تفاصيل لم تُعلن .. والخطة المؤجلة دوما كانت ستنفذ عبر الخليج وبأسلوب جديد

خفايا الأُفق الضبابي نحو ضرب المشروع النووي الإيراني

 
 
 

شبكة المنصور

نبيل ابو جعفر / كاتب وصحافي عربي يقيم في باريس

قبل أربعة عشر عاما من اليوم ، سرّبت إسرائيل في مطلع العام 1995 معلومات أمنية تتحدث عن نيّتها القيام بعملية عسكرية لضرب المفاعلات النووية الإيرانية إنطلاقا من الخليج ، وبأسلوب يختلف عن ذلك الذي اتّبعته في ضرب مفاعل تمّوز العراقي عام 1981. وتمّت الإشارة وقتها الى استهداف مفاعل بوشهر ، الذي دمره الجيش العراقي أثناء الحرب مع إيران ، وبدأت ألمانيا بإعادة بنائه . بالإضافة الى مفاعلين آخرين يقعان بالقرب من بحر قزوين .

 

وقتها ، كانت إيران أيضا على أبواب البدء بإنشاء مفاعلين جديدين بالإتفاق مع روسيا ، كما كانت هذه الأخيرة بصدد بيعها معدّات لإنشاء اربعة مفاعلات أخرى تعمل  بالماء الخفيف ، تم الحديث بشأنها ـ على ذمة " النيو يورك تايمز" ـ مع مسؤول وكالة الطاقة الذرية الروسية ـ في ذلك الحين ـ فيكتور ميخائيلوف .

 

لكن إسرائيل نفسها سرعان ما سرّبت بعد ذلك أنباء تومىء الى احتمال تأجيل هذه الضربة ، تحت ذريعة أن ضرب المفاعلات الخمسة أكثر فاعلية  من ضرب مفاعل واحد !

 

حدث ذلك قبل اغتيال إسحق رابين بسبعة شهور تقريبا . أما بعد اغتياله الذي تم في 4 تشرين الثاني / نوفمبر 1995 فقد عمدت إسرائيل الى تسريب خبر نشرته العديد من الصحف على لسان مصادر غربية أبدت فيه تخوّفها الجدّي من قيام مجموعة من اليهود المتشددين بسرقة قنابل ذرية صغيرة  ، بمساعدة بعض العسكريين المناوئين لنهج التسوية الذي اختطّه رابين مع ياسر عرفات والمتخوّفين من استمراره . وذهبت المصادر الغربية الى القول أنه في حال عدم تمكّن هذه المجموعة من تحقيق ما تصبو اليه ، فإن احتمال القيام بانقلاب عسكري محدود الهدف ، سيكون هو البديل الأرجح ، كخطوة إسرائيلية وقائية ولو شريرة ، تعيد عقارب مساعي رابين المعطّلة بموته الى الوراء ، فتدرأ بذلك شرّا أكبر ، وتفتح مجال التفرّغ  لمجابهة الخطر النووي الإيراني  !

 

غير أن الأيام والسنين قد مرّت ، ولم يُنفّذ من يومها لليوم أي شيء من قبيل التوقعات والتسريبات .لا الضربة التي تكرّر الحديث عنها ، ولا سرقة القنابل ، ولا الإنقلاب المزعوم !

 

الفارق بين اللفظ والفعل

يومها لم تكن هذه المجموعة في الحُكم ، أما اليوم فقد تغيّر الحال بعد أن أصبحت ممثّلة بالتيار الموغل في العنصرية والتشدد هي الحُكم . وليس المقصود هنا شخص بنيامين نتانياهو فقط ، وهو اليميني المتعصب الذي سبق له أن حكم قبل ذلك ، بل شركاءه في التحالف الصهيوني المغالي في عدائيته من أمثال ليبرمان والأحزاب والتكتلات الدينية التي معه . ومع ذلك لم يتخوّف أحد في الغرب كما تخوّفوا في السابق من مجرد احتمال سرقة قنبلة أو التلويح بحركة إنقلابية محدودة . فهل يا ترى أصبحت إسرائيل الآن أكثر عقلانية من السابق أم ما الذي جدّ من يومها لليوم ، مع أن  الفسفور الأبيض الذي استخدمته حكومة أولمرت "الأقل تشددا!" في إبادة المدنيين من أهل غزة لا يقلّ إجراما وإبادة جماعية عن استخدام القنبلة الذرية الإسرائيلية ضدّ أي بلد كان !    

 

واللافت في ظل هذه الأجواء الجديدة أن موجة الحديث عن ضربة إسرائيلية محتملة قد عادت مؤخرا للتصاعد بشكل صريح وعلني ، بعد موجة من التهديدات الأميركية التي صدرت في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ، وبدأنا نسمع ونقرأ سيناريوات مختلفة الصيغ حولها ، كان من أبرزها ما  نشرته  بالتفصيل الدقيق صحيفة "التايمز" اللندنية  / عدد  18 نيسان / ابريل . فهل سيفعلها تآلف ليبرمان ـ نتانياهو الذي لم يعد الآن بحاجة الى سرقة قنبلة ، ولا الى توسّل أحد للحصول على قرار مركزي صعب  المنال ؟

 

هنا ، تنقسم الآراء بشكل حاد فثمة من من يرى أن الضربة آتية لا ريب فيها طالما بقيت إيران على عنادها  . وثمة من يستبعدها ويرى استحالة تنفيذها بشكل يؤذي إيران في العمق كما تمّ إيذاء العراق . أما إذا  كان لابد من خطوة ما في هذا الإتجاه ، فضربة محدودة التأثير والأهداف .

 

ترجيح تحقق أحد هذين الإحتمالين يحتّم علينا العودة الى الوراء لنتبين مدى أرجحية الكلام على الفعل أو العكس . فإذا أقرينا أن هذه التهديدات القديمة  كانت تتجدد بين حين وآخر دون أن تأخذ طريقها للتنفيذ ولو ب "ضربة كفّ"  أميركية أو إسرائيلية ـ لا فرق ـ . ثم قارناها بالتهديدات التي وُجّهت للعراق مرات عديدة  ونُفّذت بحذافيرها التفصيلية التي سبق وأن أعلن عنها  في الصحف ، نرى الفارق الكبير بين الحالة الجدّية وحالة التهديداللفظي  . ولا يُقتصر هذا الفارق على الحرب الأخيرة التي شُنت ضد العراق وأدت لاحتلاله ، ولا الى سنوات الحصار الثلاثة عشر التي سبقتها وتضمنت استهداف هذا البلد العربي مرارا وتكرارا بغارات جوية مدمرة ، بل يبدأ منذ الساعات الأولى لأزمة "احتلال" الكويت ، عندما شرعت الولايات المتحدة بتوجيه سيل من التهديدات الى العراق ، ولم  تتورع عن كشف خططها العسكرية في الصحف ، بدءا بعملية "جمل الليل" ، وحتى ما بعد وقوع الإحتلال .ّ

 

وعلى سبيل التذكير نقول أن أوساط البنتاغون لم تخف اقتناعها منذ أواخر العام 1990 بأن الحسم العسكري ـ وليس مجرد ضربة ـ هو الخيار الأميركي الوحيد تجاه العراق ، وأن خطة جمل الليل أصبحت جاهزة وتنتظر الضوء الأخضر من بوش الأب لبدئها ، وقد أعلن عن ذلك في وسائل الإعلام ، وقامت بعض الصحف الأميركية بنشر تفاصيل هذه العملية مسبقا ، حتى أن مجلة  "الإكسبريس " الفرنسية نشرت في عددها المؤرخ من 11 إلى 17 تشرين الأول / اكتوبر 1990 ( بعد شهرين من دخول الكويت )  تفاصيل هذه العملية استنادا الى معلومات خاصة من مطبخ وزير الدفاع ديك تشيني في وقتها .

 

وحتى لا نطيل ، بل لندلل بالأمثلة على الفارق بين الإستهداف الفعلي دون تردد ولا تسويف ومجرد العزف المتكرر على وتر الضرب ، نقول أنه أّعلن  يومها بأن الحرب على العراق لن تعتمد على الخدعة هذه المرة بل على التكنولوجيا ، وهو أمر بات خارجا عن حدود السرية والتكتم . أما تفاصيل العملية فتشير في صفحتها الأولى الى توجيه ضربات خاطفة تقوم بها 22 طائرة أميركية ( إف117 إى ) من نوع الشبح بهدف تدمير صواريخ سام الفرنسية الصنع وبطاريات إطلاق صواريخ أرض ـ جو ( رولاند ) الفرنسية ـ الألمانية ، فضلا عن عشرات المقاتلات ( إف115 إي ) و60 طائرة كورسيرا من حاملة الطائرات إندبندنتس ... إلخ ...كما أشارت أيضا الى أن 32 طائرة كروز توماهوك سوف تهتم بمطاردة مخابىء الرئيس صدام حسين إستنادا الى صور الأقمار الصناعية .

 

هذا بعض ما أعلن على الملأ وما نقلناه يومها في تغطياتنا حول ما يجري الإعداد له . وإذا كانت عملية جمل الليل قد تغيّر اسمها لاحقا الى عاصفة الصحراء ، فإن أساس الخطة العسكرية ذاتها وحتى السلاح الذي استُعمل فيها لم يختلفا عن المعلن سلفا .

 

كان هذا بالنسبة للعراق وقد تكررت صورته على امتداد  العشرين عاما. وللأمانه ، كانت تهديدات الإدارات الأميركية المتعاقبة "صادقة" ، كما كان تنفيذها جدّيا و"صادقا" حتى وقوع الإحتلال وما جرّه من مآسي بعد ذلك !

 

نعم للملالي .. لا للمشروع النووي !

 أما بالنسبة لإيران ، فرغم كل الإغراءات التي قدمها الرئيس باراك أوباما لتجاوز إشكال الملف النووي ، فإن البعض يعتقد أن الضربة الآتية في طريقها الى إيران حتمية ، إذا لم تستجب للدعوات والإغراءات التي اعتُبرت انقلابا في الموقف الأميركي تجاهها . لكن أحدا لا يجزم بتوقيتها ولا بأي طريقة ستُنفّذ ، سواء على أيدي الأميركيين أم الإسرائيليين .

 

في مقابل ذلك ثمة من يرى العكس تماما ، ويؤكد استحالة الضربة لأسباب استراتيجية وتكتيكية متشعبة تنطلق من قناعة أن إيران بكل تركيبتها الحالية وما يترتب على دورها الإقليمي لا اعتراض لأميركا وإسرائيل عليه . الإعتراض الأساسي ينصب مرحليا على نوعية مشروعها النووي وما يمكن أن يمثّله من خطر مستقبلي غامض وغير مضمون . وعليه  فإن المتوقع السلبي في هذا المجال لا يتعدّى توجيه ضربة تأديبية تستهدف عرقلة هذا المشروع ولو لفترة زمنية لا تقل عن أربع أو خمس سنوات ،  بهدف خلق واقع جديد يمكن أن يُفضي الى سلّة تفاهم على سائر الجبهات . لاسيما أن تهمة دعم الإرهاب ليست شاملة ولا دائمة  ، وقد سقطت عمليا في المباحثات الأخيرة  بين إدارتي أوباما والملالي حول تسهيل مرور الأميركان عبر الأراضي والأجواء الإيرانية  لتصفية الحسابات مع تنظيم القاعدة وحركة طالبان !

 

ولهذا السبب يبدو أن أوباما ما يزال يراهن على الصبر وتقسيم العزف بين نغمة التحذير وإعطاء جو الغزل مساحة أوسع ، لعل ذلك يُجدي نفعا أكثر من أسلوب التهديد المستمر الذي اتبعه سلفه  بلا نتيجة ، خصوصا أن مثل هذه الضربة إن تمّت ولو بحدّها الأدنى ستعيد لأذهان الجميع مآسي عهد بوش وعقليته العدوانية ، وتؤكد على استمرار طبيعة التحالف الأميركي ـ  الصهيوني ، في الوقت الذي تحاول فيه الإدارة الجديدة إزالة الإنطباع السائد حول استهداف العالم الإسلامي . ويُشير بعض أركان هذه الإدارة الى أن هذه المراهنة  بدأت تعطي نتائج ولو محدودة حتى الآن ، وضربوا مثلا على ذلك بتصريح نجاد الأخير الى شبكة "سي إن إن " الأميركية ، الذي تحوّل فيه من الدعوة لإزالة إسرائيل من الوجود الى القول أن بلاده لن تعارض اعتراف الفلسطينيين بها في إطار حل الدولتين ، ثم عدم تطرقه في خطاب سابق له بمناسبة يوم الجيش الى " الشيطان الأكبر" والإستكبار الغربي .

 

لكن رياح الأميركان لا تجري دوما وبالضرورة كما تشتهي سفن إسرائيل . فعلى الرغم من تأكيد صحيفة التايمز البريطانية في 18 نيسان / ابريل أن الدولة العبرية أعدّت عدتها لشن هجوم جوي واسع على المنشآت النووية الإيرانية خلال أيام أو ساعات ، وأنها بانتظار الضوء الأخضر من نتانياهو ، ثم كشفها تفاصيل هذا الهجوم وكمّ من المفاعلات والمواقع سيستهدف ، خاصة بالذكر مفاعل ناتانز وموقع أصفها ن ومنطقة آراك حيث المفاعلات التي تعمل بالماء الثقيل لإنتاج البلوتونيوم  ... الخ ، إلا أن الحقيقة تختلف من حيث الواقع وأسلوب التنفيذ . 

 

فحسب قول شبكة نيو فورين بوليس "يخطىء من يظن أن إسرائيل ستوجه قريبا ضربة جوية للمنشآت الإيرانية . ولا يعود ذلك الى ضعف إمكاناتها العسكرية أو صعوبة تنفيذها ، بل إلى كيفية القيام بها بينما الأميركان متواجدون على أرض العراق" . وهذا يعني في رأيها ورأي غيرها احتمال تحويلهم الى رهائن ، فضلا عن وجودهم تحت نيران الجحيم الإيراني والمليشيات التابعة لنظام الملالي ، إن لم يجر سحبهم أو إعادة إنتشارهم بشكل يضمن سلامتهم الى حد ما . وللحؤول دون تحقيق ذلك عادت موجة التفجيرات النوعية أخيرا ، لكي تُبقي الأميركان حيث هم شركاء في الإحتلال وعرضة للضرب إذا ما ضُربت إيران.  

 

هذا من حيث الواقع . أما من حيث أسلوب التنفيذ ، فالمعلومات الأكثر دقة تقول أن هذه الضربة إن حصلت على الضوء الأخضر الأميركي وبعض مشايخ منطقة الجوار ـ وليس من نتانياهو الذي توعّد باسمه باراك كلاما يعيد إيران آلاف السنين الى الوراء ـ  ستأتي عن طريق الخليج كما كان مرسوما في مطلع العام 1995، وليس عن طريق العراق والأردن كما أشار البعض  ، لكنها لن تكون هذه المرة ضربة جوية في الأساس لأسباب عديدة لا تقتصر على صعوبة إحصاء عدد المفاعلات التي يقتضي استهدافها وأماكنها الحقيقية ، فضلا عن  تواجد بعضها في أماكن مأهولة بالسكان  .

 

في ظل هذا الوضع الشائك أصبح الخيار الوحيد المرجّح تأجيل المهمة  مرة أخرى ، بانتظار أن يتحقق إنسحاب القوات الأميركية من العراق ـ هذا إذا انسحبت  ! ـ أو يجري حل الإشكال وهوالأرجح ، طالما أن المستهدف هو البرنامج النووي الخطر وليس النظام ولا تركيبته وملاليه . أي باختصار : كواحد يريد أن أن " يُشلّح " الآخر سلاحه  لكي يتعامل معه بعد ذلك وهو... آمن !

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

السبت / ٢٠ جمادي الاولى١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٦ / أيــــــار / ٢٠٠٩ م