أطياف مؤسس البعث وإيحاءاته في ذكرى وفاته

 
 
 

شبكة المنصور

إسماعيل أبو البندورة
نستذكر في الثالث والعشرين من حزيران كل عام سيرة مؤسس البعث ميشيل عفلق ونستنهض ونراجع معه ذلك التراث العقائدي النضالي الذي انطلقت منه حركة البعث لبناء تجربة سياسية – فكرية – استقلالية أصيلة بدأت بأفكار واقعية نابعة من المشكلات الواقعية للأمة العربية وقادت فيما بعد إلى تقديم رؤية وقراءة عن واقع الأمة وسبل وحدتها وحريتها ونزوعها لبناء مجتمع العدل والتكافؤ والمساواة الذي ينهض بالإنسان العربي ويحرره من الاستلاب ويحقق حريته وحضوره الواعي في التاريخ .


ولم يكن من بين أهداف مؤسس البعث في البدايات إنشاء نظرية عقائدية مكتملة وشمولية تحصر العقل والممارسة في إطاراتها وحدودها وتجردها من إمكانية الإبداع والخلق المتواصل وإنما سعى إلى تقديم قراءة وإطار نظري ومنظور حضاري ومنهج في كيفية تحليل قضايا الواقع العربي الإشكالية وفتح آفاق الإبداع للإضافة والاستزادة والاجتهاد في كل مرحلة تتطلب فيها معطيات الواقع العربي والعمل النضالي وضوحا في الرؤية والمنطلقات أو تحديدات نظرية تحول دون الممارسة والتحرك في الفراغ والاختلاط والفوضى أو تكون تحت تأثير النظريات والرؤى الأخرى أو صدى وترديدا لها .


وإذا كان البعض قد عاب على عفلق رسائله في مرحلة ما من المراحل عن نظريته أو عن عدم اكتمال وشمولية نظريته في عصر سواد الايدولوجيات الكلية والشمولية وظهور الامميات المختلفة فان جوابه المنحاز لحرية الفكر واتساع أفاقه كان بأنه ربما يطرحه من أفكار أولية حول بعث الأمة العربية، يريد أن يزرع شجرة حقيقية تتطور بالإضافات النضالية المكملة ، ولا يريد أن يأتي بشجرة اصطناعية قد يوحي منظرها بالحياة والاخضرار ولكنها تظل زرعا غريبا طارئا في بيئة وظروف مغايرة تجعلها دائما محكومة بمنشئها وظروفها وبيئتها وكأنه أراد من ذلك القول انه لابد أولا
وأخيرا لأي نظرية أو تجربة الانطلاق من ارض الواقع العربي باعتباره مساحة للتفكير والإبداع والتحليل والتعبير وكانت تلك نقطة البداية التأسيسية والتكوينية الهامة في بناء قراءته ومنهجه ألانبعاثي فالتجربة الناجحة الصادقة الأصيلة هي تلك التي تنطلق انطلاقا طبيعيا ولا تكون صدى للأفكار والنظريات أو تطبيقا أعمى لها ودون مراعاة الظروف والمتطلبات التاريخية والثقافية والأفاق التي تتحرك من خلالها، وجاءت قناعات عفلق بهذا المبدأ والمنهج وهذا النمط من المنطلقات النظرية بعد قراءة وافية وناضجة للنظريات والأفكار والرؤى السائدة وصور تطبيقاتها وتجسداتها على ارض الواقع وبعد استيعاب لكل تراث الحركات والثورات التي هزت العالم وغيرت سياقاته التاريخية وقد ساعدته تلك القراءات في كيفية ابتداع منهج وقراءة عقلانية موضوعية جديدة لواقعنا العربي أي أن استقلاليته الفكرية كانت نتاجا واعيا للتمعن والإلمام بالنظريات المعاصرة له ولم تكن غائبة عن عقله وتفكيره وهو يشرع في اجتراح قراءته البعثية الجديدة إلا أن ما ميزه وميز قراءته انه لم يقرا النظريات باستسلام علمي لها أو وقوعا تحت تأثيراتها وإنما هو حاورها لكي يشتق منها ما يمكن أن يسهم في فهم الواقع العربي واشكالياته وفي علاقاته وتشابكاته مع قضايا العصر، فمؤسس البعث لم يكن منغلقا على الأفكار الأخرى السائدة وإنما كان محاورا لها وأراد لها أن تكون جزءا من الثقافة السياسية القومية لا بديلا عنها وأفقا لحركة تريد أن تغير الواقع العربي وتتقدم به إلى الأمام، وتقدم لديه تحقيق الأفكار على تنسيق الأفكار وقد وسم الأستاذ عفلق حركة البعث بميسمه الاستقلالي المؤتلف والمختلف في آن واحد والمتصل والمنفصل مع التراث النظري العالمي الساعي إلى الإبداع والرافض للإتباع الخلاق المعادي للجمود، وقدم للحزب منهجا خلاقا في الرؤية والتحليل يقوم على الواقعية والموضوعية ومحاورة الواقع أكثر مما قدم من النظريات والأفكار الصماء المجردة التي قد يفضي الانغلاق داخل سياجاتها إلى عصبية مقيتة أو دوجماتية عقائدية أو عصبوية هائجة في العمل السياسي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة والاكتمال وتكتم وتميت الإبداع والاجتهاد وكأنه أدرك الأزمة الفكرية التي يؤدي إليها الإيمان باليوتوبيات السياسية المطلقة والأفكار القداسية التي قد تعجز عن رؤية الظواهر في حالاتها المتغيرة فتجد ذاتها وقد اشتطت ونأت عن الواقع وتحولت إلى قوالب نظرية فارغة وقد جاءت التحولات والمتغيرات التي حدثت نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن


لكي تؤكد صحة منطلقات هذا المنهج وتحوطاته ، عندما وقف العالم أمام نهاية متسارعة للإيديولوجيات الشمولية التي أنشأت في سياقات تجاربها وتطبيقاتها يوتوبيا مثالية سرعان ما تهاوت أمام معطيات واقع متغير وهو الأمر الذي حاول عفلق أن يجنب حركة البعث معاناة نتائجه أي بان تصبح يوما خارج الواقع وحركة التاريخ أو تتحول إلى كلمات ومقولات فارغة لا معنى لها ، ولذلك سعى عفلق أثناء حياته وقيادته للبعث أن يجدد طرائق النظر وان يدع الأفكار تتلاقح وتبدع وتجتهد في إطار مؤسسة الحزب حتى تتمكن من مواجهة الأزمات والانحباس الذي ينشأ في سياقات الممارسة،


ولذلك لم تستطع حملة الاجتثاث الأخيرة التي جرت منذ عام 2003 في العراق أن تحقق غاياتها لان الحزب وجد نفسه أمام حالة صراع وامتحان جديد سرعان ما تغلب عليها بالانتقال السهل إلى المقاومة المسلحة  ومواجهة التحدي ولم الصفوف وعاد الحزب إلى سياقاته النضالية المتجددة في عملية إبداعية جديدة واجهت الاجتثاث بالانبعاث وحولت الأزمة أو الهزيمة إلى انتصار على الذات والواقع وتصدى لأشرس وأخطر وأحقر حملة استعمارية في التاريخ المعاصر وكانت الروح التي رسم ملامحها مؤسس البعث وكل معانيها وصورها حاضرة في هذا التجدد البعثي الذي واجه به حملة الاجتثاث الفاشية بانطلاقة جديدة مغايرة ونوعية .


إن البعثيين في كل أنحاء الوطن العربي وعندما يستذكرون مؤسس حزبهم الأستاذ ميشيل عفلق يستنهضون أسئلة وأجوبة جديدة ولا يطرحون في هذه المرحلة موقفا افتخاريا يجرد قضيتهم من أهدافها الكبرى أو يبقيها حبيسة نرجسية حزبية ضيقة وإنما يريدون من هذا الاستذكار الاستبصار والانفتاح على أفاق جديدة في العمل القومي وأول ما يتذكره البعثيون في هذا المجال هو البعد والمنهج النقدي الذي رسم خطوطه الكبرى الأستاذ عفلق وجعله الطريق الحقيقي لمراجعة الذات البعثية ونظرية العمل البعثية إذ انه آمن إيمانا راسخا بان التجارب الأصيلة لا تنمو إلا بالمراجعة


الدائمة ونقد الحالات المختلفة وان النقد والنقد الذاتي هو الذي يؤكد مشروعية التجارب وراهنيتها وخصوصا عند ظهور المنعطفات والمتغيرات الحادة فالنقد والنقد الذاتي كان في تجربة البعث من بين المبادئ الكبرى التي آمن بها لكي يتمكن من رؤية أخطائه وتصحيح مسيرته وإذا كان البعث قد مر بظروف قاسية وصعبة حالت بينه وبين هذا المبدأ في نقد تجربته فانه الآن يقوم بصدق وإلحاح على إجراء المراجعة والنقد وبطرائق مختلفة لعل منها ما يظهر كثيرا أو قليلا في أحاديث قائد الحزب والمقاومة عزت الدوري وما يظهر في الأدبيات السياسية الحديثة لبعض رموز البعث في
الوطن العربي يدفعهم في كل ذلك المنهج النقدي الذي وضعه الأستاذ عفلق بين أيديهم والذي يقوم على الصدق والشفافية والمكاشفة ونقد الذات والانتصار عليها .


لقد غاب عفلق ولكن أطيافه وإيحاءاته بقيت منارة لكل عربي قومي يؤمن بوحدة الأمة ونهضتها وقدرتها على الانبعاث والتجدد غاب وعينه وفؤاده وكل رهاناته على العراق العظيم وقائده المؤمن الشهيد وكل هذه الثلة من البعثيين النبلاء سواء من قضى منهم نحبه أو من ينتظر .. غاب وهو يرى الأمل يطل من سماء العراق .. غاب بعد أن غرس الشجرة الخضراء شجرة البعث والنضال .. غاب وحضر بعد أن رأى الشهداء يصعدون إلى السماء !!


تم إلقاء هذه البحث بتاريخ 23-6-2009 في احتفال الحزب بالذكرى العشرين لرحيل القائد المؤسس

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاربعاء  / ٢٩ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٤ / حزيران / ٢٠٠٩ م