عولمة السطحيّة

 
 
 

شبكة المنصور

علي الصراف

الإنشغال العالمي بانفلونزا الخنازير مثير للحيرة.


منظمة الصحة العالمية أشعلت جميع الإضاءات التحذيرية تقريبا، ورفعت مستوى الإنذار الى الدرجة السادسة لتقول أن فيروس (إيه/اتش1إن1) تحول الى وباء عالمي.


ومع تحول الفيروس الى وباء إعلامي يغزو شاشات التلفزيون وموجات الأثير، فقد أصبح المرء يشعر وكأن العالم يواجه كارثة لن يخرج منها أحد سالما.


الحقيقة ليست كذلك. ومقارنة بمخاطر أخرى، فان الإنشغال العالمي بانفلونزا الخنازير يبدو سطحيا الى درجة تثير من الذعر أكثر مما يثير المرض نفسه.


الحقيقة كاملة تقول أن هذا الوباء الأسطوري أصاب 27737 إنسان (حتى أربعاء الأسبوع الماضي) في 74 دولة وقتل 141 شخصا فقط.


هذه النتيجة تجعل من فيروس (إيه/اتش1إن1) واحدا من أرحم الفيروسات في التاريخ، ومن معالجته واحدة من أفضل المعالجات قياسيا بكل الأمراض الأخرى تقريبا.


ومع ذلك فثمة هستيريا عالمية بشأن المرض. ومنظمة الصحة العالمية تركت مطبخها وسخا ومليئاً بالكوارث والمُلمّات لتشغل نفسها بمرض محدود الأثر مثل هذا.


ولا حاجة الى أن تقول لي ماذا تفعل الهستيريا إذا وصلت الى مصر مثلا. فعدا عن أن الحكومة بدأت بذبح مئات الآلاف من الخنازير لاعتبارات تمزج الديني بالوقائي، فأن خنزيرا صغيرا أفلت من مزرعة قبل بضعة أسابيع، كان كافيا ليثير الذعر في إحدى القرى حتى فر منها أهلها، وكأنهم رأوا بعبعا.


ويجتمع وزراء الصحة ليناقشوا الاستعدادات لمواجهة "الوباء" وسط مشاعر تقول أنهم صاروا مارشالات في وزارة الحربية. وذلك مع أن أصحاب النباهة يعرفون أن الانفلونزا العادية تصيب من البشر أكثر مما تصيب انفلونزا الخنازير، وان الأولى تقتل أكثر بكثير مما تقتل الثانية.


ولئن لم يحدث أن اجتمع وزراء الصحة والدفاع والخارجية والأمن القومي لبحث مخاطر الانفلونزا البشرية، فان المقاربة الحسابية لعدد الإصابات والوفيات بين المرضين تقول أنهم لا بد أن يجتمعوا للنظر في مخاطر الصداع النصفي أيضا. فعدد المصابين بهذا المرض أكثر، والذين ينتحرون من جرائه في العالم أكثر ممن يموتون بانفلونزا الخنازير.


هل أصبح العالم سخيفا جدا؟


الجواب، مع الأسف، هو: نعم.


ولكنه عالم غبي أيضا. وبالتأكيد فانه لا يحسب.


نحن نعيش في عالم يموت فيه أكثر من 35 ألف طفل يوميا بسبب الجوع أو المرض. ولكن لا تثار ضجة يومية بشأنهم.


ونحن نعيش في عالم يموت 1.8 مليون طفل فيه سنوياً بسبب الإسهال. وهناك 1.4 مليون يموتون سنوياً بسبب نقص المياه والمرافق الصحية و2.2 مليون من أمراض يمكن التلقيح ضدّها.
أين منظمة الصحة العالمية من هذه الحقائق (وهي حقائقها بالمناسبة)؟
اطرق على جمجمة هذه المنظمة الدولية وستجد أنها فارغة. ولن يطول الوقت قبل أن تجد أنها، لسبب يتعلق بالغباء العالمي، قررت أن تترك مطبخها وسخا لتنشغل بشيء آخر.


ونحن في عالم يوجد فيه 1.2 مليار إنسان يعيشون تحت خط الفقر (أقل من دولار باليوم)، وفي حين يعيش 4.2 مليار إنسان في دول تعد فقيرة (أو "نامية") فان "33.3% من مواطني هذه الدول ليس لديهم مياه شرب آمنة أو معقمة صالحة للشرب والاستعمال، و25% يفتقرون للسكن اللائق، و20% يفتقرون لأبسط الخدمات الصحية الاعتيادية، و20% من الأطفال لا يصلون لأكثر من الصف الخامس الابتدائي، و20% من الطلبة يعانون من سوء ونقص التغذية".


ويموت سنويا أكثر من 30 مليون إنسان بسبب الجوع. وتقول إدارة البنك الدولي أن نحو 100 مليون إنسان انضموا العام الماضي إلى قائمة الفقراء بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
وهناك بين 27 و28% من أطفال الدول النامية يعانون من نقص في الوزن أو التقزّم بسبب نقص الطعام.
وهناك 1.6 مليار إنسان، او ما يعادل ربع البشرية، بلا كهرباء.
وفي كل سنة (منذ عام 2005)، هناك 350-500 مليون حالة ملاريا، يموت منهم حوالي المليون انسان سنويا، وتستأثر إفريقيا بنسبة 90٪ من وفيات الملاريا، ويشكل الأطفال أكثر من 80% من ضحايا هذا المرض في جميع أنحاء العالم.


ويقدر عدد المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) بنحو 50 مليون شخص يموت منهم بين 3-4 مليون إنسان سنويا، بينما ينضاف الى المصابين ما يتراوح بين 5-7 مليون شخص سنويا.
وعدا عن أوبئة المرض والفقر، فهناك وباء البطالة الذي يصيب 210 مليون إنسان، بينهم 14 مليون في الاتحاد الأوروبي، و17 مليون في العالم العربي.


ونحن نعيش في عالم ما يزال 71% من نسائه (حسب دراسة لمنظمة الصحة العالمية – أياها، أجريت في 10 دول) يتعرضن للعنف الجسدي.


وغير وباء العنف، هناك أوبئة الفساد التي تنخر عظام اقتصاديات أكثر من نصف دول العالم.
وهناك جرائم الاعتداء على الأطفال والاستغلال الجنسي، والرقيق الأبيض، وأعمال القتل على الهوية، والتهجير القسري، والحروب والنزاعات الأهلية.


ويمكن للمرء أن يجزم أن كل واحد من هذه الأوبئة يصيب أكثر مما يفعل فيروس (إيه/اتش1إن1)، وهي تقتل أكثر بكثير من أولئك الـ141 إنسان الذين قضوا فيه.


فهل يجتمع وزراء الدفاع والخارجية والأمن القومي لبحث مخاطر تلك الأوبئة؟
هل نعطيهم حاسبة لكي يجروا عليها القليل من الجمع والطرح، على الأقل ليعرفوا ماذا يفعل الصداع النصفي في المجتمع بسبب جهلهم الحسابي؟


أم أن عالمهم الغبي هو الذي يدفعهم للركض وراء إنذارات منظمة الصحة العالمية، بينما يتركون ملايين الأطفال يموتون من المرض والجوع؟


المثير للحيرة أكثر هو ليس ما يفعله أو لا يفعله هذا الفيروس أو ذاك، بل كيف أصبح العالم الذي نعيش فيه غبيا الى هذا الحد؟ ومن المسؤول عن الإفراط العالمي في الجهل؟


أليست السطحيةُ نفسها وباءً أيضا؟

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ٢١ جمادي الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٦ / حزيران / ٢٠٠٩ م