كتاب مطويات الألم ودموع القلم

﴿ الفصل الثالث

 

 

شبكة المنصور

حديد العربي

مقدمة

الفصل الأول: ما ضاعوا وما ضيعوا.

الفصل الثاني: الخيال الصهيوني وواقع العراق.

الفصل الثالث: عقود الصراع.

الفصل الرابع: تطور أساليب العدوان والتحالفات.

الفصل الخامس: أهداف الغزو.

الفصل السادس: همسات على أسوار بغداد.

الفصل السابع: المحتل وأذياله وحكم الله فيهم.

وحتى يأذن الله بنصره.

 

الفصل الثالث

عقود الصراع

 

من المؤكد أن الصهيونية العالمية تؤمن بمبدأ الصراع واستمراره من أجل البقاء، وتؤمن أيضا بأن من أهم عناصر النجاح في هذا الصراع أن تكون في حالة هجوم وتقدم مستمرين، فتوقفها يعني تحجيمها ونهايتها، ولهذا كانت ولا زالت وستبقى إلى ما شاء الله تعالى تسعى لخلق حالة مواجهة في كل عقد من الزمن مع العرب، بعد أن حققت هدفها المركزي بإيجاد كيان صهيوني على أرض العرب في فلسطين، فكانت مواجهتها الأولى المنظمة بعد أن حصلت على تأييد رسمي واعتراف غربي بكيانها، في 15/5/1948م، حيث تمكنت من ذبح الشعب الفلسطيني ونفيه عن أرضه ومواجهة الجيوش العربية كنتيجة لذلك، والمواجهة الثانية عام 1956 في العدوان الثلاثي على مصر كمحاولة لوئد الثورة المصرية بقيادة المرحوم جمال عبد الناصر اثر تأميم قناة السويس، والثالثة عام 1967 ضماناً للتمدد وتحقيق التوسع في رقعتها الجغرافية والسياسية، والرابعة عام 1973 في حرب التحريك في تشرين على الجبهتين المصرية والسورية، والخامسة عام 1980 في محاولة تدمير قوة العراق أو صرفه عن استخدامها، بعدما سخرت كل مفرزات مشروع بريجنسكي (وسنأتي على تفاصيله لاحقا) لصالح مواجهاتها مع العرب وفي المقدمة منهم العراق، وكذلك عام 1982 في اجتياحها للبنان وضرب المقاومة فيها، والسادسة عام 1991 في عاصفة الصحراء على العراق أيضاً لتدمير قوته العسكرية التي عجزت إيران عن تحقيقه بالنيابة، والسابعة عام 2003 حينما أنضجت كل الظروف اللازمة لتدمير قوة العراق التي تعثرت في تحقيقها بمنازلتين وعلى مدى عقدين من الزمن، والقضاء على قيادته، وتحويله إلى كيانات طائفية هزيلة ومتشرذمة، وبالتالي إبعاده عن قدرة التهديد والفعل المؤثر لزمن طويل، ولم تكن هذه الجولة بالنيابة، بل توحدت الإرادتين الامبريالية والصهيونية على تدمير العراق، وجندتا لها كل الذيول والأذناب بما فيهم أغلب حكام العرب ومعهم مجوس الفرس وغيرهم ممن ارتضى لنفسه أن يكون ذيلاً قذرا وأداة طيعة بيدهما، ولكلٍ له أغراضه وأهدافه، والسياسات الأمريكية باختلاف رموزها وأحزابها تتوحد وتنسجم فيما بينها على أساس أن مفهوم الأمن الأمريكي مرتبط كلياً بالأمن الصهيوني وكيانه المسخ على أرض العرب في فلسطين، فهي أداتها في تمزيق وحدة العرب وثنيهم عن أي محاولة للنهوض والانعتاق من واقعهم المرير، الذي اختطته لهم منذ بداية القرن العشرين، وذلك مرده إلى أن الشعب الأمريكي يعيش حياة سفيهة يتحكم في تفاصيلها الإعلام بكل أشكاله، ومعلوم أن ماكنة الإعلام الأمريكي بأكمله تملكها الصهيونية، وتهيمن عليه بشكل كلي، والتفوق السياسي لا تصنعه إرادة الشعوب الأمريكية، إنما دعايات الإعلام الصهيوني، وقد وجدوا فيما يسمى بالصقور من فريق سياسة بوش الإب والابن معاً أخلص من يمثل هذا الترابط خير تمثيل، وينفذ سياساتهم ومراميهم المشتركة، فهم صهاينة الصليب، ولهذا ما جانب الحق من قال فيهم أنهم صقور الصهيونية، فنسجوا من هذا الترابط نسيجاً، يصعب على الكثير رؤية مسير نسجه ومن أين يبدأ وأين ينتهي، لما تتميز به المخططات الصهيونية العالمية من غموض وخبث شديد، فقد أسهم الفرس والأتراك وأغلب أنظمة الخيانة المتسلطة على رقاب العرب بأساليب وطرق مخادعة في تعزيز هذه المخططات عن طريق تنفيذ العديد من فصول التمهيد لها والمشاركة الفعلية فيها، أما جوهر فكرة الصقور في السياسة الأمريكية فيتلخص بأن الغزو الفكري والحصار الثقافي والتأثير السلمي لا يحقق أهدافه بسرعة وسهولة على الرغم من فاعليته في حرف قيم ومبادئ الشعوب المتطلعة للحرية والخلاص، وسلب إرادتها وجعلها تتخلى تدريجيا عن كفاحها وجهادها كوسيلة للمحافظة على كياناتها واسترجاع حقوقها، إلى شعوب مستسلمة بدعوى السلام، تتمتع بكل أو بعض وسائل الرفاه المادي دون نزوعها إلى ما يجعل ذلك الرفاه حلالاً أو ذا قيمة معنوية، أو يتلائم مع عقيدة ذلك الشعب أو نظامه الاجتماعي، بل يعتقد هؤلاء الصقور بواقعية دموية متوحشة، لا تؤمن بفكرة الإصلاح، إنما تنزع إلى غزو القوى الثورية واستئصالها بالقوة العسكرية البربرية المتوحشة، ومن ثم، وكما يقول ميشيل كلار أحد منظري هذه المجموعة " يجب أن يكون هذا التدخل كثيفًا صاعقًا، وبعبارة أخرى : إن أول ما يجب أن تهتم به الإدارة الأمريكية هو عملية حصر حقيقية للقوى والقيادات القادرة أو الصالحة لأن تكون ثورة رفض على قسط معين من الفاعلية، وعندما تكتشف الإدارة، عليها أن تلجأ إلى جميع الوسائل لاستئصال تلك القوى والقيادات، ويكون الترغيب والتطويع خطوة أولى، وإن لم تفلح، فالقبض والسجن خطوة ثانية، وإلا فالقتل والاستئصال الجسدي " وذلك ما يختلف بالوسائل مع قاعدة أسلافهم من أمثال جيمي كارتر في خلق قناعة لدى المقابل بضرورة التعامل والتعاون مع الإدارة الأمريكية والتي بدونها لا يمكنه الاستمرار، إلى القضاء بكل شدة وعنف على كل مصادر ومفاصل القوة في المجتمع الذي يستهدفه الغزو من دول العالم الثالث المتطلعة للإفلات، وهذا ما ينسجم مع الأهداف الصهيونية كثيرا ويحقق أغراضها، فالإجهاض أجدى كثيراً من انتظار المولود ليتم التعامل معه فيما بعد.

 

وذلك يحقق لهم مكاسب عديدة، من بينها:

1- يولد روح الهزيمة في نفوس الشعب المستهدفة تجربته، ويجعل من قيم الاعتداد بالنفس وقيم البطولة والشجاعة والذود والتضحية في سبيل الأوطان تتراجع إلى حد بعيد في تأثيرها على طبيعة السلوك والفعل والتعامل مع الأحداث، بما تمثله من أسلحة ودوافع ذات قدرة عالية على استنهاض الههم والتصدي للأخطار المحدقة به بإيمان عميق وصادق وبكل جرأة وإصرار، وما تمثله من دوافع للصبر والمطاولة وتحمل المشاق والتضحيات في مقارعة الأعداء، وتجعله يفكر ويتصرف بروح مستسلمة خانعة تؤمن بمعطيات الأمر الواقع، وما يفرضه من مفاهيم انهزامية، وتبحث لها عما يُرضي طموحاتها المادية الحيوانية مجردة من كل القيم والاعتبارات، فالهزيمة المعنوية أخطر أثرا في نفوس المجتمعات من الهزيمة العسكرية، لأنها تخلق بيئة مرضية لا تساعد على تدارك الاخفاقات وعواملها الموضوعية للإنتقال من حالة الهزيمة إلى حالة التحدي والمجابهة.

 

2- الهزيمة بمعناها العسكري، حينما يبدأ أفراد ذلك المجتمع بالإحساس، نتيجة الوحشية والقسوة المفرطة من قبل المحتل، والحرب النفسية المصاحبة لها، بالشعور بعدم القدرة على المواجهة، وبالتالي فلا بد من بديل، على قاعدة "اليد التي لا تستطيع ثنيها فعليك أن تُقبلها".

 

3- فتح باب التقاء المصالح مع ضعاف النفوس والمتصيدين في ذلك المجتمع، وخلق منافذ للحوار وأسس للعلاقات، يتم من خلالها خلق طبقات متنفذة ومؤثرة اجتماعيا عن طريق مدها بقدرات وإمكانات اقتصادية كبيرة، ودعمها بالنفوذ السلطوي والهيمنة على مقدرات الشعب.

 

4- إفشاء الرشوة والاختلاس والغش في كل مفاصل الدولة المشكلة وفق متطلبات الاحتلال، بما يجعلها مترهلة ومتمددة افقيا، لتعميق الشعور لدى الآخرين باستحالة بناء أي أمل في التقدم والرقي، فالكل سراق ومرتشون، ومفاهيم العدالة والمساواة ليست سوى شعارات ترفع للاستهلاك والدعاية، أو هي محض خيال ولا يمكن تطبيقها على أرض الواقع، وعندها تنكفئ القوى الحية في المجتمع بعدما تُحاصر فتفقد امتداد تأثيرها، والأرض التي تُنبت فيها أفكارها.

 

5- دراسة الخصائص السلوكية لتلك المجتمعات، والتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليها، عن قرب، ووضعها في اختبارات متتالية ومختلفة لخلق تصورات كاملة ودقيقة عن طبيعتها وكيفية التعامل معها واستثمارها فيما يحقق أهدافها، وبما يجعلها غير قادرة على الانفلات من ربقتها.

 

6- التخلص عن طريق القتل وغيره من الوسائل من كل الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات قيادية، وروح ريادية، وعقلية مستقيمة لا تهتزّ في أصعب الظروف، ويمكن لها أن تثور شرائح من مجتمعها أو تُوقد له شعلة، وتضعه على طريق المواجهة مع الغرب والصهيونية.

 

7- مسخ القيم والمعتقدات الدينية والاجتماعية والفكرية، من خلال عملية منظمة لتشويهها، بواسطة الشخوص الذين توظفهم لهكذا مهمات، لسلب المجتمع من أهم وسائل دفعه وعناصر توحده، وعن طريق إذكاء الطائفية والشعوبية والتمحور المحلي والفئوي وتقزيم البنى الاجتماعية إلى فتات هش وبليد، وجعل هذه المكونات بحال لا تتقبل معه الحديث عن التوحد والتكامل، وبذلك يفقد ذلك المجتمع أهم عناصر قوته، بعدما تغيب في افق تفكير هذه المجاميع الموبوئة كل القيم الوطنية والقومية، ويفقد حميمية الانتماء وقدرات التواصل والتفاعل مع المكونات الأخرى.

 

وذلك ما تم تدشينه في العدوان الامبريالي الصهيوني على العراق أوائل عام 1991 بالكامل، لكن ثماره لم تكن ناضجة تماماً، بحكم كونها كانت البداية التي أستُفيد من أخطائها فيما بعد في العراق عام 2003 وقبلها في أفغانستان.

 

وانسجاماً مع هذا التطور كان لابد للصهيونية العالمية من وسائل جديدة تستطيع من خلالها المحافظة على أمن كيانها، وضمان عدم هزيمته أو اجتثاثه، مع تغير الظروف وتبدل الأحوال، فانهالت الدراسات والتحليلات والمشاريع من صياصي الصهيونية بالكثير منها، يقول إيجال آلون وشيمون بيريز، في مقترحات بهذا الشأن: "المحور الفكري لهذه الاقتراحات : أن إسرائيل مهما فعلت، وحتى لو نجحت بأقصى فاعلية في تجميع اليهود في دولة إسرائيل، فإن ذلك لن يسمح بإقامة دولة تتجاوز العشرين مليونًا في نهاية القرن(القرن العشرين)، وحتى ذلك التاريخ، فإن أصغر دولة عربية سوف تكون قد تجاوزت هذا العدد أو اقتربت منه، وذلك دون الحديث عن مصر التي سوف تصل إلى ثمانين مليونًا، إزاء ذلك، فإن إسرائيل سوف يتعين عليها أن تظل قلقة محاصرة، فهل يضمن الدفاع المستمر بما يمثل من نفقات من جانب الولايات المتحدة الأمن الإسرائيلي؟ أم أن على إسرائيل أن تخلق إطار دفاعها الذاتي، وهي لذلك يجب أن تعمل جاهدة على أن تحيل المنطقة إلى دويلات صغيرة، أو ِكيانات هشة محدودة الفاعلية، ومن ثم تلهي تلك الدويلات بصراعات حول الحدود، أو بخلافات عشائرية خلال خمسين عامًا على الأقل؟ مثل هذا التصور يحقق لإسرائيل ثلاثة أهداف في آن واحد:

 

أولًاـ أن تصبغ المنطقة بصبغة طائفية.

 

ثانيًاـ أن تصير إسرائيل ـ وهي الدولة القوية باقتصادها وتقدمها التكنولوجي ـ هي الدولة السائدة أو المسيطرة على المنطقة، حيث لا يوجد حولها سوى دول أقزام.

 

ثالثًا ـ أن تتوسع وتغزو اقتصاديًا؟ لأن أي دولة من تلك الكِيانات الهشة لا تملك القدرة الاقتصادية على الاكتفاء الذاتي."

 

وكان مما خُطط له في شرذمة الأمة العربية إلى دويلات طائفية بكيانات هزيلة لا تقوى على شيء، تفتيت القطر المصري على سبيل المثال إلى الكيانات التالية:

 

"أولًا ـ محور الدولة النصرانية الممتدة من جنوب بني سويف حتى جنوب أسيوط، وقد اتسعت غربًا لتضم الفيوم التي بدورها تمتد في خط صحراوي يربط هذه المنطقة بالإسكندرية التي تصير عاصمة للدولة النصرانية، وهكذا تفصل مصر عن الإسلام الإفريقي الأبيض (في طرابلس الغرب وتونس والجزائر والمغرب) وعن باقي أجزاء وادي النيل (أي السودان ودول القرن الإفريقي).

 

ثانيًا ـ ولمزيد من تعميق هذه التجزئة، يربط الجزء الجنوبي الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان، باسم بلاد النوبة ـ بمنطقة الصحراء الكبرى ـ حيث أسوان تصير العاصمة لدولة جديدة تحمل اسم دولة البربر.

 

ثالثًا ـ الجزء المتبقي من مصر سوف يخصص لمصر الإسلامية.

 

رابعًا ـ وعندئذ يمتد النفوذ الصهيوني عبر سيناء ليستوعب شرق الدلتا، بحيث تصير حدود مصر الشرقية من جانب فرع رشيد، ومن جانب آخر ترعة الإسماعيلية." (1)

 

كما نصت الدراسات على تقسيم لبنان إلى خمسة أقاليم، وتفتيت العراق وسوريا إلى مناطق تحدد على أساس عنصري أو ديني، يجب أن يكون هدفًا ذا أولوية بالنسبة لها، على الأجل الطويل، وأول خطوة لتحقيق ذلك هي تدمير القوة العسكرية لتلك الدول العراق وسوريا، تليها السودان والسعودية واليمن والمغرب العربي.

 

ففي دراسة للمنظمة الصهيونية العالمية في القدس ورد ما يلي:"وأما العراق فهي غنية بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفككها أهم بالنسبة لنا من تفكيك سوريا؟ لأن العراق يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل، وقيام حرب سورية عراقية، سيساعد على تحطيم العراق داخليا، قبل أن يصبح قادرًا على الانطلاق في نزاع كبير ضدنا، وكل نزاع داخلي عربي سيكون في صالحنا، وسيساعد على تفكك العرب... وربما ساعدت الحرب العراقية الإيرانية على ذلك الانحلال والضعف في صفوف العرب ".

 

أما تفكيك سوريا فيكون بإنشاء دولة شيعية على طول ساحل البحر المتوسط، ودولة سنية في منطقة حلب، وأخرى في دمشق، وإنشاء كيان درزي على أرض الجولان، تضم الحوران وشمال المملكة الأردنية،

 

 

(1) أ. د. حامد عبدالله ربيع (الذي اغتيل على يد الصهيونية العالمية في بيته فيما بعد) مصر والحرب القادمة، دار الوفاء المنصورة، مصر

 

كيفية طباعة المقال

 
 

شبكة المنصور

الجمعة / ٢٥ صفر ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٢٠ / شبـــاط / ٢٠٠٩ م