الهزيمة النفسية قبل الهزيمة في الميدان

 
 
 

شبكة المنصور

كامل المحمود

لم يعد بالإمكان أن تتجاهل الإدارة السياسية والقيادة العسكرية والشعب الأمريكي حقيقة تزايد نسبة إنتحار الجنود الأمريكان في العراق بعد أن ظهرت على سطح الأحداث في بحر المواجهة والمشاريع والتصريحات والعمليات والتحالفات في العراق تقارير صدرت من الجيش الأمريكي تبين بان معدل الإنتحار بين الجنود الأمريكيين قد بلغ رقما قياسيا بحيث أن التقارير الرسمية أكدت بأنه في شهر يناير/كانون الثاني الماضي زاد عدد الجنود الأمريكيين الذين انتحروا على عدد زملائهم الذين قضوا في ساحات القتال!..

 

الانتحار معناه أن يقوم الفرد بقتل نفسه عمدا وذاتيا وهو التصرف المتعمد من قبل شخص ما لإنهاء حياته ويرى آخرون أنه قتل النفس تخلصا من الحياة .. وقد اختلفت الآراء حول الانتحار هل يعكس شجاعة الشخص المنتحر أم جبنه وإنعكاس لفشله وعدم الحاجة لاستمرار حياته.

 

وأكثر الطرق شيوعا هي الشنق ثم القتل بالسلاح الناري ويحدث الانتحار لعدة عوامل منها النفسي حيث حلل فرويد  الانتحار بانه عدوان تجاه الداخل ثم قام عالم اخر بتعريف ثلاث ابعاد للانتحار هي رغبة في القتل ثم رغبة في الموت ثم رغبة في ان يتم قتله.

 

وعالم آخر وضح بان الانتحار يختلط به عدد من الأحاسيس منها الانعزال واليأس والاكتئاب ويشعر بألم انفعالي لا يطاق ولا يوجد حل سوى الانتحار.

 

أما المدرسة المعرفية فقد رأت الانتحار برؤيا النفق أو التفكير غير المرن حيث أن الحياة مريعة ولا يوجد حل سوى الانتحار والبعض رأى الانتحار أنه تعبير عن البكاء الرمزي أو للفت الانتباه.

 

وقد تكون هناك أسباب أخرى مثل ضعف الضمير وعدم القدرة على التكيف مع المجتمع وهنا تظهر فكرة إريك فروم حول الانتحار حيث الصراع بين الداخل والخارج وعدم الالتفات للعوامل الحضارية الاجتماعية. قد تباينت الردود على الانتحار ففي الهند واليابان يكون الانتحار مصدر شرف عندما تحترق الزوجة بجانب زوجه الميت أو مثل طياري الكاميكازي الانتحاريين وبعض المجتمعات تجعل الانتحار كجريمة وخطيئة لا تغتفر وعادة ما يشعر أقرباء المنتحر بالذنب والعار والهجر..وبعض الشعوب لديها رمزية خاصة للانتحار كما هو عند اليابانيين .

 

ويحرم  الدين الإسلامي قتل النفس بأي حال من الأحوال ويشير الى أن النفس ملك لله وليس لأحد أن يقتل نفسه فحياة الإنسان  ليست ملكا له وبالتالي لا يجوز التحكم بها من قبله.. لقول الله تعالى في القرآن الكريم  : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً" (النساء :29).

 

و في أغلب المذاهب المسيحية يعتبر الانتحار ذنب إستناداً إلى كتابات المفكرين المسيحيين المؤثرين من العصور الوسطى مثل القديس أوغسطينوس والقديس توما الأكويني ولم يعتبر الانتحار ذنب تحت الرمز البيزنطي المسيحي أجستنيان الأول. 

 

عندما تسربت الأنباء الرسمية بان الإنتحار بين الجنود الأمريكان من قوات المارينز يزداد سنويا بنسبة تزيد على 22% !..فهذا أمر يحتاج الى وقفة جدية من قبل كل من الجانب الأمريكي والطرف الثاني من معادلة المواجهة معهم في الأرض العراقية الملتهبة..

 

بالنسبة للجانب الأمريكي ..

وبعد الإعلان الرسمي من أن معدلات الانتحار في صفوف جنود الجيش الأمريكي في شهر يناير/كانون الثاني الماضي تجاوزت جميع الأرقام التاريخية..

 

الجنرال بيتر تشياريلي نائب رئيس هيئة الأركان للجيش الأمريكي قد أبدى قلقه حول ارتفاع معدل انتحار الجنود وذلك في شهادته أمام لجنة  الكونغرس المصغرة للجيش الأمريكي وقال:

 

"أعتقد أنها الآثار التراكمية لعمليات الانتشار التي تمتد من 12 إلى 15 شهراً.". وقد أشار شياريلي إلى 133 حالة انتحار مؤكدة بين أفراد الجيش الأمريكي العام الماضي واستمرار التحقيقات في سبعة أخرى محتملة.

 

وقال الجنرال جميس أف. آموس، نائب قائد العمليات بالبحرية الأمريكية:" إن الانتحار يقف في المرتبة الثالثة بين مسببات الوفاة بين  أفراد الجيش".

 

وشدد على أهمية "تحجيم وتغيير المفاهيم السائدة بشأن العار والخزي والخجل من طلب المساعدة."

 

ومن جانبه لفت السيناتور لينسدي غراهام إلى أن معدلات الانتحار بين العسكريين فاقت نسبة إنتحار المدنيين ولأول مرة العام الماضي  ومضى متسائلاً: "ماذا يجري؟."

 

في حين أعلنت قاعدة فورت كامبل العسكرية الأمريكية في بيان لها عن إغلاق أبوابها لمدة 3 أيام بعد توالي حوادث الإنتحار بين جنودها حيث ستقوم بعملية لتدريب جنودها حول طرق منع الإنتحار أو تجنب الإقدام عليه.

 

ووصف ضابط كبير الوضع لشبكة CNN بالقول إنه "مرعب" وأن القوات المسلحة تحاول البحث في أسباب الظاهرة في حين رجحت مصادر طبية أن يكون للأمر علاقة بأشهر الشتاء الباردة والقاسية وتزايد المهام المرهقة والإكثار من الأدوية المضادة للاكتئاب.

 

وبدأت الجهات الأمريكية دراسة مكثفة لمعرفة  الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الإنتحار..

هل هي حالات الإجهاد والضغوط التي يتعرض لها الجندي الأمريكي ؟..

أم هي حالات الكآبة الناجمة من فقدان الإحساس بالآمان وتناقص نسبة إحتمال العودة سالما لأرض الوطن؟..

هل يعود السبب الى ليل العراق الطويل أم شدة برودته في الشتاء وحرارته اللاهبة في الصيف؟..

أم هي الشعور بعدم جدوى البقاء والقتال وضعف الأيمان بالقضية التي قاتل أو يقاتل من أجلها؟..

 

وقد أكدت مجموعة من الخبراء المتخصصين في دراسة عمليات الانتحار على وجود علاقة قوية تربط بين معدلات الانتحار والاكتئاب الناتج عن الأزمات المالية مشيرين إلى أن نتائج الأزمة الحالية قد تكون أسوأ من فترات الركود السابقة.

 

وقال الدكتور آلان بيرمان المدير التنفيذي لرابطة مكافحة الانتحار في أمريكا: "لو أثبتت هذه الفترة بأنها شبيهة بفترة الثلاثينات، فإنه لابد لنا أن نقلق من العواقب."

 

وقالت العقيد كاثي بلاتوني كبيرة أخصائيي علم النفس لدى قوات الاحتياط الأمريكية ووحدات الحرس الوطني: " إن أشهر الشتاء الطويلة والباردة قد تكون بين أكبر العوامل الدافعة للانتحار".

 

وشرحت قائلة: "خلال الشتاء يشعر الناس بالمزيد من الإحباط وفقدان الأمل والمساعدة بسبب الطقس البارد والسماء المكفهرة."

 

غير أن بلاتوني قالت : "إن تزايد المهام العسكرية للوحدات الأمريكية إلى جانب تفاقم المشاكل النفسية لدى الجنود وإكثارهم من تناول العقاقير المضادة للاكتئاب بسبب افتراقهم عن عائلاتهم".

 

وحذرت بلاتوني من أن الكثير من تلك الأدوية قد تترك آثاراً جانبية تغذي فكرة الانتحار لدى المرضى وخاصة أولئك الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 24 عاماً كما انتقدت استمرار نظرة بعض الضباط السلبية نحو جنودهم الذين يطلبون الحصول على مساعدة نفسية رغم تعليمات القيادة العسكرية بتشجيعهم.

 

ونظراً لأهمية هذه التطورات فقد قام الجيش الأمريكي - في خطوة نادرة - بنشر حصيلة حالات الانتحار لشهر يناير/كانون الثاني عوض انتظار نهاية العام لوضع تقرير نهائي كما تم إخطار الكونغرس وكبار المسؤولين العسكريين بالوضع.

 

ولم تفاجئ نتائج هذا التقرير كيفين لوسي الذي إنتحر إبنه جيفري (23 عاماً) وهو جندي مارين سابق بشنق نفسه بعد 11 شهراً على عودته من العراق.

 

ويقول كيفين إن جيفري طلب منه في الليلة السابقة لانتحاره وتحديدا في الساعة 11:30 مساء:  "أن يجلس في حضني وأن أهزه".. مشيرا إلى أنه ظل يهزه طوال 45 دقيقة.

 

أما معالجه النفسي فقال إن ما قام به جيفري هو اللجوء إلى آخر مكان آمن وهو حضن أبيه.

وأشار كيفين أن إبنه لم يكن قادراً على الحصول على العلاج اللازم من إدارة قدامى المحاربين.

 

وتابع: "الجزء الغبي في الأمر كله هو أننا كنا نريد من أي شخص منهم أن يعترف بإرتكاب خطأ، ولكن لم يفعلوا ذلك حتى الآن."

 

وفي الضفة المقابلة لساحة المواجهة ..

مالذي نستنتجه من هذه الحقيقة؟..

 

لقد كانت حرب الولايات المتحدة على العراق حملة مدمرة وحاقدة وإنتقامية لم يتوانى فيها المحتل من إستخدام كل الوسائل والأسلحة للوصول الى هدفها بدون تقدير للمواقف والضرورات فكان الإستخدام المُفرط للقوة والترويع لخلق حالة الصدمة الهائلة سمة كل العمليات العسكرية الجماعية والفردية وفي فعاليات الرد على مصادر النيران ..

وجرى تطبيق ذلك على البيوت الآمنة والأحياء والمدن..

 

وأصبح التعامل مع أي معلومة إستخبارية من أي مصدر حقيقة مؤكدة!..

 

وكانت الصواريخ الموجهة وقنابل الطائرات وقذائف الدبابات والنيران الكثيفة والتدمير والهدم وقتل الأبرياء بشكل جماعي هي الرد الهستيري المباشر للتعامل مع أي معلومة بوجود عناصر مقاومة أو تجمع يناهض الإحتلال ..

وكان التعامل مع هذه المجموعات المقاومة يجري وكأنها عناصر إرهابية ..

 

وكانت الأوامر بشن  الهجوم المدمر تصدر من أي تسلسل قيادي في الميدان بدون الرجوع الى قيادة عليا او إدارة سياسية وأحيانا يكون الرد المباشر وفق تعليمات سابقة من آمر الفصيل او الحضيرة مثلما حدث في مذبحة حديثة عندما قام الجنود الأمريكان بقتل المدنيين الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ من بيت الى بيت بدون تمييز في ردهم على مصدر بسيط للنار تعرض لدوريتهم!..

 

وتتحمل منظومة القيادة في الإدارة الأمريكية كل المسؤولية عن نتائج وتداعيات هذا الإحتلال..

ومنها حالات الإنتحار وقبلها القتل والتعويق ..

فهي التي رسمت صورة للعدو ..

وإختارت مكانا له ..

وكان العراق..

وخلقت مبررات ومسببات وظروف كاذبة للغزو والتدمير والإحتلال ..

ووضعت أهدافا بشعارات فاقت في (ثوريتها) شعارات العالم الثالث!..

وجمعت للحملة خيرة شبابها وزجتهم في النار ..

وبعد أن هدأت العاصفة..وزال غبارها ..

عرف الجنود الأمريكان في الميدان زيف الشعارات والأهداف..

وإختلط الأمر عليهم !..

وتداخلت الألوان !..

ولم تَعُد هنالك من قضية !..

 

فتحول الجندي الأمريكي من (عسكري يدافع عن قضية) الى (مرتزق يقتل بلا رحمة وبدون هدف!)..

وتحول (الهدف الإرهابي المدجج بالمفخخات والأسلحة ) الذي يريد الجندي الأمريكي إقتناصه بغية الإقتراب من نهاية المواجهة وتحقيق (النصر) الى قتل (طفل رضيع وإمرأة وشيخ عجوز) حيث تخلى في قتلهم عن شرفه العسكري وقسم الولاء لضميره ليزداد غرقا في مستنقع لا قرار له!..

 

وعوضا عن قيام هذا العسكري الأمريكي الذي جاء (بقناعة وجود قضية له) بقصف (قاعدة حصينة للمخربين والإرهابيين!) فقد قام بتدمير بيوت طينية ومساجد ومدارس تناثرت بين حطامها أشلاء الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ!..

 

وتحولت قضية( مكافحة الإرهاب ) و(قتال الأعداء خارج حدود الوطن) و(حماية أمن أمريكا)الى (إحتلال وطن وإرهاب أهله) و( قتال شعب آمن لايمثل تهديدا للولايات المتحدة) و(خلق حواضن وأجيال تكره أمريكا وتناصبها العداء)..

وتحولت أحلام الجنود الأمريكيين بالعودة للوطن (بنصر مؤزر) الى عودة للوطن (بتابوت وعَلَم)..

وهكذا خلقت هذه الأحداث للجندي الأمريكي حالات الإجهاد والضغوط النفسية القاتلة ..

ونَمَت في روتين حياتهم المليئة بالتدمير والقتل حالات الكآبة وفقدان الإحساس بالآمان واليأس ..

وأصبحت كل ليالي العراق طويلة وثقيلة عليهم وليست فقط ليالي الشتاء ..

وأصبحت كل الأيام فيه باردة على الروح ..

وحارة تلهب العقل والضمير ..

ويتسائل الجميع ..

 

ماهي جدوى الإستمرار بالقتال ..وعن أي قضية يقاتلون؟..

 

وشيئا فشيئا تحولت كل الذكريات والآمال الى كوابيس دائمة..

لايبعدها النوم ..

ولا تفارقهم في اليقضة..  

والذي لازال لديه ضمير وتعذبه الذكريات في المواجهة في العراق كان قد إختار طريقا خاطئا لينهي عذابه الدائم !..

اما مَن لا ضمير له..

فهو في غيّه وعاره باق..

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ٢١ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٦ / حزيران / ٢٠٠٩ م