هل من سبيل نحو الوحدة ؟

 

 

شبكة المنصور

الدكتور هشام رزوق

باعتبار أن موضوع الوحدة لم يعد يذكر إلا قليلا، فإن أغلبية كبيرة من شباب هذه الأيام ( مادون الأربعين من العمر ) لم تصله تلك النقاشات الطويلة والحادة التي كانت خبز جيلنا ( جيل النكبة ) اليومي، حول الوحدة وأفضل السبل لتحقيقها، هل تكون وحدة فورية اندماجية بين الأنظمة أم بفعل جماهيري نضالي؟ هل تتم باستخدام القوة من طرف نظام وحدوي قوي أم من خلال بناء تنظيمات وحدوية في كل الأقطار العربية تتولى عملية الاستيلاء على السلطة بوسائلها الخاصة، ثم تتوجه لتحقيق الوحدة مع مثيلاتها؟ ما هو المحرك الأساسي لعملية الوحدة؟ هل هو السياسة أم الاقتصاد أم كليهما معا؟ هل الوحدة هي الطريق لتحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة أم أن العمل من أجل التحرير هو الطريق الذي يؤدي إلى الوحدة؟
وتطول النقاشات وتتشعب ولا تنتهي إلى أية نتيجة عملية.


مازلت أتذكر ذلك الغضب الذي انتابني وأنا أناقش ا الموضوع مع أحد الأصدقاء المغاربة (رحمه الله) في إحدى مقاهي الجزائر أيام كنت طالبا في كلية العلوم فيها، أنا القادم من الشرق بعد هزيمة الخامس من حزيران، المتشبع بفكر البعث، المؤمن بالوحدة حتى النخاع، وحدة يحققها مناضلو الحزب الذي يقود الجماهير الشعبية في كل قطر عربي ، الحزب الذي سيسقط الأنظمة القطرية ويبني الوحدة على أنقاضها، غضبت غضبا شديدا لأني اعتقدت أن صديقي يستفزني وهو يقول لي بكل هدوء وكل ثقة أن الوحدة لا يمكن أن تتحقق بالطريقة التي تفكرون بها أنتم البعثيون، لأنكم لا تعرفون جيدا طبيعة التركيبة الاجتماعية لمختلف الأقطار العربية.


سألني: ماذا تعرف عن المغرب ووضعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؟ هل تعرف تناقضاته الداخلية؟ هل لديك فكرة عن تاريخه القديم والحديث وكيف تطور؟ هل لديك فكرة عن نسبة العرب والأمازيغ فيه؟ كما سألني أسئلة أخرى كثيرة مشابهة عن وضع الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا والصحراء التي كانت محتلة من طرف إسبانيا.


وإنصافا للحقيقة، لم أكن أعرف الكثير عن المغرب سوى بعضا مما كنت قد قرأته في كتب التاريخ المدرسية من ذكريات عن ثورة الريف بقيادة المناضل عبد الكريم الخطابي، وشيئا عن نفي محمد الخامس ثم عودته ملكا بعد "ثورة الملك والشعب"، كنت قد سمعت عن المهدي بن بركة واختطافه وقتله، وشيئا عن حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كما لم تكن معلوماتي عن بقية أقطار المغرب العربي أكثر وضوحا ودقة.


استأنف صديقي قائلا: أنتم في المشرق العربي لا تعرفون الكثير عن المغرب العربي والتناقضات التي تعتمل بداخله ، إنكم تنظرون إلى الوطن العربي نظرة عاطفية مبسطة، ونحن نختلف معكم لأننا نفكر بطريقة أكثر واقعية وعملية، وقد يكون ذلك بسبب تأثرنا بالفكر الغربي، والفرنسي بشكل خاص.


قلت له: كيف تنظرون أنتم في المغرب العربي لمسألة الوحدة وسبل تحقيقها؟ أجابني قائلا:
من خلال نظرتي الواقعية فإنني أرى أن الوطن العربي ينقسم إلى أربع وحدات جغرافية وسكانية شبه متجانسة، وهي:


- بلاد الشام والعراق
- شبه الجزيرة العربية والخليج
- مصر والسودان (وادي النيل)
- بلدان المغرب العربي


والوحدة يمكن أن تتحقق أولا ضمن واحدة أو أكثر من تلك المجموعات بسرعة وسهولة أكبر من إمكانيتها بين مجموعة وأخرى، وهي يمكن أن تبدأ بتعاون اقتصادي يتدرج حتى يصل إلى درجة التكامل، إن تسهيل تنقل الأفراد والبضائع وتشكيل شركات تجارية مختلطة، وبناء مشاريع صناعية كبيرة بين الدول المتجاورة، وخلق مصالح متشابكة بين الأفراد والمؤسسات، وبناء طرق سيارة بين العواصم، ومد خطوط للسكك الحديدية، وتوحيد المناهج التدريسية، كل ذلك يجعل من الناس أكثر تقبلا للوحدة وحماسا لها، من كل الخطب والشعارات القومية النظرية والعمل السياسي المجرد.
لا أخفي أنني ضقت ذرعا بحديث صديقي لكنه كان فرصة جعلتني أفكر مليا بكل ما سمعته.


كان موضوع الاقتصاد آخر ما يشغلنا نحن القوميين القادمين من الشرق، فالقضية الفلسطينية وهزيمة الخامس من حزيران وما فجرته من خلافات وما ولدته من حالة انكسار، والباب الذي فتحته لكل أنواع الاتهامات بالخيانة لكل الأنظمة العربية، كل تلك الأمور لم تترك لمن يعتبر نفسه وطنيا وحدويا إلا همّ واحد وهو العمل على إسقاط الأنظمة التي أوصلت بسياساتها إلى الهزيمة، عن طريق "ثورات شعبية " يقودها حزب قومي أو جبهة وطنية معتمدة على الجيش، بغض النظر عن الطريقة أو الأسلوب أو الصعوبات التي تطرحها تلك المهمة.


كنا نعتقد أن مجرد الدعوة للوحدة وتبيان إيجابياتها (كونها الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى هزيمة الكيان الصهيوني ومن يقف وراءه، وتحرير كل الأراضي العربية المحتلة) كفيل بأن يحرك جماهير الشباب ويجعلها تنتسب للحزب جماعات وأفرادا، لتنخرط في معركة العرب الكبرى ضد الاحتلال الصهيوني، ومن أجل تحقيق قيام الأمة العربية الواحدة بأسرع وقت.


وتمر السنون بالعشرات، يصغر الحلم، يتضاءل، تنحسر الأفكار الوحدوية كما تتراجع وتضعف الأحزاب التي حملتها وناضلت من أجلها سنوات طوال، وتصعد إلى سطح العمل السياسي العربي القوى القطرية والطائفية والانعزالية والانهزامية، تظهر الحركات الدينية بشتى مشاربها واتجاهاتها، في ظل تقهقر وتراجع القوى القومية وقوى اليسار.


وبدل أن تتصاعد حركة النضال من أجل التحرير والوحدة خلال تلك العقود، حدث العكس تماما، حدث مسلسل الانهيارات في الجسم العربي وتمثل ذلك في الأمور التالية المعروفة للجميع:


- محاصرة وضرب المقاومة الفلسطينية الصاعدة وإخراجها من الأردن ثم من لبنان.
- خروج مصر والأردن من دائرة الصراع مع الكيان الصهيوني بعد توقيع اتفاقيات السلام معه.
- تطبيع العلاقات بشكل سري أو علني بين عدد من الأقطار العربية والكيان الصهيوني.
- احتلال الجنوب اللبناني من قبل قوات العدو أكثر من مرة ووصول تلك القوات حتى العاصمة بيروت، قبل أن تجبره المقاومة اللبنانية فيما بعد على الخروج بقوة ضرباتها له وإلحاق الهزيمة به.
- انقسام العرب بين مؤيد للعراق ومعاد له أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
- انقسام حاد في مواقف الدول العربية إبان ( احتلال العراق ) للكويت ومن ثم أثناء الحرب الثلاثينية ضد العراق لإخراجه من الكويت، تلك الحرب التي شارك فيه عدد من الدول العربية جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية.
- مشاركة دول عربية كثيرة في الحصار الظالم على العراق وشعبه بعد إخراج القوات العراقية من الكويت.
- مساهمة دول عربية في جهود إسقاط النظام الوطني في العراق واحتلاله من طرف القوات الغازية الأمريكية.


- إدخال منظمة التحرير الفلسطينية في مسلسل مفاوضات عبثية لا تنتهي، دون أن تحقق أي خطوة باتجاه إيجاد حل عادل،( وكيف يمكن إيجاد حل عادل بين محتل غاصب وبين من احتلت أرضه؟ )
كل ذلك وإسرائيل تقضم ما تبقى من أراض في الضفة الغربية، وتعزل القدس نهائيا عن محيطها العربي وتهود كل شيء فيها وتحاصر ملايين الفلسطينيين في أكبر سجن في العالم: غزة والضفة الغربية.


- حصول نزاعات حدودية بين أكثر من بلد عربي وبلد عربي آخر مجاور، كما وقعت نزاعات طائفية ومذهبية في داخل أكثر من قطر عربي بحيث أصبحت أغلب تلك الأقطار مهددة بالتفكك.

حصل كل ذلك والقوى الوطنية والقومية والوحدوية مغيبة مطاردة ومقموعة، محاربة في لقمة عيشها ومهددة في حياتها اليومية، إن لم تكن أغلب قياداتها حبيسة السجون منذ عقود.


كثير من قوى المعارضة ممن أتيحت لها فرصة الهروب غادرت بلدانها هروبا من هذا القمع واستقرت في المنافي حيث يوجد شيء من الأمن، مع كل ما يخلقه هذا البعد عن ساحات النضال الحقيقية من إشكاليات ومن شعور بالغربة والعجز.


ومع تفاقم أزمات الواقع العربي في مجمله، أنظمة وقوى معارضة، تعود من جديد فكرة الوحدة إلى الواجهة كضرورة ملحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الوضع العربي المنهار على كافة المستويات، كما يعود التساؤل: كيف السبيل إلى الوحدة؟


لا شك أن الإجابة على هذا السؤال الخطير تتطلب قدرا كبيرا من الحذر والدقة والهدوء في تحليل الواقع الحالي الذي تعيشه شعوب هذه الأمة، كما تحتاج إلى مساهمة فكرية من قبل كل من يهمه أمر تحقيق الوحدة العربية من مفكرين و سياسيين واقتصاديين وعلماء اجتماع، من نقابيين وأكاديميين وإعلاميين وغيرهم، كل ذلك من منظور تحقيق مصالح الملايين من الجماهير التي تقطن ما بين المحيط والخليج، بعمالها وفلاحيها، بطلابها، بشبابها، بمثقفيها، بطبقتها الوسطى، بأقلياتها القومية والدينية والطائفية، وبكل من أذلته الأنظمة القطرية بممارساتها القمعية، سياسية كانت أم اقتصادية.


إن أي جواب يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كل الظروف والأسباب والملابسات والأساليب والمفاهيم التي أدت إلى فشل التجارب الوحدوية السابقة، و أدت بالتالي إلى انحسار، إن لم يكن انتهاء، دور الأحزاب القومية الوحدوية على ساحة العمل العربي، جماهيريا ورسميا.


كما أنه لا بد من التأكيد أن العمل من أجل الوحدة دونه جبال من المصاعب والقوى المعادية التي لا تنام، تعمل ليل نهار وبكل الأساليب، تسخر إمكانيات هائلة من أجل رصد وإحباط أي عمل وحدوي، وإفشاله قبل أن يرى النور.


إذا كانت الأحزاب القومية قد بنت وطورت رؤيتها للوحدة وأهدافها وأساليب تحقيقها خلال سنوات عديدة، فإن ما ميز التجارب الوحدوية التي أقدمت عليها (وأولها وحدة مصر وسورية)، هو طابع الاستعجال، الطابع العاطفي، الغموض في كثير من أساليب الحكم والعمل، غموض في المنهج والمحتوى ، وسيطرة السياسي على الاقتصادي والاجتماعي، والأخطر من ذلك كله، غياب المحتوى الديمقراطي في العمل السياسي وسيطرة العقلية الأمنية المخابراتية في التعامل مع القوى السياسية كافة، وحدة غابت فيها الثقة بين القوى التي حققتها، تآمر كل طرف على الطرف الآخر، مما أفقدها بريقها وجاذبيتها وشعبيتها وجماهيرها، فكان سهلا على أعدائها أن ينقضوا عليها ويسقطوها.


إن الوحدة كهدف، إنما هي وسيلة لتحقيق أهداف كبرى سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، فهي لهذا السبب جزء من مشروع حضاري متكامل تجري الكتابة حوله من قبل العديد من الكتاب الذين يعنيهم أمر هذه الأمة وضرورة إخراجها من ذلك الظلام الدامس الذي يلف مصيرها حاليا.


إن الغاية النهائية لهذا المشروع هي بناء دولة عربية واحدة تضم كافة أقطار الوطن العربي، دولة تتجسد فيها مجموعة من العناصر الضرورية التي لا بد منها كي تكون قادرة على الاستمرار والصمود، من تلك العناصر:


1- توفر حرية الرأي والتعبير وحرية تكوين الأحزاب والهيئات السياسية.


2- مشاركة سياسية في الحكم وفي تسيير شؤون الدولة لكل الأحزاب الوطنية والفعاليات الشعبية والنقابية، مع تناوب على السلطة محكوم بنتائج انتخابات حرة وشفافة وبلا تزوير.


3- تحقيق الكرامة الإنسانية لمواطني تلك الدول، من خلال بناء دولة مؤسسات يطبق فيها القانون على الجميع حكاما ومحكومين بحد سواء.


4- توزيع عادل للثروة على الجميع بدون تمييز بحيث يتم الوصول إلى عدالة اجتماعية تتساوى فيها فرص العيش والعمل أمام المواطنين كل حسب كفاءته وقدراته العلمية أو الأدبية أو الفنية، ولا مكان فيها للمحسوبية أو الزبونية.


5 - إعطاء العلماء والمفكرين والمثقفين وأصحاب الخبرات دور أساسي في تسيير شؤون الدولة كل في موقعه.


6- بناء جيش مهني كفء يكون قادرا على حماية الحدود وتحرير المغتصب والمحتل من الأراضي، بحيث تكون الدولة مهابة الجانب من قبل أعدائها ومحترمة من الأصدقاء، تتعامل مع جميع الدول تعامل الند للند.


تلك طموحات كبيرة، لكني أعتقد أنها ممكنة التحقيق نظرا لما تتوفر فيه هذه الأمة من ثروات طبيعية وطاقة بشرية غير محدودة، إضافة إلى العمق الجغرافي والتاريخي والإرث الثقافي مما لا تتوفر عليه أية منظومة عالمية أخرى.
إلا أن تحقيق هذه الطموحات يحتاج إلى تفاهم حقيقي وجدي حولها من قبل كل الفعاليات السياسية في جميع أنحاء الوطن العربي، كما لا بد من توفر الإرادة لدى تلك القوى الفاعلة والمؤثرة.
.
إن المشروع الوحدوي، المشروع الحضاري، لا يمكن أن يتحقق بدون القوى المؤمنة به والمستفيدة منه حقا، إنها بشكل عام قوى شعبية، قوى ديمقراطية، قومية وحدوية، يسارية التفكير والمنهج.


بعض تلك القوى تملك تنظيمات وأحزاب ومنابر إعلامية، وغيرها أفراد يتواجدون داخل الأنظمة، في الإدارات والوزارات، في الجامعات والنقابات، في كل مستويات العمل، لكنهم ضائعون في زحمة المشاكل اليومية، خائفون لشعورهم أن لا معين ولا داعم لهم.


إن المرحلة الحالية وما تضعه أمام منطقتنا العربية من تحديات مصيرية، تفرض على الجميع وفي كل المواقع العودة إلى بديهيات العمل العربي، أي التوجه إلى صيغ من العمل الوحدوي المتدرج، عمل يبدأ بالتوافق على كل الأمور التي هي موجودة فعلا في ميثاق الجامعة العربية ولا اختلاف حولها مثل ضرورة حماية الأمن القومي العربي، إحياء التضامن العربي على الصعيد السياسي ، إحياء السوق العربية المشتركة، إحياء وتفعيل اتفاقات الدفاع العربي المشترك، تشكيل شبكة من المصالح والشركات الاقتصادية متعددة الاختصاصات، نشر شبكة طرق معبدة وسكك حديد بين كل الأقطار العربية مع فتح كامل للحدود، توحيد المناهج الثقافية والتعليمية، استعادة اللغة العربية الفصحى لدورها في كل الوسائل الإعلامية وفي الأعمال الدرامية المسرحية منها أو التلفزية، إلخ....


إن خلق مصالح مشتركة بين شعوب الأقطار العربية وتسهيل حركة التنقل للأشخاص، ونقل البضائع، وفتح الحدود وتشغيل الأيدي العاملة والخبرات العربية أولا بحيث يكون لها الأولوية على غيرها، والإكثار من المؤتمرات العلمية والندوات فيما بين الأقطار العربية، كلها أمور تقرب الشعوب بعضها من البعض الآخر، وتكسر حاجز الفرقة والعزلة، وتخلق نوعا من التفاعل الإيجابي بين جميع الأطراف المؤثرة سياسيا وثقافيا واقتصاديا وتدفع على طريق التكامل ومن ثم الوحدة.

 

كيفية طباعة المقال

 
 

شبكة المنصور

الثلاثاء / ١٣ ربيع الاول ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ١٠ / أذار / ٢٠٠٩ م