حروب عادية .. وأخرى غير عادية !..

 

 

شبكة المنصور

كامل المحمود

صناعة التعقيد .. مهنة أسرى الحقد والإنتقام

 

قال الرئيس الأمريكي  أوباما في خطابه يوم 27 شباط 2009 الذي أعلن فيه خطة الإنسحاب من العراق مايلي:

(This war has been one of the most extraordinary chapters of service in the history of our nation).

 

ويعني : (إن الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق كانت من أكثر فصول الخدمة غير العادية في تأريخ الأمة الأمريكية !)..

 

والأمة الأمريكية بكفاءاتها وعلمائها ومستشاريها وإستراتيجييها ومفكريها العسكرين والمدنيين يعرفون جيدا معنى أن تخوض الأمة صراعا عاديا واضحا ومحددا وبين أن تنزلق الى صراع غير عادي فيه من الغموض والتعقيد وعدم الوضوح ما يصبح علامة غير إعتيادية في تأريخ هذه الأمة التي عاشت كل حياتها تتغنى بأمجادها  وقوتها وتدعي حمايتها للقيم الإنسانية والدفاع عن الحق..

 

وبشكل عام ..الذي يجعل الولايات المتحدة (كقوة عظمى منفردة في العالم ) تخوض صراعا غير محدد المعالم وغير تقليدي وغير إعتيادي لا بد:

 

-         إما أن يكون هذا الصراع ذو نمط غريب ومعقد بسبب  وجود عدو (غير تقليدي) ويشكل بإمكاناته (الخارقة!) و(مجهولية القدرة والتأثير) و(فائقيته التدميرية!)  تهديدا مصيريا للعالم وللأمن القومي الأمريكي والتعرض له ومهاجمته لا يحتمل التأجيل والمناقشة في إختيار الوسائل البديلة للقضاء عليه او تحجيمه ومنعه من النيل من (هذه الأمة ومن العالم!) ..

 

-         أو يكون صراع مُختلَق يرسم صورة (كاذبة ومخادعة) لعدو يحمل هذه (الإمكانات العدائية العملية المبالغ فيها) والذي يهيء ويعبيء الأمة الأمريكية والعالم وبفعل إعلامي تفصيلي  مخادع لدخول هذا الصراع الغير تقليدي!

 

ولقد أجهدت الإدارة الأمريكية نفسها وإعلامها وثرواتها لحشد العالم لغزو العراق بعد ان صورت ما سيحدث  بأنه سيكون صراع مع قوة معتدية ستهجم عليها مستخدمة مركبات فضائية جاءت من كوكب المريخ!..وسيكون القضاء عليها إنقاذا لكوكب الأرض ! بكل قومياته وشعوبه ..تماما كما تتحدث أفلام هوليوود ..وإعتمدت في شن هذه الحرب على مبررات كاذبة وغير صحيحة من خلال ثلاث مصادر :

 

-         المصدر الأول ..كان من دوائر المخابرات الأمريكية والأمن القومي ومكتب نائب الرئيس ومستشاري بوش ..وهذه المعلومات ركزت بشكل مباشر على إمتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وصلاته بتنظيم القاعدة وعلاقته باحداث 11 سبتمبر  ..وهذه الدوائر هي التي توحّد المعلومات وتحللها وتقرر مدى جديتها وتقوم برفع التوصيات الى الرئيس مع الأخذ بنظر الإعتبار ( رغبة الرئيس ونائبه!)..

 

-         المصدر الثاني.. وهو أحد المصادر الأساسية الذي زوّد الدوائر أعلاه بالمعلومات المضللة والكاذبة وهي القوى والشخصيات العراقية التي كانت تدعي المعارضة وكان من مصلحتها (إسقاط النظام العراقي) مهما كان الثمن وبأي وسيلة حتى وإن كان على حساب تدمير العراق ونهبه وبقوة المحتل وبإسقاط هيبة الولايات المتحدة وإحراجها وفقدانها لمصداقيتها وجرها الى مستنقع حرب طويلة ومعقدة و(غير تقليدية!)..والغريب أن معظم هذه القوى المعارضة مرتبطة عقائديا ومخابراتيا وماليا بالنظام الإيراني !..

 

-         المصدر الثالث..وهو المخابرات الإسرائيلية التي كانت تتطابق في النظرة والهدف في (إسقاط النظام العراقي !) وصياغة المبررات لتحقق هذا الهدف مع المصدر الثاني ورغبة بوش ونائبه!..

 

وهكذا غزت الولايات المتحدة العراق ودخلت حربا تم (تضخيم نيّة وهدف العدو فيها ..مع إشاعة قوة وحجم قدرة الوسائل القادرة على تحقيق الهدف )!..

 

وتناست القيادة الأمريكية عن عمد بل أهملت الدوافع الحقيقية لكل من  (المعارضة العراقية) و( الرغبة الإسرائيلية)..وضربت عرض الحائط مصلحة الشعب الأمريكي في خوض هذا الصراع!..

 

وأبحر جيش الولايات المتحدة برجاله ونساءه ومعداته ليحتل العراق بعد أن تم تدميره تنفيذا لأمر بوش (القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية) ليحقق الهدف الذي رسمه لهم وهو :

 

(نزع أسلحة الدمار الشامل التي قد يستخدمها العراق ضد الأمة الأمريكية والعالم من خلال صلاته بالقاعدة!)..

 

ووصل الجيش الأمريكي لكل مكان في العراق بعد أن دمرت قاذفاته وغواصاته وبوارجه ودباباته ومدافعه كل مدن وقرى العراق بحثا عن أسلحة الدمار الشامل ليجد في النهاية ان لا وجود لهذه الأسلحة وليس هنالك أي صلة للنظام العراقي مع القاعدة ..بل إن القاعدة كانت تعتبر النظام العراقي من بين ألد أعدائها!!..

 

ثم يلي ذلك سلسلة الإعترافات الرسمية للمخابرات الأمريكية والخارجية ومستشاري البيت الأبيض ومساعدي بوش بان هذه المعلومات كانت مضللة وكاذبة ومزورة !..

 

وإعترف الجميع بأن قرار الحرب على العراق كان قرارا خاطئا ومكلفا للغاية وإعتمد على معلومات كاذبة!..

وأعقب ذلك سلسلة من الإستقالات الرسمية والتنصل من المسؤولية !..

وكل هذه المعلومات الرسمية موثقة بعد ستة أشهر من بداية الغزو وإستمرت لبداية عام 2004 !..

 

وبدلا من إعتراف القيادة الأمريكية بالخطأ..والسعي الجاد لمعالجة آثار ونتائج هذا القرار الخاطيء .. وتصحيح المسار وتعويض المعتدى عليه وإحقاق الحق ومحاسبة أولائك الذين أدخلوا الولايات المتحدة في هذا النفق المظلم حدث العكس !..

 

حيث إستمرت الإدارة الأمريكية في تبرير غزوها وتدميرها للعراق..

 

وجرى تكريم المسببين لهذه الكارثة والفضيحة ..

 

وتم تسليم العراق الى من غرر بالشعب الأمريكي وضلّل الرأي العام  بمعلومات بعيدة عن الواقع وصوّر دخول القوات الأمريكية كالكرنفال بزعم إستقبال الشعب العراقي لهم بالورود والرياحين ليسود العدل والمساواة والحرية وينتشر الأمن وتنتهي عهود (الملاحقة والإغتيالات والمطاردة والتهميش والإقصاء!) ..

 

وإستمرت القوات الأمريكية بإتباع سياسة الإقصاء والإجتثاث والملاحقة والإعتقال على الشبهة وفقا لإستشارات نفس الجهات التي ورطتها للدخول للعراق..

 

وجرى حل الجيش العراقي الباسل ومؤسسات الدولة التي حَمَت ودافعت عن سيادة وإرادة العراق وشعبه..

 

وأوكلت القوات الأمريكية مهمة تحقيق (الجنة العراقية ) لنفس الجهات التي خدعتها ..هذه الجهات التي بدأت منذ يوم 9 نيسان 2003 بعمليات واسعة للتصفية والإغتيالات ووفق قوائم معدة سلفا طالت خيرة كوادر ونخب العراق وعلمائه وضباطه ومفكريه وخبراته وشخصياته تحت حماية ورعاية وغطاء الجيش الأمريكي وتحت ذريعة كون هؤلاء هم من (بقايا النظام السابق الذي قاتل الجيش الأمريكي في عملية تحريره للعراق كما يدّعون!)..وما أن وصلت هذه القوى الى السلطة حتى جعلت من الوجود الأمريكي كأجهزة وجيش الوسيلة القانونية للبطش والملاحقة والمطاردة والتهجير والقتل والإعتقال..تاركة الإدارة الأمريكية تبحث عن حل لورطتها في تبرير ما حدث وما يحدث!..

 

ومرة أخرى ..

وبدلا من المراجعة الفعلية لما حدث ..

قامت الإدارة الأمريكية بتعديل وتحوير وتغيير أهدافها !..

لتقول إن الهدف من الحملة العسكرية وكل تضحياتها وخسائرها كان لتحرير العراق ونشر الديمقراطية وبناء نموذج (فريد في المنطقة!) ليكون مثالا تحتذي به دول المنطقة ومفتاحا لحل كل مشاكلها !..

 

وفي هذه المرة أيضا أناطت مهمة تحقيق ذلك لنفس الجهات التي ورطتها!..

 

وهيأت لهذه الجهات (غطاء شرعي ) للتخطيط للبقاء للأبد  بإنتخابات مزورة حيث كان  يساق الناخبين تحت تهديد السلاح والتصفية أو بفتاوى مضللة ليتربعوا على قيادة مجلس النواب والحكومة ويحولوا العراق الى (نموذج طائفي وعنصري وسياسي ) تحت حجة بناء الديمقراطية وجنتها على جثث مليوني شهيد وما خلفوه من أرامل وأيتام وأمهات وآباء يوشحهم السواد والبؤس..

 

ثم طلبوا من المكونات التي لم تشارك في العملية السياسية بضرورة المشاركة (لكي يفوتوا الفرصة على المكون الآخر للإستفراد بالسلطة !)  ليعطوا لهذه العملية غطاءا شرعيا من جهة وليخلقوا صراعا طائفيا مدعوما من قبلهم لكلا الطرفين من جهة أخرى !..

 

ثم ساهموا بدعم ورعاية إجراءات الأحزاب المهيمنة على السلطة بالتوجه بعد ذلك لضرب وتهميش وإقصاء (مَن أمّن لهم الشرعية تحت غطاء المشاركة الواسعة المختلفة!)  ليستفردوا بكل السلطة.

 

وأخيرا إنقلبوا بعضهم على بعض !..

 

لقد خلقت الولايات المتحدة صفة غير التقليدية لهذه الحرب ..

وهي التي رسمت حدود لا متناهية من المشاكل الغير إعتيادية داخل المجتمع العراقي بإجراءاتها الطائشة وغير المدروسة..

وهي التي جعلت ما يدور في العراق اليوم غريبا وفريدا ومعقدا وغير إعتيادي !..

وهي التي ستجعل هذه الحرب تطول!..

من خلال تحالفها مع من يحكم العراق اليوم وتنكرها للإعتراف بخطأها ..

وهي التي خلقت ملايين الأعداء من المبعدين واللاجئين والملاحقين والمطاردين والمهجرين في أغرب ديمقراطية في التأريخ حيث يمنع هؤلاء من تبني فكر سياسي معين بذاته !..

وهذا الفكر لا يتحدث إلا عن فكر قومي وشعب عربي حر وديمقراطي يتقاسم ثرواته كل الشعب!..

في حين يسمح لمن يعبد الشيطان ..ويربط نفسه بدول وأفكار وإيديولوجيات بعيدة عن العراق بحرية التعبير والترويج لتقسيم العراق والتنكر لعروبته والسخرية من كل تأريخه!..

 

كيفية طباعة المقال

 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء / ١٤ ربيع الاول ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١١ / أذار / ٢٠٠٩ م