الكفاءات العراقية .. ثروة قومية .. على العرب أن يحتضنوها

 
 
 

شبكة المنصور

هداج جبر
يثار بين فترة وأخرى، موضوع الصعوبات التي تواجه الكفاءات العراقية، في سوق العمل العربية,ولغرض إنصاف الكفاءات العراقية، لابد من استعراض خلفية المخاض، الذي ولدت وترعرعت فيه هذه الكفاءات، وتسليط الضوء ،على الظروف التي أجبرتها على مغادرة العراق، عقب الاحتلال الأمريكي البغيض، في العام 2003.


وابتدءا لابد من القول، بان عملية التصنيع التي جرت في العراق، قبل الاحتلال، قد قامت في إطار تصور شامل لعملية التنمية، يرتكز،على موقف محدد، للتعامل مع قضية العلم والتكنولوجيا،  وولوج التصنيع.وقد تبلور هذا الموقف بشكل واضح، اثر ندوات العوامل المؤثرة في انخفاض الإنتاجية، وما تلاها في نفس السياق، في مجلس التخطيط في حينه.
وقد ارتكزت إستراتيجية التعامل مع العلم والتكنولوجيا، ودخول ميدان التصنيع، وفق التصور المركزي للدولة يوم ذاك، على أساس الاعتبارات التالية:


* الابتعاد عن طريق التعقيب والاستنساخ.
* التكييف والتوطين لحلقات التصنيع، بما يتلاءم مع الواقع الوطني.
* الاستيعاب وفقا لمواصفات المنتج، بقصد رفع معدل الانتفاع، وتقليل الضياع.
* الانتباه إلى إعداد الكادر الوطني المؤهل، بالتزامن مع المباشرة في عملية التصنيع.
* تقبل فكرة النفقات الضائعة، في تكوين الخبرة ،عند إعداد الكفاءات والأطر، وعند الدخول في بعض الصناعات، ذات الأمد البعيد لتفريخ العائد.


ولان التنمية الصناعية كانت تستهدف النهوض بالواقع الصناعي في العراق، والارتقاء بالحال من الموجود، إلى واقع حال مستهدف أفضل، وبأسلوب القفزات الضفدعية، لا بطريقة التعقيب، للدول التي سبقتنا في هذا المجال، فقد استلزم الأمر، اعتماد مبدأ المباشرة بعملية تكوين المهارات الفنية والكفاءات العلمية، في كل الاختصاصات، بشكل متوازي، مع لحظة المباشرة بالتصنيع.وذلك لغرض التمكن، من إدارة عملية التنمية، بمساراتها الأكاديمية والتكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية، بأعلى مستوى ممكن، من الكفاءة والاقتدار.


وبذلك تمكن العراق، من تكوين تراكم خبرة هائل، من الكفاءات الأكاديمية والصناعية، وباختصاصات مختلفة، شكلت قاعدة صناعية كفوءة، ساهمت بشكل فعال، في إطلاق عملية النهوض الصناعي في البلد، بقدرات وطاقات وطنية صرفة، استوعبت العلوم والتكنولوجيات المستوردة، بكفاءة عالية حسب مواصفات المنتج ،وشغلتها بأداء صناعي عالي، اقترب في أحيان كثيرة من طاقاتها التصميمية، متجاوزا بذلك، أي هدر أو ضياع محتمل، عند نقلها الى البلدان النامية. مما رفع معدلات الانتفاع من الطاقات موضوعة البحث، إلى نسب متقدمة جدا، تصل أحيانا إلى نسبة 100%.
على أن خبرة الكادر، قد تراكمت بشكل كبير، ومتوازي، مع تقدم عملية التنمية. بحيث تسارعت وتيرة الإبداع في مجال التطويع، بصناعة ما يمكن من أجزاء وحلقات، وتوطين حلقات كثيرة من التكنولوجيات ،أدى إلى تعريق مفاصل كثيرة منها، وبموثوقية عالية، تقترب من مثيلتها، في بلد المنشأ، باعتماد البديل العراقي.


ولقد اقترب العراق ،من مرحلة الاكتفاء الذاتي، في الكثير من المجالات الصناعية، مدخلات ومخرجات، بحيث لا تكاد تلحظ أي قطاع إنتاجي، إلا وتجد فيه لمسة وطنية، وبصمة عراقية بائنة. وبذلك أدهشت تجربة العراق، في التنمية الصناعية ،الكثير من المهتمين، ومراكز البحوث المختصة. حيث تمكن العراق، يوم ذاك، من تخطي خانة البلدان النامية.


ولقد أوشك العراق، قبيل الاحتلال، أن يستكمل، مستلزمات شهادة الجودة الشاملة (الأيزو). من خلال حملة مكثفة، تظافر فيها الجهد الوطني، في كل قطاعات الاقتصاد الوطني.


ومع كل ما رافق مشكلة الاحتكار المتخصص من تقييدات، في عملية توريد حلقات بذاتها من الصناعات والتقنيات المستوردة ،فقد استطاع جهد الكادر الوطني، تجاوز الكثير من تلك المعوقات، ووضع بدائل لها، بإبداع وطني متميز. وتراكمت خبرات علمية وفنية غنية، حتى بات الأداء الوطني، موضع ثقة وتقدير الكثير من المستهلكين، لا سيما في مجال المنتجات الغذائية والدوائية، التي كانت من بين أكثر المنتجات في المنطقة حظوة بثقة المستهلكين.


ولا بد من الإشارة، إلى أن فلسفة الترابط الأمامي والخلفي للقطاعات الصناعية، في إطار عملية التنمية الشاملة، كانت احد المعايير الصارمة، في مجال تقييم المشروعات، وتحديد جدوى الاستثمار. مما ولد بيئة صناعية متكاملة الحلقات، ومترابطة الوفورات، بحيث توارى الضياع في استخدام الموارد والاستثمارات، إلى درجة كبيرة، في الكثير من الصناعات، وخاصة تلك التي لا تقبل فكرة النفقات الضائعة.


وفي إطار مبدأ ربط الجامعة بالمجتمع، اعتمدت سياسة التعشيق بين الجامعة ومراكزها الاستشارية، كامتدادات أمامية لرفد الصناعة بالمعطيات والمؤشرات العلمية والتكنولوجية ، في إطار عقدي تكاملي ، افرز أطرا ونخبا من الخبرات المتراكمة المشهود لها في هذا المجال. حيث نشا في مثل هذه البيئة الأكاديمية، والحاضنة  الصناعية لها ،كادر أكاديمي محترف، وكفاءات فنية مقتدرة، قادت وبنت نهضة صناعية وعلمية ،لا مثيل لها في المنطقة.


وحيث أزعجت هذه الانجازات الكبيرة، مراكز الهيمنة الدولية والاحتكار المتخصص، فقد جاء الاحتلال الامريكي للعراق، ليأتي على كل المنجزات الصناعية، وضرب القاعدة الصناعية في البلد، العسكرية والمدنية والعلمية منها بالكامل، إمكانات و وسائلا. حيث توقفت المعامل، وتدهورت الجامعات، ونهبت موجوداتها، مما اضطر الكثير من الكفاءات العلمية ،في الجامعات والمنشأت الصناعية، لمغادرة البلد،لاسيما بعد استهدافها، سعيا وراء الحصول على عقد لفرصة عمل، وبيئة امن انسب.


لكن الملاحظ للأسف، أن الجامعات في اغلب البلدان العربية، أغلقت أبوابها، بوجه الكثير من هذه الكفاءات، وسارعت إلى استقدام بدائل أجنبية، في سياسة لا تراعي البعد القومي، باعتبار الكفاءة العراقية، رأسمالا عربيا ،وثروة قومية، بغض النظر عن أي اعتبارات سياسية، وبالتالي فانه يجب إعطاءها الأولوية في التعاقدات، واحتضانها وفق آليات استيعاب ملائمة، حتى لو تم ذلك خارج سياق الملاك، بالاستفادة من خبرتهم كاستشاريين، للمحافظة على هذه الطاقات، من الضياع والتسرب بالهجرة للخارج.


إن العمل على احتضان الكفاءات العراقية،واستقطابها، في الجامعات العربية، ومراكز البحوث، وغيرها ،من الصروح العلمية، هو مسؤولية قومية، تهم العرب جميعا. وان التفريط بهذه الطاقات، وإزاحتها بالمنافس الأجنبي، يعني تفريطا قوميا بالطاقات العربية، وفسح المجال، أمام عملية النقل المعاكس للتكنولوجيا، بهجرة الأدمغة العربية إلى الخارج، تحت وطأة صعوبات الظرف، وضغط الحاجة، إلى فرصة العمل، وتفريغ الوطن العربي، من طاقة أبنائه، الذين هم، بكل المقاييس، احرص من الغير، وأكثر غيرة واستعدادا للتضحية، في خدمة أبنائه، من خلال اختصاصاتهم وخبراتهم المتراكمة.   

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاحد  / ١٢ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٧ / حزيران / ٢٠٠٩ م