حكاية سرود وابو سرود وحدود الاقليم بين الكرد واليهود
صفحات من تاريخ قد تنسى من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي

 
 
 

شبكة المنصور

ا.د. عبد الكاظم العبودي

من مستهل عنوان مقالتي لابد من ان الكثيرين من رفاقنا وزملائنا الذين درسوا يوما في الدول الاشتراكية خلال السبعينيات وما بعدها سيتذكرون صاحب هذا الاسم وشهرته بينهم. وربما هناك منهم لا يعرفون كثيرا إبنه سرود. ولكنهم بالتأكيد يعرفون الكثير والكثير عن أدوار عمة سرود ، الرفيقة" عمومة" المسماة "عميدة مصري" ولا يمكن نسيان صورتها وهي تصول وتجول بعكازتها في اجتماعات منظمة الحزب في موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي. امتازت " عمومة " بصرامتها مع الرفاق القادمين توا للدراسة في موسكو، وكان لها من المخبرين والعيون الكثير من الاسماء التي لا اريد فتح ملفاتهم ولكن الكثير منا يتذكرونهم اليوم وهم معروفون في حياتنا واخبارنا السياسية المتداولة هذه الايام. و عمومة ، مثل أخيها يظل دورها غير المكتوب بعد بأمانة في صفحات وتاريخ الحزب الشيوعي العراقي يثير الكثير من علامات الاستفهام. فقد رُسمت لها صورة البطلة والرفيقة الاسطورية منذ تأسيس الحزب في الاربعينيات حتى إشرافها شبه المباشر في تسيير منظمة الحزب في موسكو خلال عهدة عزيز محمد.


كانت دكتاتوريتها وصيتها قد بلغت جميع رفاق ومنظمات الحزب في الداخل والخارج طوال سنوات السبعينيات والثمانينيات وربما حتى التسعينيات. لا ادري.أين وصل بها الدهر. أما الرفيق ابو سرود" يعقوب مصري " أو عادل مصري ، فقد شغل صفحات واسعة من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق وله ينسب أحيانا وخطئا أنه أول سكرتير للجنة مناهضة الصهيونية في العراق. ولكن الرجل عرف مقامه الحقيقي، وبقي في الظل ولم يظهر الا في المناسبات التي يحتفل بها الحزب بتقديمه فيها واجهة ناطقة من متحف التاريخ الحزبي الذي يريدونه.


اكتفى الرجل بدوره الخدمي وطاعته لمن هم فوقه تنظيميا مهما كان تاريخهم ، عاش بسيطا، أين تم توظيفه في اذاعة براغ العربية او مجلة السلم والاشتراكية كي يبقى قريبا من لجنة تنظيم الخارج " لتخ" وعضوا فيها . عرف كيف يكون قريبا من الكولسة مع كاردينالات الحزب والتنظيم المطلوب لهم. يميل مع الاقوياء من وجوه الانتهازية الحزبية التي شاعت وترهلت ونخرت جسد الحزب في أجواء من المنافسات والتزاحم حول المناصب الحزبية من دون كفاءة. وهو قنوع بأي دور يعطى له، طالما يظل يشغل أهم موقع يتطلع اليه كيهودي في موقع يلعب فيه المال وجمع التبرعات والهبات والمنح الدراسية والاستقبالات في الخارج دورا هاما.


شغل مسؤول اللجنة المالية في لتخ (لجنة تنظيم الخارج) بمقرها في براغ في سنوات السبعينيات والثمانينيات قبل ان تستلم منه منصبه رفيقة أخرى، ربما تكون بشرى برتو. من الجزائر وحدها كانت تُفرض على رفاق التنظيم وأصدقائه إتاوات التبرع الاجباري بثلاث تحويلات شهرية بالعملة الصعبة بإسم الحزب. ثلاث الاف دولار سنويا كانت تصل من الاموال المحولة بالابتزاز والتخويف والطعن بالخيانة او مجافاة التنظيم. ووصلت المبالغ المحولة الى ما مجموعه ثلاث ملايين دولار سنويا من تحويلات العراقيين العاملين في الجزائر .


أبو سرود وغيره، من اعضاء اللجنة المالية للحزب بالغوا في التقشف بحق رفاقهم من ذوي الحاجات المادية والظروف الصعبة، وأخفوا الارقام الحقيقية لحجم ألتبرعات المرسلة من منظمات الحزب من اليمن والجزائر وليبيا إضافة الى منظمات الدول الرأسمالية التي كانت ترسل في كل المناسبات إتاواتها الحزبية.


يعقوب مصري، أبو سرود، والى لحظة رحيله الى الحياة الفانية ظل في الظل أتعبته الرحلات المكوكية للإشراف أحيانا على اجتماعات بعض منظمات الخارج، يرسلونه، عندما لا يهتدي الى زيارة تلك المنظمات الرفاق من الوزن الأثقل، تبركا منهم بالبقاء في براغ وحميمية اجوائها، ورومانسيتها الخلابة وقربهم من المركز التنظيمي ومجلة قضايا السلم والاشتراكية. لو راجعتم قوائم الجواسيس ممن تعاونوا مع الشرطة السرية الجيكوسلوفاكية التي نشرت علنا بعد سقوط جدار برلين ستكتشفون العجب العجاب من وجود مثل تلك النماذج في صفوف حزب شيوعي يوما، ولا تتعجبون إن رأيتموهم أيضا وهم في أحضان بريمر والمحاصصة الطائفية وخدام الاحتلال للعراق.


لم يطلب ابو سرود مجدا أو جاها عراقيا، وغالبا ما واجه مواقف صعبة أثارها في وجهه بعض الرفاق المتمردين او الغاضبين في بعض منظمات الخارج، الناقدين لسياسة الحزب او الناقمين بحدة على أشخاص في قيادة "لتخ" . وكثيرا ما استغل مسؤولوا التنظيمات الحزبية في الخارج فرصة زيارة الرفيق ابو سرود ليطلبوا منه تلطيف الاجواء والتحدث عن ذكرياته السجنية والنضالية وتاريخه الحزبي وهو وسط غمز ولمز البعض منهم دون خجل. أبو سرود لا يأبه لذلك ويستمر في السرد دون ملل . فهو فطن ومتكيف لكل مثل هذه الاجواء؛ ظل يواصل قصصه مثل أي روزوخون يحكي في مقهى شعبي ببغداد ايام العثمانيين. تحدث كثيرا ومرارا عن مذكراته ومعاشرته مع فهد، ومعايشته لقيادة الحزب او مقابلته لبعض الشهداء او حتى الاحياء من خريجي المعتقلات العراقية ولم ينس ابو سرود مواقف الخونة والمنشقين الذين باعوا الحزب او تمردوا عليه او تركوه لهذا السبب أو ذاك. ولم يعترف مرة واحده بلحظة ضعف إنتابته في حياته النضالية وهو الذي قابل عشرات الجلادين والمحققين صامدا صمودا أُسطوريا.


أبو سرود شخصية حميمية العشرة عُرفت ببساطتها الظاهرية، وتواضعها الجم وانغماسها حد الاذنين في العمل الحزبي. ربه الحزب وأنبيائه القادة في براغ والمكتب السياسي. لا أعرف رغم مقابلاتي العديدة لي محققا معي عن هفوة او شكوى حزبية. أقصد اني لم اكتشف سلوكه معي ومع غيري، إن كان الرجل هكذا بطبعه أم أنه يتقمص دورا رسمه لنفسه ليبدو ساذجا احيانا او طيبا الى حد القرف. يختار الرجل لنفسه المواقف غير المزعجة له كي لا يواجه المشاكل مستقبلا في تنظيمات حزب ورفاقه التي ظلت دائما عاصفة العلاقة بين القيادة والقواعد.


أبو سرود، رغم تسميته من قبل البعض: (انه تاريخ أو دفتر الحزب وذاكرته) حرص أن يكسب في المحصلة صداقات وعلاقات لا تثير الشبهة من طول صبره العجيب. إبتعد عن العداوات الحادة كما أبتعد عن الصداقات الحميمية عن قرب، وتفادى إتخاذ موقف الرفاق الغلابى المقهورين حزبيا أو التعلق بإذيال مجموعة "الكواسج"و " الحيتان" المتوزعين في منظمات الحزب في الداخل والخارج. والتي تفاخذت وتنازعت وانتزعت جسد وجلد الحزب ومزقت تأريخه ما بين يهود وكرد ولواحقهما من البؤر الانتهازية قبل وبعد اعدام الرفيق فهد ورفاقه.


عرفت مجلة " الثقافة الجديدة" به بصورة عرضية ومقصودة في عدد لها خاص صدر بذكرى تأسيس الحزب في آذار1982 العدد 139. ومن خلال مقابلة كتبتها رجاء الزنبوري. خصصتها كاملة لأخت الرفيق ابو سرود المسماة عميدة مصري . ورد التحقيق بعنوان (مطبعة الحزب... محاكمة الرفيق فهد... أول تنظيم نسوي في السجن) .


أعطت المقابلة بكاملها الفرصة للرفيقة عميدة مصري حرية تدوين التاريخ والحوادث المفصلية بتاريخ الحزب كما أرادت هي، وكما تشتهي جماعتها؛ من دون تأكيد لآخرين من الاحياء أو نفي لما دونته على صفحات الثقافة الجديدة يومها وما بعده رغم مرور ثلاث من العقود.


وبعيدا عن الاسلوب الروائي للتحقيق الصحفي. فان الوصف التالي لمحلة القاطرخانة ، الحي الشعبي الواقع بجانب الرصافة المطل على شارع الوثبة شرقا وشارع الجمهورية غربا الرصافة كان يتراجع أمام التركيز على دور بطلة التحقيق المسماة عميدة مصري وأخيها ، الساكنين في أحد بيوت القاطرخانة الحزبية ، اين نقل الحزب يوما مطبعته السرية بعد اعتقال الرفيق فهد. ويتناسى التحقيق حقائق تلك الفترة العصيبة ويسلخ حقائق التاريخ سلخا ومعه آلام من تعذبوا ومن تشردوا من سجنوا .


تناسى التحقيق جملة من الحقائق لابد من تقليبها مرات ومرات عديدة. فترة عاشت فيها منظمات الحزب صراعات واختراقات عدة، وفي فترة تصاعدت بها مواجهة النفوذ الصهيوني في العراق وفلسطين ليُدمر واحد من التنظيمات الوطنية الكبرى والهامة في مسيرة العراق والمنطقة على مذبح شهوات بعض من أعضائه الطارئين على مسيرته وأهله ممن تسلقوا بذكاء وحيطة الى حيث أرادوا ولا زالوا هناك.


لا ينكر المنصفون أنه كانت منظمات الحزب وشخصياته تحت تأثير العديد من اليهود من مثل يوسف هارون زلخة ويوسف زلوف ونعيم دنكور ويعقوب مئير بصري ويعقوب اسحق ومسرور قطان وإبراهيم ناجي شميل. والأخير هو من تبرع بمبلغ 700 دينار لشراء مطبعة للحزب واشرف على بيوته السرية وفي بيته أيضا تم اعتقال فهد ورفيقيه.


وعند الانشقاق الشهير بين شقي الحزب " وحدة النضال" و" القاعدة" في بداية الاربعينيات عاد اليهود طواعية، ومن دون شروط وانضموا الى " القاعدة" تنظيم فهد ، وبانضمامهم كانوا يخططون لتصفية الحزب وجناح فهد بالذات والسيطرة على بقية التنظيم والتسلل اليه والاجهاز عليه أو تركه مطية لتنفيذ الاغراض المطلوبة منه عند الضرورة.
اما الاعضاء الاكراد من مجموعة "وحدة النضال" من الذين رفضوا الانضمام الى حزب فهد وجناحه ووفق شروط حددها فهد لهم، فقد أسسوا منظمة شيوعية قومية أخرى لهم. اصدرت لنفسها عنوانا كرديا "شورش" أي الثورة. وعرفوا بهذا الاسم. منهم صالح الحيدري، علي عبد الله، رشيد عبد القادر، عبد الصمد محمد، نافع يونس، كريم توفيق، ونوري محمد امين. ومن هذه المجموعة تأسس لاحقا " حزب رزكاري كرد" الذي أصدر جريدة "رزكاري" ناطقة له. وعندما بدرت الدعوة لتأسيس الحزب الديمقراطي الكردي " البارتي" عقدت منظمة "شورش" مؤتمرا لها في أب من عام 1946، وقررت الاغلبية منهم حل المنظمة والانضمام الى الحزب الكردي الجديد. ومن تبقى منهم عاد أدراجه الى الحزب الشيوعي العراقي، الذي كانت جريدته الناطقة باسمه " القاعدة" وعلى قيادتها الفعلية فهد آنذاك.


اتاح الكونفرنس الاول في شباط 1944 بروز قيادة فهد ورفيقيه الشبيبي وزكي محمد بسيم وتم إختيار لجنة مركزية، كان من بين اليهود فيها يهودا فرايم صديق. ويبدو ان إعتقال فهد والتخلص منه كان مخططا مدروسا وموضوعا قيد التنفيذ بصورة مبكرة نظرا لموقف الرجل من الصهيونية وسعيه الى تنظيم وتنشيط لجنة مكافحة الصهيونية آنذاك. تركت الاحابيل اليهودية للوقت والظروف ان تعمل دورها واستكمال تنفيذ المخطط حتى لحظة اعتقال فهد عام 1947 . ومن ثم إعدامه في 14 شباط من عام 1949 وبذلك تمكنت العناصر الصهيونية من التحكم بالحزب من الداخل والخارج.


فحتى عام 1945 كان عدد اليهود في صفوف الحزب لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة، يُذكر منهم يهودا فرايم صديق وشقيقه حسقيل"اسحق شيرازي" ومئير يعقوب ونعيم سلمان وأدور فرايم وحاييم عامل مطبعة الحزب. وبعد التحاق جماعة "وحدة النضال" في نيسان 1945 ازداد عدد اليهود في الحزب بصورة ملفتة. كانوا من مختلف المهن والاعمار ومن بينهم نساء. تصاعد عددهم عامي 1947 و 1948. ومنهم من احتمى داخل الحزب ونشط تحت غطاء " عصبة مكافحة الصهيونية"؛ حيث قدمت المجموعة طلبها الى وزارة الداخلية في 12 ايلول 1945 غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء تنفيذ المشروع الصهيوني على ارض فلسطين. لكن وزارة الداخلية العراقية تلكأت في منحهم الموافقة لغالبية فاعليها من اليهود والمحسوبين على الشيوعية ، منهم سليم منشي، نسيم حسقيل يهودا، مسرور صالح قطان، إبراهيم ناجي، يعقوب مصري، مير يعقوب كوهين، يعقوب إسحيق، وموشي يعقوب.


وبعد ضغط واسع منح الاعتماد لها في 16 مارس/اذار1946 ومنحت امتياز باصدار جريدة لها باسم " العصبة" . كان رئيس تحريرها المسؤول محمد حسين ابو العيس. أوقفتها وزارة ارشد العمري في 6 حزيران من نفس العام. للأسف تتوارد أدوار مشبوهة لكثير مكن حالات اندساس ووجود بعض النساء اليهوديات في التنظيم الشيوعي وخاصة في أوكار وبيوت الحزب السرية. وتنسب بعض الخلافات والحساسيات بين الرفاق بسبب تواجدهن في تلك الاوكار والبيوت الحزبية. وقد سببت تلك الخلافات أحيانا أحقادا وخلافات شخصية وصلت الى ما وصفه البعض الى خيانات لم يعترف بها اصحابها حتى اليوم. يكفي القول أن الشرطة داهمت دار إبراهيم ناجي شميل ليلة 18/1/1947 والقت القبض على فهد وحازم وصارم وآخرين، إضافة الى ابراهيم ناجي ويعقوب اسحق، وايلين يوسف، زوجة ابراهيم ناجي.


وبعد تلك الانتكاسة التي ألمت بالحزب. اعتبر يهودا صديق نفسه مسؤولا عن الحزب ومنظماته الباقية وشاركه ونافسه عليها مالك سيف وسامي نادر وكريكور بدروسيان وحسقيل صديق. وهكذا نفذ اليهود مرة أخرى وبغياب فهد الى قيادة وتسيير أهم تنظيم سياسي في العراق عشية قيام الكيان الصهيوني وتقسيم فلسطين. لم تسلم منظمة من منظمات الحزب الباقية خارج السجن إلا وكان على رأسها، أو متنفذا فيها يهوديا.


وعندما اشتدت الحملة على الحزب تنقل يهودا صديق الى شمال العراق وشكل هناك الفرع الكردي الذي ضم نافع يونس وجمال الحيدري وأحمد غفور. لقد تم إعدام فهد ورفيقيه، في حين نجحت اوساط يهودية وصهيونية من إنقاذ رقبة إبراهيم ناجي ويهود آخرين من حبل المشنقة وأُبدال حكم إبراهيم ناجي الى الحكم المؤبد بأمر من رئيس محكمة تمييز العراق، البريطاني الجنسية المدعو مستر ريتشارد.


وفي اعقاب وثبة كانون 1948 وازدياد النشاط السياسي للحزب، وتأسيس اول منظمة طلابية في العراق في 14 افريل 1948 بساحة السباع عاد يهودا صديق الى بغداد، وازدادت صراعاته مع مالك سيف على زعامة وقيادة التنظيم التي انتهت الى اعتقالهما واعترافاتهما. ومن ثم إعادة محاكمة فهد ورفيقيه في عهد حكومة نوري سعيد في 6/1/1949 بتهمة إدارة التنظيمات الشيوعية من داخل السجن، والدعوة الى الثورة المسلحة، فتم نقل فهد ورفيقيه من سجن الكوت الى سجن أبي غريب. واصدر المجلس العرفي العسكري حكمه في 10/2/1949 قاضيا بالاعدام لفهد ورفيقيه شنقا حتى الموت. تحمل فهد ورفاقه مسؤوليتهم السياسية ازاء التهم الموجه لهم. وذهب فهد وزكي محمد بسيم"حازم" " الى منصة الاعدام بشجاعة في 14/2/1949. وبعدهم في 15/2/1949 تم إعدام يهودا صديق" ماجد" مع حسين الشبيبي " صارم" .


ذهبت قيادة التنظيم الى ساسون شلومو دلال الجديدة، ومن خلفه مجموعة يهودية غامضة الاهداف، استخدمت حاجة الحزب الى مطبعة وبيوت وأوكار جديدة ومال لكي تتغلغل من جديد، حيث وفر يعقوب قوجمان الورق للمطبعة التي كانت في بيت شقيقته نجية قوجمان. ووضعت المطبعة في بيت حزبي سكنه يعقوب مصري وشقيقته عمومة، عميدة مصري. وتوزعت المسؤوليات الحزبية والمنظمات الطلابية والعمالية على اليهود من امثال إبراهيم يوسف وحسقيل قوجمان وسعيدة ساسون دلال مشعل (كانت زوجة ساسون دلال وبعدها ظهرت باسم سعاد خيري بعد زواجها بالرفيق زكي خيري) وغيرهم كثيرون.


كان في الوكر الحزبي الجديد بعد إعدام قادة الحزب ببضعة أيام ابو سرود واخته ، كما تروي عميدة مصري، ومعهما محمد علي الشبيبي" شقيق الشهيد حسين الشبيبي" " صارم " ، الذي اعدم مع رفيقيه فهد وحازم . ويواصل التحقيق الصحفي للصحفية رجاء الزنبوري للحادثة بعد أكثر من ثلاث عقود بوصف بطلته عميدة : (... يعرف الجيران شابة حلوة النظرات لم تبلغ عامها العشرين، تسكن تلك الدار بمعية أخيها الطالب. ويتردد" أقارب" العائلة الصغيرة على البيت في فترات متقطعة... الخ ). ولا يلاحظ أي منهم أن الدار كانت وكر حزبي يضم مطبعة؛ لأن عميدة، حسب تصريحها للكاتبة الشيوعية تقول: ( انها ردت على اسئلة الفضوليين من زوار البيت، ان أخاها عادلا يحب الرسم والمعاجين والاحبار الى ان جاء اليوم الذي اهتدى زوار الفجر من شرطة وأمن ورجال التحقيقات الجنائية واقتحموا الدار ويفتضح سر المطبعة بسبب وشاية باع فيها " يهوذا الاسخريوطي" أسرار الحزب وودائعه للعدو)، حسب تعبير ريبورتاج رجاء الزنبوري. ذلك ما حدث ليلة 20 شباط 1949 في ليلة باردة، القي القبض على الطاقم الشيوعي العامل في المطبعة الحزبية التي كانت تصدر جريدته المركزية آنذاك بعنوان " القاعدة " .


وهكذا أُعتقلت عميدة واخيها عادل مصري ومعهم آخرون جلبوا الى مديرية التحقيقات الجنائية، حسب الريبورتاج، واشرف على التحقيق مدير شرطة بغداد المدعو سيد هاشم وهو من اهالي تكريت: (... كان يعرف عميدة ويحترمها ويحبها لأنها تشبه أُخته التي غيبها الموت ). هكذا صرحت عمومة هي بعظمة لسانها للتحقيق الصحفي مع الزنبوري، بحجة أنها كانت معروفة للجلادين ورجال الشرطة في السراي بسبب (ترددها المتواصل على المواقف والسجون لزيارة اخي تارة، أو التذرع بهذه الحجة او تلك للاتصال بالرفاق الآخرين..) وهذا الضابط، كما تقول عمومة : (... أمر بوضعي مع المعتقلات السابقات من رفيقاتي. وهكذا نُقلت الى غرفة النساء في المبنى نفسه. وفي اليوم التالي جلبوا رفاقنا زكي خيري و آراخاجادور وعشرات غيرهم. ثم اعتقل رفيقنا عزيز محمد وآخرون). وهي تلقت بعدها أحكاما ثقيلة بالسجن مابين 20 سنة لها ولسعاد خيري وزكية خليفة وسبع سنوات لأُخريات. وكان نصيب أخيها عادل 20 سنة والرفيقين زكي خيري وآراخاجادور عشر سنوات، ونصيب عزيز محمد 18 سنة. إضافة الى أحكام شملت مئات آخرين، على حد تعبيرها في المقابلة.


وفي جواب لها في تلك المقابلة هناك تناقض يظل مريبا الى يوم الدين عندما تجيب عميدة مصري عن سؤال وجه لها ، عن أول اعتقال لها : فتجيب: [حدث ذلك عام 1947، ضمن هجمة النظام العميل للاستعمار التي ذهب ضحيتها سكرتير حزبنا الشيوعي العراقي الرفيق فهد. لكن في اليوم التالي. ففي تلك الدار كانت تعقد اجتماعات "اللجنة النسائية الحزبية" التي تأسست قبل اقل من عام، وكنت عضوا فيها أيضا باشراف الرفيق فهد. موعد اجتماعنا كان يوم السبت... نفس اليوم الذي دوهمت فيه الدار مساء...وقد أقعدتني الحمى للمرة الاولى في حياتي عن مغادرة السرير. كان سخان" الحمام" قد انفجر في وجهي، وسبب بعض الحروق وتورما في عيني... الخ.] . وهكذا تناقضت شهادة عميدة مصري للثقافة الجديدة بعد 34 عاما من حدوث الحادثة، وتناقضت في سرد الحوادث وأماكنها، والتعارض في القول ما بين الحكم عليها بعشرين سنة، وبين إنتزاعها البراءة لنفسها لاحقا من المحكمة، رغم أنها تقر بوجود الاعترافات عليها ، وورود اسمها الصريح "عميدة" في اوراق محضر حزبي ضبط للجنة النسائية عند رفيقة معترفة عليها كما تقول.


تشترك عميدة مصري وعادل مصري بسرد الذكريات وتركيب الاحداث كما يحلو لهما؛ وخاصة في اجتماعات الطلبة والشبيبة في سنوات السبعينيات والثمانينيات. لا أحد يرد عليهما، أو يصحح ما ورد على الاسماع؛ طالما ان الراوي او الراوية من العشرة المبشرين بالجنة الشيوعية في موسكو وبراغ. وهم من شاهدوا محاكمة فهد وقابلوه وزاروه في السجن، وكانوا في المواجهات وزيارات الأعياد ينقلون الرسائل الحزبية ويعيدون بناء التنظيم، وكأن الدولة العراقية، التي إعتقلتهم مرارا وتكرارا، كما يقولون ، تلك الدولة البوليسية كأنها لا تعرف انهما من الطائفة الموسوية" اليهودية"فما هو سر ارتباطهم بأعياد ومناسبات المسلمين. وقد نشط أبو سرود، كما يقول، في تأسيس اول منظمة مناهضة للصهيونية في العراق، بدءا من أواسط الثلاثينيات، وإدعى أيضا، انه كان سكرتيرها الأول ؛ كونه يهوديا معاديا للصهيونية. قالت عميدة مصري في سياق تصريحاتها أيضا: (... انها كانت اثناء التحقيق في غرفة مجاورة لغرفة الرفيق فهد، مع الرفيقة طالبة الهندسة التي كانت معنا في اللجنة النسائية...كنا نصغي فيأتينا صوت الرفيق فهد يحاجج جلاديه برباطة الجأش المعهودة فيه... كان مصفدا بالسلاسل الحديدية في يديه وقدميه... وكانت رنة السلاسل تبلغ 22 كيلو من الحديد...يتعين عليه حملها أثناء السير وهو مربوط الى معصم معاون الامن خشية الهرب).


لم أغبط عميدة أو عمومة مجدها الثوري والنضالي، وكذلك أخاها عادل مصري الذي سمعنا منه مباشرة ما يتم التناقض فيه في سطور الصفحة الواحدة وفي الجلسة الواحدة. ففي كل مرة كان معتقلا، وفي كل مرة كانت تحرره الجماهير الغاضبة، والحركة الشعبية. ولكن ما أن نجمع كلام عميدة الى عادل حتى نجد انفسنا في متاهة أحد الافلام الهندية الطويلة.


ما أرجعني اليوم الى سرد ذكريات الرفيق ابي سرود و إبنه سرود واخته عميدة الكثيرمن المفارقات التي عشناها مع بعضهم. وأسترجعها اليوم بمناسبة صدور دستور إقليم كردستان، الذي كرست له مقالة خاصة بالأمس نشرت على موقع الكادر وغيرها من المواقع: بعنوان "برزان وحده لا شريك له "؛ يومها كان الحزب الشيوعي في تعارض مع نشاط منظمات طلابية وواجهات للاحزاب الكردية الحالية بجناحيها، البارزاني والطالباني. فعمدت منظمات الحزب الشيوعي الى تأسيس جمعيات طلابية كردية في اغلب الدول الاشتراكية، منظمات باسم جمعيات الطلبة الاكراد تنافس تنظيمات "حدك" و"اوك" . وعندما لا تجد طالبا كرديا حقيقيا لاستلام نشاط الجمعية تضطر الى تكليف رفيق آخر من غير الأكراد. وكانت فتوى الرفيق ابي سرود جاهزة وحاضرة تدعونا أن نعدل الانظمة الداخلية للجمعية الكردية حسب الظرف. فمرة عُدل النظام الداخلي لجمعيات الطلبة الاكراد، بمنح حق العضوية للجمعية حصريا بمن هو كردي أو تركماني أو من هو ساكن في احد مدن كردستان. وحتى هذا التجاوز التنظيمي شجع على ان يصبح أي من الطلبة من العرب من البصرة أو ميسان أو الفلوجة مثلا عضوا في جمعية الطلبة الاكراد، لأن والده سبق أن إشتغل أو مر أو سكن بمدينة من مدن الاقليم وما يجاورها، حتى أبناء العسكريين العرب الذين قضوا أياما بخدمتهم العسكرية في الشمال، يمكن ان يكون عضوا في جمعية الطلبة الاكراد. وليس صعبا ان يصبح عضوا في أي موقع منها، من كان ينتسب بالسكن الى الكوت أو ألموصل او كركوك وتكريت.


وعندما أجمل دستور مسعود البرزاني جميع مناطق العراق بما فيها العربية والتركمانية، التي اشرنا اليها في مقالتنا السابقة وضمها الى حدود جمهورية الكرد تذكرت فتاوى الرفيق ابي سرود من براغ وتوصيات الرفيقة عميدة مصري في موسكو، حين أصبح الرفيق سرود رئيسا لجمعية الطلبة الاكراد في براغ. وكانت الحجة في ذلك، رغم الاعتراض الشديد عليه، كون سرود ليس كرديا ولم يسكن كردستان يوما. لكن الرد جاء من براغ : أن قال لنا الرفيق ابو سرود : يحق لسرود رئاسة جمعية الطلبة الاكراد لأنه ولد عندما كنت معتقلا في كركوك. وهكذا تصبح مقولة ابي سرود قاعدة دستورية تستند عليها الفقرة 140 من دستور بريمر المختلف عليها في تحديد مواقع النزاع لحدود جمهورية الكرد التي ترأس جمعيتهم الكردية يوما سرود رغم انه كان من أبناء اليهود العرب.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاثنين  / ٠٦ رجــــب ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٩ / حزيران / ٢٠٠٩ م