المصالحة في العراق ... مع منْ ؟

 

 

شبكة المنصور

محمد عارف

"المصالحة مع من؟" أسهل على العراقيين من "المصالحة على ماذا؟"، وأصعب من كليهما "المصالحة مع النفس". في مواقف معقدة كهذه تنفع النكتة العراقية. ونكتة اليوم عن جندي طلب من أمه أن توقظه عند الفجر، فأيقظته، وارتدى ملابسه مسرعاً، وانطلق خارجاً، وفي الطريق انتبه أنه ارتدى بذلة أخيه الشرطي، فزعق: "هاي الوالدة شلون مشكلة! صحّت أخويه بدل ما تصّحيني"!


وهذا أول ما يواجه العراقي في المصالحة، وهو أنه ليس هو بل هو شخص آخر. ولو كان هو نفسه فإنه سيكون في عداد ملايين العراقيين الذين لا سبيل لمصالحتهم. بين هؤلاء مائة ألف معتقل احتجزتهم القوات الأميركية، ربعهم تقريباً في سجن معسكر "بوكا" جنوب البصرة، والذي يعتبر رمزاً عالمياً للعدوان وانتهاك حقوق الإنسان. وقوة الرمز في نزلائه الذين أطلق لحد الآن سراح أكثر من نصفهم، من دون معرفة لماذا اعتقلوا، أو توجيه تهم لهم، وينضم الآن كثير منهم إلى صفوف المقاومة، أو من يسمون بالجماعات المسلحة.


واعتبرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية حدوث ذلك مفارقة في بداية انتهاء الاحتلال، والشروع بإلغاء معتقل "بوكا". ودهش مراسلو الصحيفة الذين تابعوا بعض المعتقلين المطلق سراحهم وعزمهم على الانتقام. "ليس السؤال بالنسبة لهم ما إذا كانوا يريدون الانتقام، بل الانتقام المدروس". واستغرب المراسلون انضمام من لا علاقة لهم سابقاً إلى من يسمونهم المليشيات الشيعية، والمسلحين السنة في البصرة، وبغداد، الذين لا حد لامتدادهم على نهر الفرات، حسب شهادة مسؤولي الشرطة والمخابرات في وزارة الداخلية العراقية.


وحجم التمرد من حجم الظلم. تدل على ذلك نسبة السجناء السابقين العائدين إلى القتال والتي تراوح ما بين 60 في المئة حسب تقديرات مسؤول المخابرات في وزارة الداخلية العراقية، و90 في المئة حسب تقدير مدير مركز الشرطة في منطقة "القرمة". وشهادته مدعمة بتجربته الشخصية المفجعة، فهو صاحب الرقم القياسي في حوادث التعرض للاغتيال، إذ بلغ عددها 26 حادثاً، واغتيل عدد من أفراد عائلته، بينهم شقيقه الذي مزقته مفخخة، ويعرض صورة فوتوغرافية لبقايا شقيقه، ويقول: "لم نستطع جمع كيلوغرام واحد من جسمه"، وصورة أخرى لرأس الانتحاري المقطوعة، وعينيه المفتوحتين.


ومعروف تاريخياً أن السجون والمعتقلات مدارس لتعليم العنف والتمرد والثورة، وليس هناك مدرسة للعنف والثورة أكبر من بلد محتل ظلماً وعدواناً. هل يصالح العراقيون خريجو هذه المدرسة المسؤولين عن ضياع خمسين مليار دولار مخصصة لإعمار بلدهم "ذهبت بالكامل هدراً، واحتيالا، ومن دون حساب"؟ كشف ذلك أخيراً "ستيوارت باوين" الذي عيّنه الكونغرس الأميركي للإشراف على حسابات مشاريع إعمار العراق، وذكر أنه بعد خمس سنوات من التحقيقات، وإجراء ربع مليون صفحة حسابات، كان يوّد الإعلان أن المبلغ أنفق بشكل صحيح، و"هذا بالضبط ما لم يحدث". وأوضح باوين أن "المبلغ الذي خصص لأكبر برنامج لإغاثة وإعمار بلد واحد في تاريخ الولايات المتحدة، قضت عليه توليفة مخصصة بشكل مكشوف للتهاون وانعدام التخطيط والإشراف الحكوميين". وأهدرت "إدارة سلطة التحالف المؤقتة" التي قامت بهندسة النظام القائم بعد الاحتلال 19 مليار دولار من هذا المال الضائع.


كيف يصالح العراقيون المسؤولين عن حرمانهم ست سنوات من خدمات الكهرباء، بسبب هدر المبلغ المخصص لذلك، وقدره مليار وخمسمائة مليون دولار؟ كان المفترض أن يعاد المتبقي من هذه المبالغ إلى الحكومة العراقية نهاية عام 2006، إلاّ أن "سلاح الهندسة في الجيش الأميركي" احتفظ بجزء من هذه الأموال، وحوّل الباقي إلى ثلاث شركات مقاولات أميركية رئيسية. وظهر من التحقيقات أن "سلاح الهندسة" كان "يوجه المقاولين لتقديم قوائم مزورة، عن أعمال لم تتم في الواقع، وذلك للإبقاء على ملايين الدولارات من هذه المبالغ في حوزته".


المصالحة في العراق تبدأ بالجرأة على النظر بعين القلب إلى ملايين العراقيين الذين جعلهم الاحتلال يتامى وأرامل ومشردين ومعوقين ومعتقلين ومهجرين. عدد ضحايا أعمال القتل في العام الماضي 2008 الذي انخفضت معدلاته، كما يقال، بلغ 6276 قتيلا، وضحايا التفجيرات 14433، وعدد القتلى مجهولي الهوية 1981، وضحايا الاغتيالات 267، والاختطاف 273 مختطفا.


المصالحة في العراق تبدأ بالاستماع إلى شهادة مليون أرملة بسبب حوادث العنف في العراق لا يحصل سوى 10في المئة منهن على معونات شهرية من الدولة التي لم تعوض ثلاثة أرباع النساء اللواتي فقدن أزواجهن بسبب حوادث الإرهاب، حسب تقرير "نساء في الحرب" الذي أصدرته "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" بمناسبة يوم المرأة هذا الشهر.


المصالحة تبدأ بالإصغاء لنبض قلوب نساء العراق، وقد عرض تقرير المنظمة الدولية نماذج من صورهن وقصصهن المروعة. عراقيات بهيات حييات، من بغداد وواسط والنجف وأربيل ودهوك والبصرة، أرامل في عمر الزهور، يكدحن وحيدات لتأمين لقمة العيش لأطفالهن اليتامى، وزوجات وبنات وأمهات سجناء ومفقودين، وفتيات ضحايا حوادث اغتصاب، اختفين تجنباً للعار الذي يلحق بالأسرة، والآلاف من أمهات السجناء. منظمة "الصليب الأحمر" قدمت 69 ألف معونة لزيارة النساء ذويهن المعتقلين في سجن "بوكا".


وهل نقدر ولو بالخيال أن نسأل المصالحة مع الطبيبة منى المتخصصة بأمراض النساء، وأسرتها المعروفة في البصرة بنبوغها في مجال الطب؟ اغتيل زوجها الطبيب الجراح أمام كلية الطب، حيث يعمل، وبعد شهر من ذلك قُتلت شقيقتها الجراحة أيضاً. والله وحده يعلم كيف تدبرت الدكتورة منى نقل أطفالها إلى سوريا، وكيف أمنت لهم رغم ضيق حالها فرصة لمواصلة دراستهم هناك، وعادت إلى البصرة لإحضار وثائقهم الدراسية، فاغتيلت أمام منزلها!


وهل يملك النظام القائم القدرة على مصالحة مليون معوّق، حسب إحصاءات الأمم المتحدة، وتتوقع وزارة حقوق الإنسان العراقية أن يتجاوز عددهم المليونين، وهم المعوقون بدنياً فقط؟ وكيف يضع مواثيق المصالحة نظام عاجز عن تشريع قانون لرعاية المعوقين، أو تعيين طبيب أخصائي واحد في المفاصل في مركز رعاية المعوقين في بغداد، والذي يقصده أربعة آلاف معوق؟


المصالحة لا تتم بتبادل العهود وصكوك الغفران داخل المنطقة الخضراء، بل بالتوجه مباشرة إلى ملايين المهجرين والمشردين وضحايا الحرب والغزو داخل وخارج البلد، ومخاطبتهم من دون حدود، ومشاركتهم في وضع وتنفيذ حلول ومشاريع المصالحة. والمصالحة يشارك في صنعها ملايين الناس داخل العراق والمنطقة العربية والعالم، الذين حذروا من الغزو والاحتلال، وتوقعوا الكوارث التي يجلبها، وتحطمت قلوبهم عندما شاهدوا صدق توقعاتهم. والمصالحة يبدعها آلاف الغائبين في الداخل والخارج من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال والكتاب والفنانين، الذين يمثلون الطبقة المتنورة التي يضيع البلد عندما تضيع.


ومصالحة الطبقة المتنورة تلد فرصاً تاريخية ذهبية لحفز العقل الجماعي المبدع للعراقيين، العباقرة عبر التاريخ في إيجاد أسباب بقاء وازدهار بلدهم الطيب. ومصالحات كهذه تبدأ بالمصالحة مع النفس، وليس بالتلويح بتهديدات ووعود لا يملك الوضع الحالي سوى الأقل منها مقارنة مع أي وضع في عهود الاستقلال.

 
كيفية طباعة المقال
 
 

شبكة المنصور

الجمعة / ٣٠ ربيع الاول ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٧ / أذار / ٢٠٠٩ م