جذور مخططات تقسيم العراق في ملفات الاستعمار البريطاني - الامريكي

﴿ الحلقة الاولى

 
 

شبكة المنصور

ا.د.عبد الكاظم العبودي

هل تدرس بريطانيا والولايات المتحدة حقا سحب قواتها من العراق بالكامل ونهائيا؟ كيف؟ ومتى؟؟

عليهما ان تعيدا قراءة الدرس التأريخي من احتلال العراق مرتين وفي قرنين متتاليين. وعلى العراقيين أيضا مراجعة تاريخ احتلال بريطانيا للعراق وهم ينتظرون نهاية احتلال الولايات المتحدة وبريطانيا الآن لوطنهم. ومن خلال مراجعة مثل هذا المختصر عله يفيد من يستسهل خروجهم ويبني قصورا من وهم لاستقلال يأتي من دون مقاومة مسلحة. المفيد إن مأساة شعب العراق على يد هؤلاء مستمرة كما أن مقاومة شعب العراق مستمرة أيضا. المستعمر لم يبدل وجهه القبيح ولم يسترجع دروس هزائمه الا لينتقم بشراسة أكثر. والوقائع التاريخية غالبا ما نحتفل بها بسرعة كلما إقتربت أو حلت ذكراها، كانتصار ثورة العشرين في الثلاثين من حزيران، ولكن التاريخ الاستعماري أبى الا أن يعيد حماقاته مرة أخرى على أرض العراق؟؟

 

قبل أكثر من عام ومنذ الاول من تشرين الأول/أكتوبر 2007: نُشرت وكالات الانباء العديد من الاخبار حول النوايا البريطانية المعلنة في العراق، ومنها الخبر التالي الذي كان يخفي العكس تماما لما يراد تنفيذه هذه الايام في العراق : [يدرس رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون مشروعاً لإنهاء مشاركة بريطانيا في حرب العراق وسحب كامل القوات البريطانية من البلاد... جاء ذلك ضمن تقرير لصحيفة صنداي تليغراف البريطانية عن نوايا الحكومة البريطانية بتخفيض اسطولها البحري والقوة البحرية البريطانية، ضمن مشروع أوسع لتقليص القوة العسكرية البريطانية لأسباب عدم التمكن من التمويل العسكري المتعاظم في عالم شديد الاضطرابات وفي ظل أزمات اقتصادية ومالية تهزّ الغرب الرأسمالي بشكل عام]. وفي هذا الاسبوع عاد قادة الاستعمار البريطاني الجدد الى السعي نحو توقيع اتفاقية أمنية مع الحكومة العميلة في العراق ومرروا عبر مجلس نواب المنطقة الخضراء اتفاقية التعاون البحري مع بريطانيا تضمن بنودا وفقرات منها معلنة واخرى سرية تسعى من خلالها بريطانيا السيطرة التامة على البصرة والمنافذ البحرية للعراق وتدريب القوات البحرية العراقية وتزويدها بقطعات بحرية.. الخ. وقد صادق مجلس نواب المنطقة الخضراء على المطالب البريطانية وسوف يناقش هذا الاسبوع النسخة الثانية من اتفاقيات الذل والخنوع للارادة البريطانية بتوقيع اتفاقية امنية ثانية خاصة بها تضاف الى اتفاقيتها مع الولايات المتحدة.

 

العبرة والتاريخ والدرس:

قبل قرابة قرن، وفي ساعة متأخرة من يوم 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1914 نزل على بر الفاو جنود الحملة البريطانية المرسلة من حكومة ومستعمرة الهند البريطانية، فكانت تلك العملية أول خطوة اتخذتها الحكومة البريطانية لتحقيق أطماعها الاستعمارية الحالمة بضم العراق الى الامبراطورية البريطانية من خلال تنفيذها الفعلي بغزو واحتلال العراق مباشرة. كان الساسة الاستعماريون في تلك الحملة يرون ان العراق كان يجب ان يكون تابعا من توابع الهند الموصوفة آنذاك بـ "درة التاج البريطاني" والحاقه بها نهائيا.

 

ولم يكن النزول البريطاني في الفاو وليد ظرف، أو خطوة مفاجئة، تمت ونفذت بالصدفة، وفي ذلك التاريخ بالذات من نهاية عام 1914؛ بل جاء كمحصلة ونتيجة لجهد وترقب بريطاني طويل، ومضني، وبعد إنتظار استعماري طويل، إستمر الرصد والتحضير له زهاء ثلاث قرون كاملة قبل الإقدام على غزو أرض العراق.

 

ظروف وممهدات الاحتلال البريطاني للعراق

كان العراق، ضمن الولايات التابعة للدولة العثمانية تابعا لدولة وصفت على مدى قرنين من الزمن بـ "الرجل المريض". عانى العراقيون من التخلف والعزلة والإهمال والمعاناة بسبب حكم الولاة الاتراك وقساوتهم من جهة، وشل إرادتهم في الثورة على المظالم باستغلال الدين واجهة وإستغلال طاعة أبناء العراق باسم الدين بخضوعهم لدولة الخلافة الاسلامية وتحريم الثورة على ولي أمر المسلمين ودولة الخلافة الاسلامية.

 

كما ان سياسة التتريك أرادت الإيحاء للعراقيين، كما لو كانت تسعى إلى تفضيل "أهل السنة" على من سواهم من أبناء البلاد الآخرين. لكن تلك السياسات الطائفية لم تفلح سواء بالإستغلال لها من طرف ولاة العثمانيين من جهة، أو من خصومهم الألداء الطامعين باحتلال العراق من الصفويين الإيرانيين من جهة ثانية، وهم الذين سعوا من جهتهم على إذكاء الصراعات الطائفية خلال فترات تناوب الاحتلالين العثماني من جهة والصفوي من جهة ثانية للعراق. تلك الاحتلالات التي دمرت أرض السواد وحولتها الى أقاصي معزولة ومدمرة تتناوبها إجتياحات الامراض والفيضانات وتشريد أبنائها الوطنيين بسبب الصراعات الطائفية التي أججها الغزاة والمحتلين وحكمهم العراق تحت واجهات دينية وطائفية.

 

الصحوة العربية في العراق

وبالمقابل كانت هناك معالم الصحوة العربية في العراق ضد ألتتريك ألعثماني، وقبلها ضد الفرس، بدأت تتبلور. وبدأ التململ يتصاعد ضد السلطنة العثمانية، ووصلت الدعوات القومية الساعية الى التحرر الوطني والقومي الى بغداد والمدن العراقية الاخرى، عكستها أخبار المطالب الشعبية حول الدستور، وبإحقاق الحقوق القومية والدينية لكل أبناء الشعب من دون تمييز قومي أو طائفي.

 

حينها كانت أقطار سوريا ولبنان والعراق تتحمل الثقل الأشد قساوة من ممارسات الولاة الاتراك التعسفية. وقد تحمل العراقيون الوزر الاكبر للممارسات التركية من خلال قساوة الولاة الاتراك ومظالمهم. ظنت بريطانيا أنها سوف تستفيد من ظروف العراق ما بعد إخراج الاتراك؛ واقتنعت منذ عام1917 بان استمرار سيطرتها وبقائها في العراق رهن بقدرتها على خلق قوى اجتماعية ثابتة في داخل البلاد تدين لها بالولاء وتستمد منها الدعم والاسناد والسلطة أيضا.

وقد ترسخت تلك القناعة البريطانية بشكل خاص بعد إندلاع الثورة الوطنية العراقية الكبرى في العراق سنة 1920؛ اذ قفزت نباهتها من رؤية الواقع الجديد بأن وطدت علاقاتها ببعض متنفذي شيوخ القبائل ووضعتها عند موقع الاولوية القصوى في مشاغلها لترتيب بقائها في العراق، لذا حظيت المشكلة الزراعية وملكيات الاراضي واستغلالها باهتمامها الكبير، فكان تخطيطها العام، منذ البداية، يتوخى ان يكون العراق بلدا زراعيا يقوم وجوده على العلاقات العشائرية الكفيلة بتوطيد سلطتها واستمرار سطوتها لأطول فترة ممكنة من خلال تحالف الاستعمار والاقطاع العشائري في العراق.

 

وتلك هي فحوى النصيحة التي ظلت تتردد في مذكرات وتوصيات المس بيل، سكرتيرة الشؤون الشرقية للمندوب السامي البريطاني برسي كوكس وعكستها جميع المذكرات والوثائق البريطانية حول هذا الموضوع.

 

كما أن الغطاء الديني للتتريك العثماني، والقمع السلطاني وولاته في العراق، لم يحجب الحقيقة عن وجود المذاهب والطوائف في العراق وغيره من البلدان العربية، فكان جراء ذلك أن تنامت المشاعر القومية لكل القوميات معا ساهم فيها دعاة ونشطاء من أبناء العرب والأكراد والتركمان، وفي صدارتهم كانت نخب القومية العربية تنشط في حركة وبلورة الوعي العربي في العراق، حيث بدأ التفجر القومي العربي في سوريا أولا، ثم شمل العراق عموما، وانتشر في جنوب العراق والنجف خاصة لما لها من مكانة دينية وثقافية وموقع العشائرواللغة العربية في الحياة اليومية.

 

مدن وقادة وخصوصية:

وللنجف هنا خصوصية؛ لكون بغداد كانت مركز الحكم العثماني، وحلقة اتصال سياسي وثقافي مع الأتراك والسلطة وولاتها العثمانيين والادارة التركية، وفيها تركزت المدارس الرسمية التي كانت مهمتها الأولى التتريك وإعداد موظفي السلطنة العثمانية. فقد حافظت النجف على مدارسها الدينية والادبية والفكرية، وحفظت كل ذلك من خلال حفظها وتمسكها بالثقافة العربية ولغتها وكانت حاضنتها الداعمة وجود العشائر العربية الممتدة نحو كل أطراف العراق.

 

ولم تكن النجف معزولة عن النهوض القومي العربي القادم من سوريا. وبحكم موقعها الديني فقد إتصل علمائها المتفتحون بدعاة الاصلاح والنهضة الاسلامية من أمثال الافغاني والكواكبي ومحمد عبدة. واهتمت دواوينها بتداول اخبار الدستور العثماني وما رافقه من انقلابات وصراعات. وفي تلك الفترة برز في النجف علمان من أعلام النهضة العربية والدينية كرسا القيم البطولية، وهما محمد سعيد الحبوبي و الملا كاظم الخراساني.

 

وللحبوبي مكانة متفردة في التاريخ الوطني العراقي، فهو إضافة الى مكانته العلمية الرفيعة، كانت له قدرة كبيرة في التأثير في نفوس الناس، وخصوصا الفقراء والطبقات الكادحة والفلاحين وأبناء العشائر. وكان شاعرا ومثقفا ثوريا، قاد حربا شعبية ضد إحتلالين في آن واحد، هما التركي والانجليزي معا. ويكفيه أنه استشهد في محراب صلاته أثناء معركة الشعيبة المشهورة التي كانت السد الاول بوجه زحف القوات البريطانية الساعية لغزو العراق.

 

اما الشخصية الثانية، فهي الملا كاظم الخراساني الذي لُقب بـ "ابي الاحرار" لدوره في النضال من اجل "المشروطية"، وعلى يديه تخرج الشيخ الشيرازي، الذي أفتى بثورة العشرين، والسيد الامام "ابو الحسن" الذي تذكره الذاكرة العراقية الحميدة انه عاش زاهدا فقيرا لا يمتلك الا قوت يومه، ويصطف مع الناس أمام دكاكين الخبازين. فهو وغيره كانوا النموذج المحتذى به، سواء بطاعة العامة أو من اشتغلوا بالعلوم الدينية. ولكنهم شكلوا بنماذجهم الشخصية نخبة؛ وكانوا من طراز المثقفين الذين التحموا في معركة التحرير، ولم يعيشوا مثل الآخرين من رجال الدين المرفهين باستغلال جباية الخمس والزكاة، المرتزقين على جبي كنوز الذهب والفضة والمال من فرائض الخمس والزكاة والتبرعات السخية للعتبات المقدسة.

 

و مثل أؤلئك الرجال الافذاذ كانوا وحدهم القادرين على رفض مقابلة الملك فيصل الاول، أو طاعة الانجليز ووكلائهم الجدد في الحكومة العراقية التي سينصبها الاحتلال الانجليزي لاحقا. ومقابل هذه المجموعة الرافضة للاحتلال كان هناك العديد ممن إنتظروا مجيئ قوات الاستعمار وتظاهروا بالصمت وعدم المغامرة في المقاومة و"الانتظار حتى تنضج الظروف المواتية للجهاد".

 

كان قرب سقوط وضعف الدولة العثمانية، قد سهل لبريطانيا ومكنها من الاقدام على فكرة غزو العراق وضمه الى نفوذها، بعد ان استطلعت مصالحها وقنصلياتها وتقارير مخابراتها ووكلائها في المنطقة أحواله، وشخصت مسبقا من سيتعاون مع الاحتلال وأجهزته. كما أنها قد شخصت وتعرفت على ثرواته الكامنة، وادركت اهمية موقعه الجغرافي الممتاز.

 

إدارة حكم ذاتي براية استقلال مزيف تتكرر:

ظل العراق مسيرا تسييرا عسكريا تحت واجهة بريطانية مموهة سميت أولا "الادارة الملكية"، وهي هيئة مُسيرة تحت إشراف السلطات العسكرية البريطانية، منذ خريف 1914 واستمرت حتى صيف 1930. وتم تسيير البلاد باسلوب عسكري بحت، رغم منح ما سُمي بـ "الاستقلال" ومنح الحكومة الملكية وأعوانها سمة وعنوان "الدولة العراقية" التي ظلت لأكثر من ثلاث عقود تابعة ومنقادة من قبل البريطانيين لتسقط بعدها فجر الرابع عشر من تموز 1958. قبلها لم يتخل العراقيون الاحرار عن حقهم في الحرية والاستقلال الحقيقي. وقد شهد العراق العديد من الثورات والانتفاضات الوطنية في أجزاء منه، أوفي عموم اطراف البلاد؛ الا ان بريطانيا ظلت تحكم من وراء الستار، وعلى المباشر، من خلال تلك الاتفاقيات الامنية والمعاهدات التي مكنتها البقاء والاحتفاظ بالقواعد العسكرية والجوية في الحبانية والشعيبة على التراب العراقي، ومن الخارج ركزت قواتها في الكويت وقواعد الخليج العربي والاردن.

 

قبلت بريطانيا اولا، في صيف عام 1920 الاضطلاع بشؤون مهمة الانتداب على العراق، وكلفت المس "غيرترود لوثيان سي بي" Miss Gertrude Lothian Bell C. B. E. بمهمات عديدة. وهي التي اشتهرت بالآنسة بيل "المس بيل"، هي شخصية بريطانية، كانت معربة اللسان، خريجة اوكسفورد، ولها معرفة وإطلاع واسع بالعراق والبلدان العربية، خاصة سوريا آنذاك. و"المس بيل" هي التي أعدت تقريرها المعروف: [استعراض الادارة الملكية في ما بين النهرين]، الذي اقرته الادارة الاستعمارية وطبعته في كانون الاول 1920 من قبل وزارة شؤون الهند. سمي وعُرف ذلك التقرير أيضا بـ " الكتاب الابيض". كما جاء ذلك في الاشارة اليه في مذكراتها عن هذا الموضوع.

و يعرف العراقيون تاريخ الآنسة بيل "المس بيل"؛ تلك المرأة التي حلت بالبصرة أولا بتاريخ 26/6/1916، وانتقلت مع دائرة المكتب السياسي للحملة البريطانية بمرافقة "بيرسي كوكس" رئيس الحكام السياسيين المرافقين للحملة العسكرية البريطانية على العراق. وظلت تعمل في بغداد حتى لحظة وفاتها في 12/7/1926، مستشارة مع المندوب السامي البريطاني. ودفنت ببغداد في المقبرة المسيحية بالقرب من ساحة الطيران بناء على وصيتها.

 

كتابات "المس بيل" وغيرها، سواء ما جاء في تقريرها "الكتاب الابيض" أوغيره من العناوين، كانت مليئة بالدس والغموض أحيانا؛ ولكنها ظلت تحمل في توجهاتها الكثير من الخطط والأحابيل التي كادت كيدا خبيثا للشعب العراقي وتطلعاته نحو نيل الحرية والاستقلال ويبدو ان البريطانيين ظلوا أوفياء لمدرسة المس بيل وتوجهاتها وتمسكوا بحلفائها وأصدقائها الى اليوم.

 

مجمل ما كتبته "المس بيل" منذ ذلك الوقت، ظل ديدن واساس مرتكزات السياسة البريطانية المعتمدة في العراق، التي ظلت تؤكد، في جميع ممارساتها ووثائقها، وتركز في كل فرصة ومناسبة، على "وجود إختلاف بارز بين السنة والشيعة في العراق". وظل هذا الخطاب الاستعماري المتركز على إعادة الحديث، وتكرار ما سمي بـ "الاختلاف البارز بين ابناء العراق" قيد الاهتمام لدى السلطات الاستعمارية في غزوة العراق الاولة وحتى الاخيرة ربيع 2003..

 

وكما يجري اليوم من إعادة بعث الخطاب الاستعماري في مجال تطبيقه الطائفي، ظل يتكرر مثل هذا الخطاب في العراق، وتصاحبه عند الحاجة، المبالغات في طرح قضية الخلافات ما بين ابناء شعب العراق، وبما يتناسب مع الحاجة والسياسة البريطانية وتحالفاتها المحلية والاقليمية، وبشكل يستشف منه دائما هو تبييت الغرض السئ، والدس المقصود، الذي بدأته ونفذته بإتقان تلك المستشرقة البريطانية، سيئة الصيت، المسماة "المس بيل" وممارسات الادارة البريطانية وخدمها في العراق في كل العهود.

 

 وتجري العودة الى ذلك الارشيف الاسود للخبث البريطاني وممارساته في العراق كلما ظن الاستعماريون وعملائهم ضرورة الحاجة اليه والارتشاف من منابعه السوداء.

 

إعتمدت الدعاية البريطانية في العراق أيضا على التركيز في ما يسمى :"وجود اختلاف وتباين كبير بين أبناء العشائر العراقية وأهل المدن... الخ... وعلى تخوف الفريقين أحدهما من الآخر". ولم تخف الدعاية البريطانية أغراضها المعلنة والدفينة عندما تجري إساءة القصد والتشكيك بزعماء البلاد من الوطنيين المخلصين، والعمل على زج علماء الدين في السياسات التي تخدمها، لاثارة الفتن المذهبية والطائفية. وهو ما يجري اليوم تطبيقه في العراق بشكل كامل ولكن بتخطيط بريطاني وتنفيذ أمريكي وتجنيد لعدد من القوى والشخصيات المحلية العراقية لإداء تلك الأدوار.

 

تستحق مذكرات ورسائل وكتابات "المس بيل" وآخرين من البريطانيين المراجعة والدراسة؛ خصوصا أننا نسكتشف صورة الماضي قبل قرن وهي تتجسد بما ينفذ اليوم على أرض الواقع العراقي المحتل. فالوثائق البريطانية، ظلت تشير الى "إيرانية هذا الفريق، أو تركية الفريق الآخر في أصله وأعماله"، لغرض تكريس الفرقة بين أبناء البلد الواحد. كما ظلت الكتابات البريطانية تتباكى دائما، عندما تشير الى أوضاع الأقليات المسيحية واليهودية والدينية الاخرى، محاولة منها إلى اثارة توجس الاقليات الدينية من الاغلبية المسلمة في العراق.

 

 ولم تخف "المس بيل" تصوراتها، التي وردت بين ملاحق كتاب السير "ارنولد ويلسن" عن العراق، وتطلعاتها في مذكرتين مهمتين عما سمي حينها: "الحكم الذاتي في العراق"، وفي مقالات أخرى لها مثل: " آراء نقيب بغداد السياسية"، وكلها تشكل في الاساس تقارير مخابراتية، كانت ترفعها "المس بيل" الى مرؤوسيها بعد التشاور مع وكلائها المحليين ممن ارتضوا العمالة وقبول التعاون معها، ومن خلالها مع في وزارة المستعمرات وإدارة المندوب السامي البريطاني في العراق.

 

محميات الخليج العربي عتبات الاحتلال المتكرر للعراق:

ومع مؤشرات قرب سقوط الدولة العثمانية، سارعت بريطانيا الى الإقتراب نحو العراق، ممهدة بتحالفات مع الشيوخ العرب المقيمين على سواحل الخليج العربي، بدء من سلطان مسقط، الى شيوخ الساحل الغربي من الخليج العربي. ومع قرب إعدادها والشروع بالغزو للعراق، بدأت بوضع مواقع أقدام لها في محميات الخليج العربي الجديدة آنذاك. وهكذا ربطت بريطانيا جزيرة البحرين بمعاهدات مع شيوخها. ووثقت علاقاتها مع إمارة ابن سعود"عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود" عام 1913، المتلهف للاعتراف به من قبل البريطانيين؛ كي يصل بحدود مملكته الى ضفاف الساحل الغربي من الخليج العربي. كما تم تطمين مبارك الصباح، شيخ الكويت، من خوفه تجاه العثمانيين ومن ولاية البصرة التي كانت الكويت تابعة، لها كقضاء مرتبط إداريا بولاية البصرة العراقية.

 

وما أن أُعلنت الحرب رسميا على الدولة العثمانية في 29/10/1914، حتى سارع الشيوخ في محميات الخليج الذين كانوا متمتعين بالحماية البريطانية الى الإعلان عن استعدادهم من خلال الوثيقة التالية: (... للتعاون مع القوات البريطانية والمحافظة على حالة الأمن والسلم في مناطقهم، وأن لا يسمحوا للحمقى من رعاياهم بتعكير صفو الامن في ممتلكاتهم، والاضرار بالمصالح البريطانية).

 

ومن جانبها طمنت القوات البريطانية هؤلاء الشيوخ بانها : (...تسعى الى حمايتهم والاحتفاظ بصداقتهم... الخ.). وهكذا كان الخليج العربي بمحمياته البريطانية خنجرة الابتزاز بخاصرة أهل العراق على مدى قرنين متواصلين من تاريخنا المعاصر.

 

الغزو البريطاني والمقاومة وبعدها الثورة الشاملة

وهكذا لم تجد القوات البريطانية المتوجهة نحو العراق أية مصاعب لاحتلال ضفاف الخليج العربي من أقصى جنوبه الى شماله، لتتوجه بسلام ومن دون حرب أو تضحيات بقواتها بعدها الى النزول في الفاو على بر العراق عند مصب شط العرب في الخليج العربي يوم 6 نوفمبر/تشرين ثان من عام 1914 بقوات بريطانية ووحدات هندية بعد التمهيد للإنزال بقصف قلعة الفاو بالمدفعية البحرية بقيادة الجنرال "ديلامين"، يرافقه ويتابعه في الحملة من الهند السير "بيرسي كوكس" بصفته الحاكم السياسي الرئيسي القادم في العراق.

 

وبعد 5 أيام في 11/11/1914 وصلت طلائع القوة البريطانية الى البصرة فاشتبكت بقوة تركية كانت متألفة من عدة مئات من جنود حامية البصرة، يشاركها أفراد من أبناء العشائر العربية، يصل تعدادهم حوالي 250 من الخيالة يقودهم عجمي السعدون. واستمرت الاشتباكات في الساحل، وكوت الزين يومي 16 و17 نوفمبر انتهت المعركة بانسحاب الاتراك نحو القرنة يوم 17/11/1914، وتراجع عجمي السعدون الى الزبير.

 

وكسائر الغزوات الاستعمارية البريطانية تُركت البصرة الى النهب والفرهود من قبل القتلة والسراق الذين أطلقت اياديهم وشجعتهم، وتواطئت معهم القوات البريطانية، فنُهبت الاسواق، واشعلت النيران في بناية الجمرك، لتقضي على الاخضر واليابس فيه. وبهذا تقدمت القوات البريطانية الى المدينة يوم 22/11/1914. فرفعت علم الاحتلال عليها، بدلا من العلم التركي العثماني.

 

وبهذه الصورة، بدأت الصفحة السوداء لتأريخ الاحتلالات البريطانية في العراق.

 

يتبع ...

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاثنين  / ٢٠ رجــــب ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٣ / تمــوز / ٢٠٠٩ م