أن تكون '' وطنيا '' ، ماذا تعني؟

 
 
 

شبكة المنصور

علي الصراف
"حب الوطن، وحماية مصالحه، وتفضيله، والذود عنه..."، تكاد تلخص كل مفهوم الوطنية عندنا. وهذا مفهومٌ أحادي الجانب، ناقص، وخطير.


الكثير من أوجه الدمار الذي لحق بالعراق (كما بغيره) على مدى عقود طويلة من الزمن يتصل بهذا المفهوم الأعور للوطنية.


الكل يقول عن نفسه انه "وطني"، حتى العميل الرسمي الذي يمتطي دبابات الاحتلال يقول انه "وطني".


فما هو المعيار؟ وكيف لي، وأنا أنظر الى ما يقرب 90 حزبا و200 منظمة، وعشرات الآلاف من النشطاء السياسيين، أن أعرف من هو "الوطني"؟


وإذا شئت أن تلتحق بحزب، أفلا يجدر بك، وأنت داخل الى هذا السوبر ماركت العجيب، أن تسأل: أيٌ منهم "وطني"؟ وإذا وجدت نفسك محتارا، أفلا يجدر أن تدقق في حيرتك؟ بمعنى، أن تدقق في المعايير التي تستخدمها لتحديد "الوطني" من "غير الوطني".


لكي تقيس طول وعرض هذا الوطني، ألا تحتاج الى مسطرة؟ الى معيار صالح يسري على الجميع؟
لنفترض إن العملاء، تعريفا، هم كل من يرتبط أو يحتمي بقوى ومصالح أجنبية. هذا التعريف يقطع دابر الخلط.
ولكن من هو "الوطني"، أهو "كل الذين يحبون وطنهم ويحمون مصالحه...".


وإذا كان لديك 50 فصيل مقاومة، كلٌ منها يدافع عن الوطن ويُرخص من اجله الدماء، فقد يكفي هذا لاعتبارها فصائل "وطنية". فتعطيها حقا مساويا لما تعطيه لنفسك في الوطنية. ولكنك عندما تحتار بينها، وبين تضارباتها واختلافاتها، أفلا يجدر أن تدقق في السبب الذي يجعلك تحتار؟ ألا يجدر أن تفحص معاييرك؟


تفضيلات أيديولوجية وأفكار ومشاعر وانتماءات عامة، طبقية او قومية او دينية، هي غالبا ما تدفعنا الى الاختيار بين هذا "الوطني" وذاك. ولكن هل هذا يكفي لكي ترتاح من السؤال: ما الذي يجعل الوطني وطنيا؟


وفي العلاقة بين "وطني" و"وطني"، أفلا يحسن أن يكون هناك معيار مشترك؟ وعلى أساس هذا المشترك، ألا يفترض أن تكون هناك قواعد سلوك وأخلاقيات تحفظ حق "المشترك" بين الوطني والوطني؟


هل يجوز، مثلا، إذا حدث اختلاف في الرأي، أن أسحب منك شهادة الوطنية التي احتكرها لنفسي؟ هل يجوز أن اعتبر نفسي، أنا وحدي، الدائرة العليا لإصدار شهادات الوطنية؟


وعندما أقرر سحبها، أفلا يفترض أن أقول لك، من أين جئتُ بالتخويل؟ أو ما الذي يجعل هذا التخويل من حقي أنا وحدي؟


أسئلة كهذه، كلما كثرت، كلما اكتشفنا الصبيانية، والحكرية، التي تعاني منها وطنيتنا.
ثمة دم يسيل أحيانا بين الوطني والوطني. من أين تأتيك القدرة على حرق ومحق وسحق الوطني؟ ماذا فعلت لـ"المشترك"؟ وكيف جاز له ألا يحفظ حقه عليك؟


هل مزاجي، عندما يتعكر، يتحول الوطني اليوم، الى لا وطني غدا؟ هل لأنه اختلف معي في الرأي صار من الجائز شطبه؟ ثم إذا كنتُ أتنطع بالزعم إني مع "حرية الرأي" "والتعددية السياسية"، ثم لا أجد في نفسي القدرة على تحمل الاختلاف، أفلا يعني ذلك إني منافق، أقول شيئا لا أعنيه، وأطرح مزاعم لا أقصدها؟


لقد هيمنت على تاريخ العراق الحديث أحزابٌ كان كلها يقول عن نفسه انه "وطني". وبمقدار ما يتعلق الأمر بالمشترك، فقد كانت كلها بالفعل أحزابا وطنية في وقت من الأوقات. بمعنى إنها كانت تذود عن مصالح العراق وتقصد الدفاع عن حريته وسيادته واستقلاله. ولكنها ما أن خرجت من دائرة المشترك، حتى بدأ الخلاف. ومن الخلاف بدأ التناحر، والتذابح، حتى حققنا نجاحا منقطع النظير (منقطع النظير فعلا) في تحويل بلد كان بوسعه أن يكون جنة الله على الأرض، الى أرض يباب، يغزوها جراد وقرود وضباع وثعابين.


"المسؤولية عن هذا الخراب، هي مسؤوليتي. أنا كنت واحدا من أسبابه". هذا اعتراف ما يزال يحتاج الى شجعان لكي يعترفوا به. "لقد أذنبت بحق وطني ووطنيتي، عندما سحقت وطنية الآخرين وغمطتُ لهم حقهم فيها، وحولت اختلاف الرأي والخيارات الى أداة للرجم الجماعي، وشطبت كل من هو غيري". هذا اعتراف آخر كان يجب أن يدلي به كل وطني، قبل نعترف له انه "وطني" بالفعل.


"حب الوطن، والدفاع عن مصالحه..."، حسب التجربة الدامية والرهيبة للعراق، أثبتت انها لا تكفي كتعريف ومعيار. بل أن خطرها هو ما نراه اليوم في كل دمار وأعمال إبادة وسلوك وحشي.


والكل كان يقول انه "وطني". ولكن، في الوقت نفسه، الكل كان يعتبر انه هو وحده الوطني، ولا أحد سواه.
لا مشترك. إما أنا، أو فليكن من بعدي الطوفان.


وها هو الطوفان جاء.
خرّبّناها وجلسنا على تلتها ننعق مثل البوم. وما يزال هناك بيننا من لم يعِ الدرس. يسحق ويمحق ما طاب له الهوى، ما الحب إلا للحبيب الأولي. هذه هي كل القصة. وطني هو حزبي، هو وجهة نظري وحدي، هو خياراتي الصائبة أنا وحدي، هو ما أراه، وكل ما عداه خاطئ وباطل ومرفوض. الوطن هو أنا، وأنا هو الوطن. وأنا الوحيد المخول بإصدار شهادات الوطنية وسحبها. على كيفي. والوطن هو "مال أبو اللي خلّفني".


هل هذه "وطنية"؟ هل يمكن لعاقل، في عالم اليوم، أن يقبلها؟
اللغة عديمة الاحترام التي يخاطب بها "الوطنيون" أحدهم الآخر تكشف في الكثير من الأحيان ليس عن صبيانية دموية، ولكنها تكشف عن مدى الرعونة التي جعلت من الخراب الراهن خرابا شاملا.
شيءٌ ما تحطم ليس في العراق دولةً ومؤسسات، بل في النفوس أيضا. شيءٌ، ما يزال يتكلف الكثير من الدماء والعرق لغسله ولإعادة بناء ما تهدم من جرّائه.


كنت أود لو أسأل: متى يكفُّ الوطني عن أن يكون وطنيا؟ وكان بودي لو أقول: عندما يبدأ السحق والمحق ضد وطني آخر؛ ضد الحزب الآخر؛ ضد التيار الآخر؛ ضد وجهة النظر الأخرى. ولكني تريثتُ، لكي لا أجد نفسي أسحب شهادةً لم أُصدرها.


تضيع الوطنية، بين حابل الأحزاب ونابلها، بسبب غياب المعايير وضبابية المفهوم.
الوطنية مفهوم يحتاج الى إعادة فهم، أو إعادة تحرير، أو إعادة بناء، قبل أن يمكن تحرير العراق أو إعادة بنائه.
بصراحة، أفضل للعراق أن يظل تحت الاحتلال، وتحت حكم عصابة الدجالين، من أن نحرره ونحن لا نعرف ما هي معايير الوطنية.


لماذا؟
لأننا بالضياع والضبابية السابقتين للمفهوم، سنعيد تدميره من جديد، وسنجلس فوق خرابه لننعق مثل البوم،.. من جديد.


نحن بحاجة الى "مشروع وطني" يبدأ من تعريف من هو "الوطني"، ويحدد معايير وأخلاقيات العلاقة بين الوطني والوطني. وكيف يمكن معالجة الخلافات بينهما، وما هي الأسس التي تحفظ حقه وتحميه وتكرس بقاءه، حراً ومختلفاً، وكيف ندافع عنه، في حريته وفي اختلافه!
وهذا المشروع لم يوجد بعد. انه مشروع المقاومة الناقص حتى اليوم.
هناك مشاريع حزبية للتحرير. وكل منها يزعم انه هو "المشروع الوطني".
وهذا يكرر القصة الدامية نفسها. وهذا خطيرٌ، ومدمرٌ.


حسنٌ جدا، أن يختلف الوطنيون اليوم، حول كل شيء. هذا شيء رائع ومفيد. ليس من مصلحة العراق في المستقبل أن تكون له وجهة نظر واحدة.


ولكن أحسن منه لو فهم الوطنيون من أي أرض ينطلقون. أمن أرض الوطنية التي جلبت الأعمال الوحشية بين "الوطنيين"، بسبب اختلاف وجهات نظرهم؟ أم من أرضية جديدة تقبل الاختلاف وتركن الى المشترك؟
الوطنية، في مفهومها الصبياني والأعور، تعني موقفا ايجابيا من "الوطن". ولكن هذا لا يكفي.


الوطنية التي نحتاجها تعني موقفا ايجابيا من "المواطن"؛ من الآخر الشريك في الوطن؛ تعني موقفا يضمن حقه في الاختلاف وحريته في التعبير عنه، وحقه في مساحة متساوية لقوله.


الوطني الحقيقي، هو ليس ذلك الذي يدافع عن حزبه (فذلك أمر لا فضل فيه)، بل هو الذي يدافع عن حزب غيره، عن ذلك "المشترك" الذي يجمع بين الوطني والوطني، ليقوّيه، وليحوله الى قيمة يحتفل بها ويستفيد منها كل وطني.


الوطني هو ذلك الذي يجرؤ على ان يتخلى عن "أناه"، ليرفع من شأن ومكانة الوطني الآخر، فيرتفع معه وبه. لا أن يحط من قدره، فيهبط معه وبه الى أسفل سافلين.


وقد نختلف. بل من المفيد، ومن الضروري أن نختلف. ولكن من الضروري أيضا أن نتفق على أسس لتنظيم الاختلاف، وعلى مرجعية (انتخابية مثلا) نحتكم إليها، وعلى أخلاقيات في الحوار.
تكون وطنيا أكثر عندما تدافع عن "المشترك" مع الآخر، حتى عندما يؤذيك.
لماذا؟
لأنك، بإعلاء "المشترك"، تعيده الى الصراط المستقيم وتجعل من هذا الصراط قيمة قائمة بذاتها.


عندما تدافع عن حزبك وحده، فهذا يجعلك مليشياويا أكثر مما يجعلك "وطنيا". وطنيتك القائمة على تصور سياسي أو أيديولوجي خاص بك، ليست وطنية لأنها، ببساطة، لا تلحظ الآخرين ولا تأخذهم في نظر الاعتبار.


راجع تاريخ النازية، وستجد أن النازيين كانوا وطنيين أيضا. ولكن وطنيتهم كانت قائمة على قاعدة راسخة واحدة هي إنها لا تأخذ الآخرين في نظر الاعتبار.


لقد صارت، على هذا الأساس، وطنية سحق ومحق وقتل وسجون وتعذيب.
وجربناها. أحزابٌ كثيرة في تاريخ العراق الحديث جربت أشكالا من الوطنية النازية، حتى أتت على العراق كله، وحتى أرخت مناعته ليصبح صيدا سهلا للغزاة واللصوص والمجرمين والسفلة.


لقد آن الأوان، لنضع حدا لهذا كله، في ما بيننا على الأقل؛ في ما بين المقاومين؛ في ما بين الذين يدفعون دماءهم ثمنا لحرية العراق وسيادته وحرية ورفاهية شعبه.


الوطنية هي "المشترك" يا سيدي. الوطنية ليست أنت، وليست أنا. الوطنية هي ذلك "الشيء" الذي يوجد في "ما بيننا".


هذا "المشترك" إذا ضاع، ضاعت وسقطت وطنيتي قبل أن تضيع أو تسقط وطنيك.
وطنيتي هي موقفي منك. ووطنيتك هي موقفك مني.


هل أنت وطني؟

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاحد  / ١٩ رجــــب ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٢ / تمــوز / ٢٠٠٩ م