دع الإرهاب جانبا ، التفسخ هو المشكلة

 
 

شبكة المنصور

علي الصراف
الافتراض السائد، بين العامة والخاصة، يقول أن الإرهاب (بما يعنيه من تطرف، وأعمال عنف، ومخاوف) هو الخطر الذي يهدد الاستقرار في العالم العربي، بل وفي العالم برمته.
ولكن ليس من الصعب، حسابيا على الأقل، ملاحظة أن هذا الافتراض خاطئ جملة وتفصيلا.
السبب الذي دفع هذا الافتراض الى الواجهة هو أن الولايات المتحدة اعتبرت مكافحة الإرهاب مهمتها الأولى في العالم بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001، وسخرت من اجلها كل آلتها الإعلامية.


وكلنا يعرف اليوم أن الولايات المتحدة فعلت ذلك لأنها كانت تريد أن تنفّذ، من خلال مكافحة الإرهاب، أجندات أخرى. إحداها، تحويل الهيمنة عبر خط الهاتف الى هيمنة مباشرة. وثانيها، نقل وظيفة التدخلات من وزارة الخارجية الى البنتاغون. وثالثها، إجبار كل العالم على المشاركة في دفع تكاليف الحرب. وهو ما صار بيّنا في عواقب الأزمة المالية التي يعانيها كل الذين مولوا شراء الديون الأميركية.


لا أحد يجب أن يلوم الولايات المتحدة على جعل الإرهاب قضيتها الأولى. فطالما أنها تستفيد من الإرهاب لنشر ثقافتها وجنودها، فشأن من شؤونها أن تفعل من خلاله ما تشاء.
أما أن نمشي وراءها مغمضي الأعين، فهذا موضوع آخر.
الولايات المتحدة، على أي حال، خسرت الحرب على الإرهاب. وها هي تدفع الثمن. وهي تجر وراءها كل العالم أيضا ليدفع الثمن معها أيضا.
وبالتالي، فان المشي وراء المهزوم، وصفة إضافية للهزيمة.


ما لا يلاحظه العامة والخاصة، على أي حال، هو أن الإرهاب لم يشكل عندنا تهديدا يبرر كل هذا الانشغال به.
رغم كل حملات التخويف، فالحقيقة هي أن الإرهاب لم يكلفنا إلا القليل جدا من الخسائر والتضحيات. من المغرب حتى البحرين، وعلى امتداد السنوات الثمانية الماضية لم تقع إلا حوادث متفرقة بالكاد تصل الى عشرين حادثا. ويستطيع المرء أن يزعم إن ضحايا حوادث السيارات كانوا أكبر بكثير جدا.


فحسب تقارير مجلس وزراء الداخلية العرب فان حوادث السير تقف وراء مقتل 26 ألف شخص سنويا في العالم العربي. وتقدر كلفة الخسائر المادية الناجمة عنها بنحو 65 مليار دولار. وهذا معدل خسائر بشرية ومادية لا يمكن للإرهاب أن يحلم به.


وللمرء أن يتصور ماذا كان يمكن أن يعني توظيف 65 مليار دولار في مشاريع بناء مدارس ومستشفيات وطرق واتصالات وخدمات.
نسبة كبيرة من الفقر ستكون قد زالت أيضا.
وهذا يعني اننا لو انشغلنا بالحد من حوادث السير، لكنا قدمنا لأنفسنا خدمة اكبر بمئات المرات من انشغالنا بمكافحة الإرهاب.


الغالبية العظمى من الدول العربية ظلت، على أي حال، خالية من الإرهاب جملة وتفصيلا. وهناك دول لم يوافها "الحظ" سوى مرة واحدة. وعلى وجه الإجمال، فان الموقف الشعبي المناهض للإرهاب، كان عاملا حيويا للغاية في نجاح الإجراءات الأمنية التي حالت دون تكرار تلك الحوادث.


صحيح أن الأجهزة العربية صارت تتمتع بسلطات جديدة وهي لا ترغب بالتخلي عنها، إلا انه من الصحيح أيضا أن هذه الأجهزة لم تعثر (في أعمال التنصت على الأقل) إلا على شعب طيب، معظمه "يمشي الحيط الحيط، ويقول يا رب الستر".
وهذا يعني أن أعمال مكافحة الإرهاب لم تجد الكثير لتعمله أصلا. وفي القليل الذي تمكنت منه، فقد سجلت نجاحا ملحوظا. ونحن "نشكرها" عليه، رغم علمنا إن هذا النجاح انطوى، وما يزال ينطوي، على الكثير من الانتهاكات والتعديات على الحقوق والحريات العامة.


ولكن ما لا يلاحظه العامة والخاصة، هو أن هناك خطرا آخر أكثر كلفة من الإرهاب هو ما يتجاهله الجميع.
أعمال القرصنة، والهجرة غير الشرعية، وارتفاع معدلات الجريمة، وتفشي التوترات الطائفية، وزيادة معدلات الأمية، وارتفاع البطالة بين الشباب، والتراجع المتواصل لمكانة الفن والأدب والثقافة (رغم كثرة المهرجانات)، وتداعي الجدران الحقوقية القليلة التي كانت تحمي المرأة، والبروز المخيف لتجارة البشر والمخدرات والدعارة، واتساع ظاهرة عمالة الأطفال، كلها تدلُ على حالٍ من التفسخ الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي غير مسبوقة بالمرة. وهي أخطر من الإرهاب، وعواقبها أكثر تدميرا.


هذا التفسخ يقدم بالأحرى مؤشرات ليس على انهيار أنظمة القيم في بلداننا العربية، ولكنه يؤشر على تفكك، بل تفسخ، نسيج العلاقات الاجتماعية أيضا، ومعه كل فرص البناء من اجل المستقبل.


يجدر التساؤل: كيف يمكن لأمة ترتفع فيها مستويات التفسخ الى هذا الحد أن تبني أي شيء أصلا.
أي مستقبل هذا الذي يقوم على ما ننتجه اليوم من البطالة والأمية والفقر وانهيار أنظمة الحقوق والمعايير والقيم؟
حسب المرء أن يفترض أنه لو كانت حكوماتنا أنفقت من الجهد والمال لمكافحة هذا التفسخ بمقدار ما أنفقت على مكافحة الإرهاب، لكُنّا في وضع أفضل بكثير، ولكان خطر الإرهاب قد تبدد.
ولكن، أما وأننا بقينا نركض وراء الولايات المتحدة مغمضي الأعين، فقد انتهينا بتفسخ مدمر، وفوق ذلك فانه يمهد أرضية أعرض لحياة إرهابية أطول.

 
 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الاثنين / ٠١ جمادي الاولى١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٧ / نـيســان / ٢٠٠٩ م