وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

 

 

شبكة المنصور

الدكتور هشام رزوق
إنها الحقيقة التي عبر عنها الشاعر العربي منذ مئات السنين، حقيقة فيزيائية لا تخفى على أحد.

 

في ثمانينات القرن الماضي كان نجم العراق بقيادة حزب البعث قد بدأ بالإشعاع قويا من خلال بناء دولة قوية وحديثة، قائمة على معايير وأسس تعتمد على العلم والثقافة والتكنولوجيا وبناء الإنسان الكفء القادر على استيعاب معطيات العصر الحديث.


لقد حقق العراق أثناءها، وخلال سنوات قليلة قفزة نوعية على جميع الأصعدة، فلقد تم تعزيز البنية التحتية بشكل لم يسبق له مثيل، فبنيت المدارس والجامعات والمستشفيات والمستوصفات، شقت الطرق السيارة في جميع الاتجاهات،تم إيصال الماء والكهرباء إلى المناطق النائية، تم إصلاح الأراضي وشقت الترع والقنوات، تم القضاء بشكل شبه كلي على الأمية ، حدثت ثورة علمية وتكنولوجية غير مسبوقة وضعت العراق في مصاف الدول المتقدمة.


استثمر عراق البعث إمكانيات ضخمة لبناء الإنسان الجديد الذي يمتلك ناصية العلم والمعرفة، الإنسان الباحث في علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفضاء ، حيث أصبح للعراق جيش هائل من العلماء والأطباء والمهندسين والفنيين والمتخصصين في جميع الميادين، والقائمة طويلة.


كما استثمر عراق البعث إمكانيات غير محدودة، بشرية ومادية، لبناء جيش قوي مدرب ومسلح بأحدث أنواع الأسلحة ، بنى صناعة عسكرية متطورة بقدرات ذاتية، عراقية وعربية.


لم يكن العراق ليحقق كل تلك الإنجازات الهائلة لولا وجود مشروع حضاري، مشروع قومي يؤمن به البعث ويشكل مبرر وجوده، مشروع بناء دولة تشكل نواة صلبة للمشروع الوحدوي الكبير، وحدة الأمة العربية.


في تلك السنوات، كان كل وطني عربي يشعر بالفخر والاعتزاز بوجود العراق القوي جيشا وشعبا، العراق الذي اخترق حدود التخلف وخرج منها إلى عالم التكنولوجيا والصناعة المتقدمة مدنيا وعسكريا.


بدا الأمل يراود الكثيرين ممن أعجزهم اليأس أمام قوة إسرائيل وجيش إسرائيل "الذي لا يقهر" بأن هناك توازنا عسكريا مع الكيان الصهيوني بدأ يتشكل بوجود العراق، وبدأ الحلم يداعب أذهان وعقول الجماهير العربية بأن المشروع القومي التحرري الذي يخرج الوطن العربي من دائرة التخلف والتبعية ممكن بوجود قيادة وطنية ملتزمة بقضايا الأمة، شريفة ونزيهة .


لقد تآمرت كل قوى الشر وأولها الصهيونية العالمية ومن ورائها الولايات المتحدة ودول غربية وعربية وإسلامية لإسقاط هذا المشروع الطموح ، وكان لتلك القوى ما أرادت حيث تمكنت من إسقاط النظام الوطني والقومي بدخول الدبابات الأمريكية بغداد ومعها جحافل من المتآمرين الخونة، ليبدأوا حرب تصفية لكل إنجازات البعث التي حققها على جميع الأصعدة التي ذكرناها آنفا، كما بدأوا حرب إبادة لكل مناضلي البعث ولكل العلماء والمهندسين والباحثين والمثقفين وأساتذة الجامعة والأطباء وغيرهم، ونهبوا المتحف العراقي الذي يمثل ذاكرة بلاد الرافدين التاريخية.


عبثوا في البلد فسادا ونهبا، أشعلوا حربا طائفية، شردوا ملايين المواطنين، وقتلوا مئات الآلاف من أبناء الشعب، واعتقدوا بذلك أنهم قد قضوا نهائيا على البعث ومناضليه، وعلى روح المقاومة، وعلى حاضنتها الشعبية.


سلموا البلاد لقمة سائغة لإيران الحاقدة على العروبة وعلى البعث وقيادة البعث المناضلة، إيران التي تتقاسم المصالح مع الولايات المتحدة، ولها نفس الأغراض التي للمحتل الأمريكي والصهيوني في العراق، اغتالوا الشهيد المناضل صدام حسين في يوم عيد الأضحى إيغالا في حقدهم الدفين على رمز نهضة العراق الحديث والذي كان الدرع الذي حمى حدود الوطن العربي الشرقية من تآمرهم وأطماعهم ودفع لهذه المهمة مئات الآلاف من الشهداء من خيرة أبناء العراق.
في تلك الأثناء برزت إيران وتركيا كقوتين إقليميتين كبيرتين يحسب لهما حساب، الأولى لأنها فرضت وجودها كلاعب أساسي وصاحب النفوذ الأول في العراق بعد إسقاط النظام الوطني، ومن خلال تطوير برنامجها النووي واستغلالها لورطة القوات الأمريكية أمام المقاومة العراقية الباسلة، والثانية من خلال اتخاذها مواقف مؤيدة للقضية الفلسطينية وبروزها كقوة اقتصادية وعسكرية وصناعية مهمة، ومن خلال الغياب المخجل والمذل للنظام العربي الرسمي.


إنه ومنذ سقوط نظام البعث في العراق، يعيش النظام الرسمي العربي أتعس أيامه وأكثرها حلكة وظلاما وتعيش الجماهير العربية فترة فقدان التوازن أمام الكم الهائل من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأمام مسلسل الانحدار نحو الهاوية الذي تقودها إليه تلك الأنظمة المتواطئة مع المخططات الأمريكية والصهيونية في المنطقة العربية، فقدت بوصلتها وفقدت القدرة على فهم ذلك الاستعداد اللامحدود على قبول الذل والهوان من قبل أنظمتها التي تحكمها.


إن الجماهير العربية وفي تلك الظروف تفتقد الشهيد صدام حسين، تفتقد العراق القوي وتتساءل : لو بقي العراق كما كان، هل يمكن أن يكون وضع الأمة العربية على ما هو عليه من ذل وهوان؟ إني أعتقد جازما بأن الجواب هو: لا.
قد يقول قائل بأن صدام حسين هو الذي أضاع العراق والثورة بقراراته الفردية، هو الذي خاض حربا غير مبررة مع إيران، هو الذي " غزا" الكويت، هو الذي ارتكب الأخطاء السياسية الكبرى التي أدت إلى الغزو الأمريكي، وصدام حسين ديكتاتور حكم بالحديد والنار إلخ من الأقاويل.


يجب أن يكون الفرد ساذجا إلى ابعد الحدود حتى يأخذ بتلك الأعذار للغزو، فقد أثبتت الأحداث أن إيران كانت دائما طامعة بالعراق تريد فرض سيطرتها عليه من خلال تمزيقه طائفيا وعرقيا، لتمد منه نفوذها إلى كل دول الخليج والوطن العربي وتفرض هيمنتها لتستعيد بذلك أمجادها الغابرة.


كما أثبتت الأحداث أن حكام الكويت قد لعبوا لعبة قذرة مع الولايات المتحدة دفعت العراق لاتخاذ قراره بدخول الكويت، استفزوا العراق بسرقة نفطه والضغط عليه اقتصاديا وماليا وسياسيا بعد خروجه منهكا من حربه مع إيران. كان العراق بهذا القرار يدافع عن وجوده وكرامته ومصادر ثروته.


أما اتهام صدام بأنه حاكم ديكتاتوري، فأعتقد بأنه، وعلى هذا الصعيد، لا يمكن لأي حاكم عربي أن يزاود على صدام، فمن هو الحاكم العربي "الديمقراطي" يا ترى ؟ لو كانت الولايات المتحدة صادقة بتحركها عسكريا لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، فكم من نظام سيبقى واقفا على قدميه في وطننا العربي؟ إنها حجة واهية لا تنطلي على أحد.


لقد كان الهدف هو إسقاط البعث ومشروعه، إسقاط الحلم والأمل العربيين بخلق توازن عسكري مع الكيان الصهيوني، مع ما يمثله ذلك من إمكانيات حقيقية لهزيمة ذلك الكيان، إسقاط الأمل بالخروج من دائرة التخلف، دائرة التبعية والخضوع.


إننا نفتقد القائد صدام، نفتقد العراق الشامخ، ولكن عزاءنا أن المقاومة العراقية البطلة بقيادة المجاهدين والمناضلين من مختلف القوى والاتجاهات الوطنية والإسلامية والقومية، مرغت أنف الغزاة وهي تجبرهم الآن على الانسحاب في أقرب وقت، انسحاب لا يعني سوى الهزيمة المنكرة لهم ولمشروعهم وللخونة الذين دخلوا على ظهر دباباتهم، كما هي هزيمة للمشروع الإيراني أيضا .


أن المقاومة ستنتصر وستبني العراق الحر الديمقراطي الذي يتسع لجميع أبنائه وطوائفه وأقلياته، وسيعود أقوى مما كان بهمة أبطال المقاومة على كل الجبهات والأصعدة.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء / ١٨ ربيع الثاني١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٤ / نـيســان / ٢٠٠٩ م