الاحتلال الأميركي إلى مزيد من الانكفاء
والمقاومة العراقية إلى مزيد من التمدد والانتشار

 
 
 

شبكة المنصور

حسن خليل غريب

في معرض التحولات التي يشهدها العراق المحتل، كما في معرض تقييم مستوى المعادلة بين قوى الاحتلال والمقاومة، تتراجع مواقع الاحتلال الأميركي إلى نصف هزيمة، بينما المقاومة العراقية تتقدم إلى  نصف نصر.

 

إن هذه المعادلة تعني أن النصر أصبح يشكل الأفق المنظور للمقاومة، كما تعني أن الهزيمة أصبحت تشكل الأفق المنظور للاحتلال. إن نصر المقاومة موجود بالقوة، وتحتاج إلى تحويله لنصر بالفعل. وهزيمة الاحتلال موجودة بالقوة، وتحتاج إلى إظهارها إلى هزيمة بالفعل.  ونسبة نصف الهزيمة إلى عدو كان يحسب أنه منتصر بالقوة والفعل، هو هزيمة كاملة حتى الآن لكن لم تكتمل شروطها. ونسبة نصف النصر إلى المقاومة هو نصر بالقوة والفعل ولكن شروطه لم تكتمل حتى الآن.

 

كل هذا يعني أن العدو المحتل، يحاول الالتفاف على واقعه المهزوم الراهن، ويعمل على امتصاص الأسباب التي جعلته على طريق الهزيمة ليعدِّل من موازين القوى بينه وبين المقاومة. فهو لذلك يتراجع تكتيكياً لترتيب أوضاعه لعله يستعيد أنفاسه ويرتب أوضاعه من أجل هجوم جديد في ظل عوامل جديدة يعمل على توفيرها الآن. وهو يستخدم تكتيك الانسحاب العسكري الخادع لشن هجوم على دبابات سياسية تعمل إدارة أوباما على تصنيعها وإعدادها في المرحلة الانتقالية الراهنة. هذه المرحلة تعتبر بحق محاولة تثبيت مواقع حكومة المالكي العميلة، أو أية حكومة عميلة أخرى، قد تقتضي تشكيلها ظروف المساومات الجارية الآن بين الولايات المتحدة الأميركية وبين قوى إقليمية وعربية.

 

هذه المرحلة بالتحديد شبيهة بمرحلة ما قبل العدوان على العراق وعشية احتلاله عندما حاولت إدارة جورج بوش أن تفرض قراراً دولياً تغطي به عدوانها، وكان يتم الفرض على قواعد من العربدة على العالم وتهديده، ولكن صمد من صمد في وجه تلك الضغوط ورفضها.  ومن صمد ورفض كان خائفاً على مصالح له ستبتلعها إدارة اليمين الأميركي المتطرف. أما اليوم فتحاول إدارة أوباما أن تحصل على هذا القرار على قاعدة ما تسميه الحوار، لكن خارج جدران مجلس الأمن الدولي. فهي تعمل للحصول عليه من مجلس دول الإقليم الجغرافي للعراق، ومجلس الأنظمة العربية الملتحقة بالقرار الأميركي، أو ممن لهم مصلحة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية لمساومتها على حلول لملفات قضايا عالقة معها.

 

بينما كانت إدارة جورج بوش تعمل على إرغام العالم لتغطية عدوانها على العراق واحتلاله، على قاعدة أنها ستمن عليهم بحصص لهم تحددها هي، وهي قاعدة زرعت الخوف حتى في نفوس حلفائها أكثر مما زرعت الاطمئنان.  أما إدارة أوباما فتعمل في هذه المرحلة على قاعدة الحوار مع أصحاب المصالح، من حلفائها، وممن لهم تأثير بشكل أو بآخر على القضية العراقية، من أجل ما تزعم أنه سيكون اتفاقاً متكافئاً على توزيع الحصص بينهم، فيكون العراق هو السلعة التي تتم المساومة عليه.  وبمثل هذا التكتيك تكون إدارة أوباما قد عالجت المسألة على قاعدة ما لا تستطيع الحصول عليه كله، كما فعلت إدارة جورج بوش، فليكن جله.

 

ليس المساومون هم أصحاب القرار الوحيدون

 

إن هذا المخطط المرسوم من المقيض له أن ينال النجاح، فيما لو كان اللاعبون المفاوضون والمساومون يشكلون العامل الوحيد في رسم مستقبل العراق. ولكن بما أن العامل الأهم، وهو المقاومة العراقية، هي العامل الأكثر تأثيراً في إنجاح المشروع أو إفشاله تبدأ احتمالات نجاح ما تحيكه إدارة أوباما مع كل ما نسميه (جوقة المحاورين والمساومين) مشكوك فيها.

 

إدارة أوباما غيَّرت في الوسائل ولم تغيِّر في الأهداف

 

إن المشهد العام الذي يمكننا تخيل صورة عامة له، هو على الشكل التالي:

ترغب إدارة أوباما، كما فعلت إدارة جورج بوش قبلها، في الحوار مع المقاومة للاتفاق على تسوية تحصل فيها على مكاسب وتوفير مصالح مما عجزت عنه بواسطة قوة الضغط العسكري. بينما ترغب المقاومة في الحوار مع إدارة أوباما، كما أعلنت لإدارة جورج بوش قبلها، من أجل توفير شروط الانسحاب الأميركي من دون قيد أو شرط. ولما كانت قواعد الطرفين في هذه المرحلة لم تتغير، ولما كان لكل منهما قواعده بالضغط، نعتقد أن المرحلة الانتقالية الراهنة تحتاج إلى رؤية شاملة يمكن أن نستعرض فيها ما تعد له إدارة أوباما، من أجل أن تكون خطة المقاومة في المواجهة أكثر وضوحاً وشفافية.

 

1-إن الانسحاب الأميركي إلى قواعد عسكرية كان خطوة تضمن فيها إدارة أوباما شروط إبعاد جنودها عن مكامن الخطر. الأمر الذي يعفيها من ضغط الشارع الأميركي الذي تستفزه مشاهد توابيت الجنود الأميركيين القادمة من العراق، مما يوفر لها فرصة للمساومة مع من تريد أن تساوم بأعصاب باردة وهادئة.

 

2-إن حركة الالتفاف الأميركية غيَّرت وسائلها، ولكنها لم تغيِّر أهدافها.  أما أهدافها فهي الحصول على نفط العراق لأكثر من سبب، لعلَّ أهمها تمويل القواعد العسكرية من غير جيب المكلَّف الأميركي.

 

3-في ظل عجز إدارة أوباما عن تثبيت حكومة عميلة تنوب عنها في حكم العراق وتأتمر بأوامرها، كما في ظل عجزها عن الحصول على موافقة قوى إقليمية وعربية لتشكيل هكذا حكومة، لسبب أنها لم تجد الشريك منهم الذي يوافق على حكومة كيفما كان، لأن تلك القوى تريد أن تطمئن على حماية مصالحها، ويبدو ما يظهر في الأفق أن إدارة أوباما مع الأطراف التي تريد إجراء الحوار معهم يعملون على تشكيل هكذا حكومة ممن يشكلون مواقع ثقة لدى (المساومين) المتحاورين.

 

المقاومة تستفيد من المتغيرات لخدمة أهدافها الثابتة

 

في مواجهة هذه المتغيرات والاحتمالات، لا تزال المقاومة تمتلك أوراق قوتها السابقة، كما أنها عززتها بتشكيلات جبهوية ذات ثقل وتأثير، وأصبحت تمتلك بعد انكفاء قوات الاحتلال إلى قواعد عسكرية أوراق قوة جديدة ومؤثرة، ومن أهم تلك الأوراق، نذكر التالية:

 

أولاً:  على صعيد الداخل العراقي:

 

1-على الصعيد الشعبي بعد أن زال تأثير كابوس العمليات العسكرية الوحشية التي كانت تشنها قوات الاحتلال، يعتبر كل عراقي أنه تحرر نفسياً من أثقال وحشية الاحتلال، وسيستعيد روعه تدريجياً بعد أن يستفيق من حلم كان ثقيل الوطأة عليه، وإن زوال عامل الخوف المباشر من الاحتلال سيدفعه تدريجياً إلى الاقتراب أكثر من عامل المقاومة.

 

2-على صعيد المؤسسات العسكرية والأمنية العراقية:  باستثناء الضالعين مع الاحتلال، والمنخرطين مع الميليشيات الطائفية المعادين للمقاومة، وهم عادة من القادة الأوائل، أو من المضللين البسطاء، وهم قلة إذا ما قيسوا بالكتلة البشرية الكبيرة للمنتسبين إلى تلك المؤسسات، نعتبر أن المقاومين قادرون على جذب الأكثرية الساحقة من هؤلاء الذين لا بدَّ من أنهم سيستعيدون عمق مشاعرهم الوطنية من جهة، وهم سيصبحون من اليائسين من استمرار الوضع المنفلت خاصة وأن الكتلة العسكرية التي كانت تحمي حالة الفلتان قد أصبحت بعيدة جداً عنهم من جهة أخرى.

 

3-على صعيد الكتلة السياسية من النخب:  وهذه الكتلة تتوزَّع حسب مجموعة من الانتماءات والتيارات المتنافرة الأهواء والمصالح، بعضها يرتبط بكتل طائفية أو عرقية، أو يدين بالولاء إلى هذا الطرف الخارجي أو ذاك، وبعضهم ممن تراخوا أمام وقائع الأمور واستسلموا لها، واعتبروها قدراً لا فكاك منه.

 

إن مصير العلاقات بين هذه الكتلة أو تلك، هو تصاعد الخلافات بينها لأن علاقاتها مبنية على الحذر وسوء النوايا، أو مبنية على قاعدة تقاسم الحصص في ورش الفساد والسرقات، أو في ورش تقاسم الوطن وتوزيع ما يحصلون عليه من امتيازات مادية ومعنوية، وكل ما يعد له هؤلاء في نهاية الأمر هو النفاد بجلودهم لإنقاذ حياتهم أو الهروب للتمتع بما جنت صفقاتهم من مغانم مادية.

 

من بين هؤلاء يمكن الاستفادة ممن اعتبروا ما حصل أمراً واقعاً، فهم ممن سيستفيقون إلى ضمائرهم، وممن سيتراجعون عن المواقف التي أملتها ظروف الخوف من الاحتلال وعملائه، خاصة وأن موازين المقاومة ستتراكم وتميل إلى الرجحان في هذه المرحلة الانتقالية.

 

ثانياً:  على صعيد فتح قنوات اتصال مع شتى دول العالم:  

 

بدلاً من الإملاءات والتهديدات التي كانت تمارسها إدارة جورج بوش على دول العالم تحت طائلة حرمانها مما كانت تسميه (كعكة العراق)، تقدم إدارة أوباما لهذه الدول شتى الإغراءات والوعود بتقسيم المصالح بينها إذا ما شاركت في إنجاح العملية السياسية المزمع تركيبها في العراق. ومن أوضح مظاهرها ما تقوم به من دعم وتسويق لحكومة المالكي، إذ تعمل الآن على غرس أنياب من الاحتضان الدولي لها تحت سقف توقيع اتفاقيات وعقود على صعيد الأمن والاقتصاد. وما الزيارات المسهَّلة لبعض رؤوساء الحكومات الأوروبية إلى العراق إلاَّ أحد مظاهر إغراءات إدارة أوباما للمجتمع الدولي لجذبهم إلى تسهيل العملية السياسية في العراق وإنجاحها.

 

وحول ذلك، يمكن للمقاومة العراقية أن تعرقل هذا الجهد الأميركي لأنه لا شيء يربط تلك الدول مع إدارة أوباما إلاَّ بوابة المصالح.  وهي تدري أن عقد اتفاقيات في ظل الاحتلال الأميركي لا قيمة قانونية لها، فأي توقيع لأي اتفاقية مع حكومة الاحتلال سيصبح باطلاً بعد رحيل الاحتلال وحكومته معه. وإنما المقاومة العراقية، هي التي تشكل حكومة للعراق بالقوة، ستصبح حكومة العراق بالفعل، وهي ما يمكن لتلك الدول أن تثق به. وإن بذل الجهود من أجل بناء علاقات بين المقاومة وتلك الدول يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في فك ارتباط تلك الدول بالاحتلال وحكومته.

 

ثالثاً:  على صعيد العلاقة مع الأنظمة العربية:

 

لقد أفلست الأنظمة العربية من اعتبار الاحتلال الأميركي للعراق حامٍ لها ولأمن دولها، فاستمرارها بالخضوع لإملااءاته ليس أكثر من الرضوخ لأمر واقع أسرت نفسها بين مخالبه، إلاَّ أنها في هذه المرحلة الانتقالية تقوم بمراجعة لكثير من الحسابات أقلها أنها اقتنعت بأن تقوية جدران التماسك العربي، ومنه الالتفاف حول العراق وإعادته إلى الحظيرة العربية، على قلة حصانة جدرانها، هي من المهمات التي عليها توفير شروطها. ومن أهم مظاهرها أنها باشرت في تظهير ما تسميه بالمصالحات العربية – العربية.

 

تلك المصالحات التي يعمل بعض النظام العربي الرسمي على إظهارها، وإن كانت ليست بالمستوى المطلوب، أصبحت تشكل حاجة نظامية رسمية لالتقاط ما يمكن التقاطه من الفرص المتاحة أمامها للخروج ببعض الحمص من مواليد مرحلة الضعف الأميركي من جهة، ولبناء بعض جدران المقاومة ضد الأطماع الإقليمية الإيرانية التي تعمل جاهدة لإملاء الفراغ الأمني الذي سيتركه الخروج الأميركي من العراق من جهة أخرى. وهنا لا يمكن أن نتجاهل ما تعد له تركيا من وسائل وأساليب من أجل حفظ أمنها واقتطاع حصة لها في مرحلة إملاء الفراغ.

 

وإذا كان لا يمكن للأطماع الإيرانية أن تزيل الخوف من نفوس العرب طالما إيران مصرة على تصدير ما تزعم أنه (ثورة إسلامية) عبر البوابة العراقية. وطالما هي لم تبد رغبتها في الخروج من العراق، أو تعلن صراحة أنها لن تكون بديلاً للاحتلال الأميركي، فإن مصلحة تركيا بإقفال مصادر ما يهدد أمنها برياح آتية من بوابة شمال العراق، يمكن أن يضمنها عاملان: أولها عربي يعمل بكل مصداقية على استعادة وحدة العراق وتخليصه من واقع الفيدراليات. وثانيها عراقي تمثله المقاومة العراقية التي عليها أن تزرع الاطمئنان عند تركيا من أن أمن حدودها سيكون موفوراً في ظل الحكومة الوطنية التي ستتشكل بعد رحيل الاحتلال الأميركي.

 

إن تشكيل لجنة طوارئ لبناء علاقة واضحة الأهداف مع الأنظمة العربية هي مهمة معجَّلة، لأن الكيان العربي، أنظمة وشعوباً، سيبقى مهدداً في ظل حالة الغياب العربي، القسري أو الطوعي. وإذا تهدَّم السقف فسيقع الردم على رؤوس الجميع.  لذا يصبح الهدف العاجل هو المحافظة على الرأس العربي من السحق، لأنه بغير ذلك لا تنفع كل محاولات تجميله.

 

وأخيراً، طالما ظلت المقاومة مستمرة، فإن الأفق المنظور، هو تحويل هزيمة الاحتلال الأميركي بالقوة إلى هزيمة بالفعل. وتحويل نصر المقاومة العراقية  بالقوة إلى نصر بالفعل.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاثنين  / ٠٥ شعبــان ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٧ / تمــوز / ٢٠٠٩ م