انفلونزا الافتاء في السعودية

 
 
 

شبكة المنصور

علي الصراف
تواجه السعودية اليوم تحديا جديدا اسمه "انفلونزا الخنازير". وهو تحد يمكن ان يؤثر على موسم الحج لهذا العام، وذلك مع تصاعد الدعوات الى الغائه.


وسعى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي السعودية الاثنين الماضي الى مواجهة التحدي بإصدار فتوى تحض السعوديين على عدم السفر الى الخارج تحاشيا لنقل المرض. ولكن المرض انتقل بالفعل، فبدا كما لو ان الشيخ آل الشيخ وقع على سيفه بسبب فتواه.


والشيخ عبد العزيز آل الشيخ شخصية دينية مرموقة في السعودية حتى قبل أن يكون مفتيا. له أتباع ومريدون كثر، وإذا انتقدته تصلك تهديدات تعدك بالويل والثبور وعظائم الأمور.


ولكنه كأي إنسان آخر، يخطئ ويصيب. وأخطاء الشيخ أكثر من صوابه هذه الأيام.


للعمر أحكامه طبعا. ولكن بيئة المعرفة ومستلزماتها تلعب دورا أهم في صنع الخطأ والصواب لدى الشيخ.


هذه البيئة لم تكن تحتاج في السابق الى حسن اطلاع إلا في حدود ضيقة. وفي هذه الحدود فان كل ما كان يقوله الشيخ لا بد وأن يكون صوابا. بمعنى، انه إذا كانت معارفك عن الطب توقفت عند حدود أبي بكر الرازي، فلا شك ان كل الأعشاب التي ستقترحها هي دواء ناجع. أما إذا أردت من خلالها أن تعالج انفلونزا الخنازير، او الإيدز، فانك لن تفعل سوى ان تسلك دروب الخطأ. فهذان المرضان لم يكونا موجودين في زمان الرازي، وبالتالي فان كل صيدليته المؤلفة من الزئبق والخل والكحول والأعشاب لن تنفع. أما إذا أردت أن تبني فوقها فتوى، فلابد انك ستدفع نفسك الى مطب أنت في غنى عنه.


الفتوى التي أصدرها الشيخ آل الشيخ تحض السعوديين على عدم السفر الى أكثر من ثلثي الكرة الأرضية بالنظر الى انتشار فيروس انفلونزا الخنازير فيها.


وقال الشيخ ان "النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا وقع الطاعون في بلد ألا ندخله، وإذا وقع ونحن فيه ألا نخرج منه، لأن موت الطاعون شهادة، فإذا علمنا أن البلد موبوء ومصاب بهذا المرض فيحرم علينا السفر له، لأننا بهذا نلقي بأيدينا إلى التهلكة".


قاس الشيخ انفلونزا الخنازير بالطاعون، وأصدر فتواه على هذا الأساس.
والقياس خطأ مرتين على الأقل.
الأول، هو أن الانفلونزا شيء، والطاعون شيء آخر.
والثاني، هو أن طاعون اليوم ليس كطاعون الأمس.


كان يجدر بالشيخ آل الشيخ أن يعلم انه من بين أكثر من 27 ألف إصابة بالفيروس فان إجمالي الوفيات ما يزال أدنى من 150 شخصا في أربع أركان الأرض. كما كان يحسن بالشيخ أن يعرف إن عدد الذين يموتون في السعودية، يوميا، بأمراض فيروسية، أكثر بكثير من هذا العدد.


وكل ما كان عليه أن يفعله، لكي يعرف، هو أن يرفع سماعة التلفون ليسأل خبيرا أو مختصا أو باحثا لينير له الطريق.
إلا انه لم يسأل. ولم يطلب أن يتم تزويده بمعلومات وأرقام لا عن هذا المرض ولا عن غيره. وكشف الرجل انه عندما يفتي، فانه يفتي من دون تدقيق.


ولهذا السبب، لم يلاحظ ان هناك فرقا كبيرا بين الانفلونزا والطاعون، وان نسب الوفيات بينهما مختلفة جذريا.
كما لم يلاحظ أيضا أن الطاعون قبل 1400 عام كان وباء مدمرا، يحسن بالفعل تجنب الدخول أو الخروج من مناطقه، إلا انه لم يعد مدمرا اليوم بالمستوى نفسه بفضل توفر العلاج.


ولقد أظهر الرجل إن معارفه (العامة) لم تتقدم خطوة واحدة عن المعارف السائدة في زمن الرازي، هذا إذا كانت وصلت اليه أصلا.


مع ذلك، فاذا شاء المرء إتباع فتوى الشيخ، فعليه ألا يخرج من السعودية الى أي مكان أُعلن عن وجود ذلك الفيروس فيه.


وهو أمر يبدو بحد ذاته بعيدا عن المنطق. فلا السعودية قادرة على أن تغلق أبوابها، ولا الفيروسات ستتوقف عن المجيء.


مفارقات القدر، كانت تخبئ للشيخ آل الشيخ مفاجأة غير سارة. إذ لم تمض سوى 24 ساعة على الفتوى حتى أعلنت وزارة الصحة السعودية عن تسجيل 5 إصابات جديدة بالفيروس ليرتفع بذلك عدد الإصابات التي تم تسجيلها في المملكة إلى 22 حالة.


الآن. إذا شئت أن تمضي بالفتوى قدما، فعليك أن تقول لكل السعوديين في الخارج: "لا تعودوا الى بلدكم"، ولكل السعوديين في الداخل "لا تخرجوا من منازلكم"، ولكل خلق الله الآخرين: "لا تعرضوا أنفسكم الى التهلكة بالمجيء الى السعودية" لأن "النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا وقع الطاعون في بلد ألا ندخله".


ولكن هات من يقنع المفتي أن انفلونزا الخنازير ليست بطاعون، وأن الطاعون نفسه لم يعد ذلك الطاعون، وان السعودية ليست موبوءة بكارثة، وان ما قاله النبي (ص) لم يعد موضوعا ذا صلة بواقع اليوم.


أراد الشيخ آل الشيخ، بحسن نية، أن يوفر حماية لموسم الحج، بابقاء السعودية خالية من المرض. ولكن، مثل الكثير من النيات الحسنة القائمة على قلة معرفة، فقد انقلبت عليه. حتى لكأنه اليوم، بفتواه ذاتها، صار ملزما بتأييد الدعوات لإلغاء موسم الحج لهذا العام. أي بالضبط عكس ما أراد.


كان يمكن للشيخ آل الشيخ أن يتبع إستراتيجية أفضل، تقوم على معرفة، فتهدأ من روع الناس، بدلا من أن تزيد الطين بلة.


فالواقع يقول انه من بين نحو ملياري إنسان يعيشون في 74 بلدا، ظهرت 27 ألف إصابة، ومات 150 إنسان. وهذا يعني انه لو اجتمع 20 مليون زائر وحاج ومواطن في السعودية، فمن المرجح حسابيا أن يصاب 270 إنسان ويموت منهم 1.5 انسان فقط.


وهذا ليس بطاعون. وهو لا يستدعي فرارا من العالم، ولا من السعودية. وحجاج بيت الله الحرام سيكونون بألف خير.
فتوى تقوم على معرفة كانت ستحمي الشيخ من الوقوع على سيفه. كما كان يمكن لحاسبة بسيطة أن تساهم في جعله مفتيا أقرب الى عالم اليوم، يترك عصر الزئبق والخل، ليدخل عصر البنسلين.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاربعاء  / ٢٢ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٧ / حزيران / ٢٠٠٩ م