أن تم غزو وتدمير وإحتلال العراق وثبت عدم وجود هذه الأسلحة وعدم وجود علاقة للنظام العراقي بالقاعدة  تغيرت الأهداف عدة مرات ..

 

وتغيرت معها الوسائل..

وآخر توضيح رسمي للإدارة الأمريكية  الجديدة حول تحديد السبب الرئيسي للحرب والهدف من إرسال القوات الجوية والبحرية والبرية الأمريكية لغزو وإحتلال العراق هو الذي ورد على لسان الرئيس الأمريكي الجديد  باراك أوباما في خطابه لشرح خطة الإنسحاب الأمريكي من العراق يوم 27 شباط 2009 بقوله:

 

(And so I want to be very clear: We sent our troops to Iraq to do away with Saddam Hussein’s regime – and you got the job done (.

 

( وأريد أن أكون واضحا جدا : لقد أرسلنا قواتنا الى العراق للتخلص من نظام صدام حسينونفذتم هذه المهمة).

 

قد يكون هذا الحديث والتوصيف الواضح جدا ..كلاما مهنيا ومحترفا وموجها للقوات الأمريكية التي تم تكليفها للذهاب للعراق للقيام بمهمة معينة..

 

وهي قد قامت بإنجاز هذه المهمة !..

 

والجندي في كل مكان في العالم عليه أن ينفذ أوامر قائده ..

 

والقائد له الخيار بين أن يُطلع جنوده على المهمة وتفاصيلها والهدف منها ليضفي على قراره صفة الوطنية أو حماية الأمن القومي أو للدفاع عن مكتسبات وطنية وشعبية مهمة أو للدفاع عن شرف وكرامة الشعب والعائلة والوطن..وهذا الكلام سيزيد من حماسة الجندي وإندفاعه ويقلل من الضغط النفسي الذي يواجهه وهو يتوجه الى منطقة مجهولة للقتال..

 

وهذا ما فعله القائد العام للقوات المسلحة الأمريكية الرئيس بوش وأركان إدارته السياسية والعسكرية ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير عندما صوروا للشعبين الأمريكي والبريطاني ولكل العالم (إن هذه الحرب هي لدوافع إنسانية لحماية الأمن العالمي والمحافظة على أمن الولايات المتحدة وبريطانيا )!..

 

وحتى أنهم إستخدموا تعابير أكثر حساسية لتحريك مشاعر الشعب الأمريكي والبريطاني عندما قالوا : (إن هذا الواجب هو واجب مقدس ) وإن هذه الحرب (هي إرادة الله ورغبته للقضاء على الشر!)..

 

وكان يمكن لهما في حينه أن يبلغوا القوات العسكرية (إن مهمتكم هي الذهاب  للإطاحة بنظام سياسي في العراق )!..

وسوف لن يتردد الجندي الأمريكي أو البريطاني في الذهاب لتنفيذ الأمر !..

 

ولكن مئات الملايين من السياسيين والعسكريين والناس في الولايات المتحدة وبريطانيا وكل مكان من العالم سيسألوا بوش وبلير :

 

لماذا هذه المهمة ؟..

وما الداعي لها ؟..

وماذا بعدها؟..

 

وكعادة القوة العظمى في تعاملها مع تداعيات الفعل الذي قامت به فقد إختزل الرئيس الأمريكي كل التضحيات والصعاب والقتل والإعتقال التشريد والخوف والرهبة في عيون الأطفال العراقيين ودموع الأمهات والشيوخ والبيوت والمدن والقرى المهدمة والدولة المحطمة بتعبير واحد لجنوده:

 

إنكم أنجزتم المهمة..

 

ويقول في مكان آخر:

 

(وعلى العراقيين أن يقوموا بدورهم الآن !..فنحن لم يكن بمقدورنا أن نراقب كل شارع) !..

 

وبحيادية مرة أخرى نقول:

 

لقد بدأت المشكلة في العراق على كذبة مختلقة ..

وجرى تضخيم وتصديق الكذبة حتى تحولت الى حقيقة..

وجرى التعامل مع هذه الكذبة كحقيقة مطلقة أنتجت وضعا هجينا وغريبا يفتقد منذ بداية نشوءه الى المصداقية والشفافية والنزاهة..

 

وإذا كانت مهمة الولايات المتحدة بالمجيء للعراق هي فقط (للتخلص من نظام صدام حسين)!..وإن هذه المهمة قد أنجزت!..

 

فما الذي كانت الحشود الأمريكية العسكرية والأمنية والسياسية المرابطة في العراق  تنتظره بعد تحقيق ذلك؟..

وبعد ست سنوات من تحقيق هذا (الإنجاز) لماذا لازالت موجودة في العراق!..

 

وسوف لن نسأل مالذي قدمه هذا الإنجاز لمصداقية وقيادة وقوة الحجة ونزاهة الإدارة الأمريكية والولايات المتحدة !..

 

ولن نسأل الذين يقولون من القادة الأمريكيين إن (إسقاط النظام العراقي ) لم يكن غاية بل وسيلة! عن ما تحقق للولايات المتحدة وللشعب العراقي بهذه الوسيلة!..

 

ولكننا وقبل أن نسجل ملاحظة على توصيف الرئيس الأمريكي الجديد للمهمة وإنجازها مستغربين من إتباعه نفس نهج بوش الذي غامر بالسمعة الأمريكية ومصداقيتها وحياة شبابها ..

 

نريد أن نسأل:

 

إذا كانت نزاهة ونظافة الغايات تقاس بتوصيف وظائفها ووسائلها ..

وإذا كانت الوسائل غير أخلاقية..

والمستندات كاذبة..

والغايات غير شرعية..

والنتائج كارثية ..

فهل يكمن الحل السحري في المرونة المفرطة في التوصيف وإختيار التعابير والمفردات ؟..

أم بالعودة للعقل والمنطق والحق؟..

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاثنين  / ٢٧ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٢ / حزيران / ٢٠٠٩ م