غزة .. المشهد السياسى

﴿ الحلقة الثانية

 

 

شبكة المنصور

علاء الدين حمدى

ـ توقفت فى الجزء الأول عند نهاية النقاط الثلاث التى أردت من استعراضها مع حضراتكم تفنيد المشهد السياسى للحرب على غزة ، على قدر جهدى المتواضع ، والتى من خلالها يمكننا على خلفيتها استنتاج أن توقيت المذبحة لم يكن صدفة ، ولم تكن نهايتها ، أو وقفها ، أيضا من قبيل الصدفة !

 

ـ فحماس اضطرتها وطأة الحصار الظالم والصمت والتخاذل العربى ، الى الالتجاء نحو إيران التى تجيد اصطياد حلفائها ، واختيار متلقى دعمها ، بطريقة يُشهد لها بالحنكة والذكاء الشديد ، سواء حماس أو الحوثيين فى اليمن أو العدل والمساوة فى السودان أو شهيد المحراب فى العراق الخ ، وصَدَّقَت حماس ، بصفاء نية ، وعود ايران وأذنابها عن الدعم اللوجيستى والعسكرى والسياسى الذى سيهبط عليها دون حساب إذا صعدت الموقف ضد العدو حتى ولو بدون استعداد مسبق ، وصَدَّقَت كذلك ما قيل عن الجبهات التى ستفتح لتصب حمم الجحيم على إسرائيل إذا نظرت مجرد النظر الى غزة ، وصَدَّقَتهم أن التاريخ سيذكر لها أنها أتاحت لهم الفرصة لتحرير الجولان ومزارع شبعا أيضا !

 

ولما بدأت الحرب ولم يأت الدعم الموعود ، اجتمع قادتها مع " سعيد جليلى " أمين عام مجلس الأمن القومى الايرانى فى دمشق للسؤال عن هذا الدعم ، فقيل لهم امتصوا الضربة الجوية وسترون منا ما يرضيكم إذا بدأ الاجتياح البرى ! وهو ما  ظهر جليا فى تصريحات الرجل " الطيب " خالد مشعل بعد لقائه " جليلى " قبل الاجتياح البرى بأيام ، والتى استشعرت منها ، على حد فهمى ، عدم تقدير مشعل المقاوم بطبعه وفطرته ، للموقف السياسى الذى وضعوه فيه ، خاصة انه اكتشافه أن اسرائيل ليس لها أخلاق كما قال ، ناسيا أنه ليس بعد الكفر ذنب ! وتأكيده محذرا العدو ببراءة وبثقة يحسد عليها ، أو ربما بسذاجة يشفق لها ، أن الاجتياح البرى الاسرائيلى سيتسبب فى دخول أطراف أخرى الى المعركة ، يقصد حزب الله وسوريا ، وربما إيران ! كما لو كان الأخ مشعل لم يلحظ أن إسرائيل لم تتخذ ترتيبات عسكرية طارئة على حدود لبنان أو فى الجولان قبل ولا أثناء الحرب ، وأن سوريا والشيخ حسن قد أعدوا العدة على حدودهم مع إسرائيل بالفعل ، ليس لتخفيف الضغط عن غزة ، ولكن خوفا من أن يُلقى أحد اللاجئين الفلسطينيين هناك " بطوبة " على العدو تجر عليهما المتاعب والويلات وتعرضهما للعقاب ، وهو ما حدث على الجبهتين بالفعل ، وربما سرا من رجال حماس هناك ، وتلاه قصف اسرائيلى مدفعى دفع بالطرفين سوريا والشيخ حسن الى الهرولة للنفى السريع جدا على طريقة " مش أنا اللى عطست يا ريس " ، وربما لتقديم الاعتذار أيضا ، ليصبح موقف " داعمى المقاومة " على الأرض كالآتى :

 

1 ـ اختفاء " الشيخ حسن " من على الساحة تماما وحتى الآن ، ربما حياء من حماس أو لبقائه ، عفوا ، فى دورة المياه مصابا بالاسهال ، بعد أن كان يلقى خطابا تحريضيا يلهب المشاعر ضد مصر تحديدا ، وليس ضد العدو ، كل 48 ساعة ، كان آخرها قبل بضع ساعات من اطلاق الصواريخ من منطقة نفوذه فى المرة الأولى حين قال ( أن كل الخيارات مفتوحة أمامنا طالما أن الأمور وصلت الى هذا الحد ولو جئتم الى " أرضنا " ، لاحظ اشارة عدم التورط ، ستكتشفون أن حرب تموز كانت نزهة فيما " أعددته لكم " ، لاحظ الشخصنة وصيغة المتكلم ، فنحن لا نعرف حجم المشروع " وحجم التواطؤ" ، لاحظ التلميح )

 

2 ـ تصريح " جليلى " المطمئن لاسرائيل وتأكيده أن حسن وحزبه لن يخوضوا المعركة دعما لغزة من الجبهة اللبنانية .

 

3 ـ فتوى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية ، خامنئى ، التى وضعتها قناة الجزيرة على شريط الأخبار مرة واحدة فقط !!! بتحريم انخراط الإيرانيين بأى صورة من الصور مع المقاومين الفلسطينيين للدفاع عن غزة !

 

4 ـ تصريحات الرئيس " الأسد " لل BBC التى حاول من خلالها استباق رد الفعل الاسرائيلى على اطلاق النار من الجولان فتحدث عن ضرورة وقف إطلاق النار من الجانبين غزة والعدو بصورة دائمة ! وأن وقف تهريب الأسلحة من مصر الى غزة يعتبر جزء من الحل الشامل كما قال ! وكذلك ضرورة توقف صواريخ حماس تماما واستمرار التهدئة ، وهى التصريحات التى لم يكررها فى اجتماع الدوحة ،‍والتى قيلت ، حسب تصورى ، للاستشهاد بها مستقبلا فى المفاوضات مع الاسرائيليين والأمريكيين كدليل على " عقلانية " الموقف السورى الرسمى وقت المذبحة ! 

 

ـ كان هذا هو موقف الداعمين أو المحرضين الأساسيين الذين تخلوا عن حماس والمقاومة وقت الجد ، كذلك كان موقف العرب ، أعنى النظم المتباكية اليوم على أهل غزة بدموع التماسيح ، والذين بدلا من احتواء حماس داخل بيتها الفلسطينى والعربى منذ البداية ، دفعوا بها دفعا لتضع قرارها فى أيدى المحرضين ، بعد أن ألقوها فى اليم مكتوفة وقالوا لها إياكِ إياكِ أن تبتلى بالماء ! تركوها جميعا لتتورط وحدها فى مواجهة وحشية العدو وآلته الغاشمة ، وكأن لسان حالها يردد مع " ريتشارد قلب الأسد " فى رائعة " الناصر صلاح الدين " ( كل حلفائك خانوك يا حماس ، الكل باطل !! ) .

 

ـ وعلى نفس خلفية عدم صدفة الأحداث ، فضلت إسرائيل أن تبدأ المجزرة فى هذا التوقيت الضائع ، لتنهيها قبل تولى الإدارة الأمريكية الجديدة أو بالاتفاق معها ، بعد أن تكون قد حققت أهدافها ، أو الجزء غير المعلن منها على الأقل ، والذى يتمثل فى وأد حلم الدولة المنشودة والابقاء على حماس ضعيفة مسيطرة على غزة ، حتى يتسع الخرق بينها وبين الضفة ، وهو النصر الوحيد الجَلِىّ الحاسم الذى حققته اسرائيل بالفعل وبجدارة ، وبدأت أثاره مباشرة فى الصراع بين حماس والسلطة حول أموال عملية الاعمار ، وبصورة متدنية للأسف على الفضائيات أمام العالم !

 

ـ وبين هذا وذاك ، كان ضعف الدور المصرى واستكانته ورفضه القاطع لممارسة أى نوع يذكر من الضغوط على " الرقيقة " إسرائيل ، رغم أنها ضغوط لم يطالبه أحد أن تصل الى حد اعلان الحرب التى كانت موجهة ضده كما كانت موجهة ضد غزة .. بوابة أمنه القومى ، مفضلا الاكتفاء بمبادرة عادية كان من الممكن أن تطلقها دولة " بليز" أو غيرها من الدويلات التى تقل فى مكانتها وحجمها كثيرا كثيرا عن مصر ! مبادرة تحدثت عن حقن الدماء الفلسطينية ، نعم ، لكنها لم تطرح آليات تضمن عدم اراقتها من جديد ! مبادرة تغافلت عن تصريحات اسرائيل منذ البداية انها هى التى قررت بدء الحرب وهى وحدها التى ستقررمتى ستنهيها ! ورغم ذلك صَدَّقت مصر ، بسلامة نية ، أن اسرائيل تجاوبت مع المبادرة وأنها بصدد دراستها ، ولم تنتبه الى أن قبول اسرائيل لها يعنى اعترافا رسميا بحماس والمقاومة ، وهو ما لن يحدث بمحض ارادتها " ولو باض الحمام على الوتد " ! ولكن اسرائيل أرادت كسب عدة أيام لمحاولة تحقيق أهدافها غير المعلنة على الأرض ، منتهزة فرصة تدلل حماس وتَمَنُّعها وانتظارها لقرار يمليه المحرضون ، بينما الحقيقة أن اسرائيل أغفلت الدور المصرى فى صفاقة ، واتفقت مع الأمريكيين من وراء ظهره ، وألقت بمبادرته ، وقررت وقف اطلاق النار من جانبها ، خارج اطار المبادرة ، لتضرب جملة عصافير بحجر واحد :

 

الأول : التأكيد ، للمستقبل ، أن قرار الحرب والسلام أمر مرهون باسرائيل ومتروك لتقديرها وحدها .

 

الثانى : اجبار المقاومة على وقف اطلاق النار دون أن تمنحها فرصة لأى اشتراطات أو مكاسب من خلال المبادرة المصرية أو غير المصرية ، يترتب عليها اعتراف ضمنى بحماس ككيان شرعى على الأرض وليس مجموعة من الارهابيين كما تصنفها اسرائيل ومن ورائها .

 

الثالث : دق الأسفين بين فصائل المقاومة وهو ما ظهر على الساحة بعد اعلان حماس لوقف اطلاق النار وموافقة البعض واعتراض الجبهة الشعبية وصمت آخرين فى موقف أشبه بالامتناع عن التصويت .

 

الرابع : احتفاظ اسرائيل بقرارها فى معاودة اطلاق النار من جديد اذا واصلت المقاومة اطلاق الصواريخ ، أو أوعزت اسرائيل لأحدهم بمعاودة اطلاقها من جديد .

 

الخامس : تعمدها ، مع الادارة الأمريكية الراحلة ، اهانة الدور المصرى وتهميشه ، ربما بسبب أن مصر هى العدو الأول مهما كانت عرابتها للسلام مع اسرائيل ! وربما لرفضها وجود مراقبين دوليين على أرضها أورفضها أن تكون طرفا فى أى اتفاق بين اسرائيل وأمريكا لمنع تهريب السلاح ، فقررت اسرائيل عقابها وايقاف المجزرة دون تبييض وجهها لتخرج ملعونة مشتومة من " طوب الأرض " حتى الأخ المجاهد الميكروفونى " عطوان أو عطبان " الذى قال ( مصر أصبحت ورقة كلينكس ، أصبحت لا شىء ) وكذلك زميله " المفكر العربى " بشارة !

 

ـ ولا ينال من تعمد الاهانة ذلك ، اعلان اسرائيل المسرحى بايقاف اطلاق النار امتثالا لطلب الرئيس مبارك بل وتوجيه الشكر له على جهوده ، فى تصرف خبيث هلل له بعض الأغبياء فى الاعلام المصرى واعتبروه نصرا مؤزرا للسياسة المصرية الحكيمة التى اختلقوا لها تعبيرا جديدا ، أكثر بياضا ، هو " عبقرية ادارة الصراع السياسى " ، بينما الحقيقة أن اسرائيل أرادت من خلال اعلانها المسرحى الايحاء للرأى العام العربى أنها ، وهى المؤدبة الطيعة ، كانت تنتظر طلب الرئيس مبارك منذ بداية الحرب لكنه هو الذى تأخر ! وبالتالى فهو الذى يتحمل وحده مسئولية الدماء المراقة ! أو أنها تولت مقاولة القضاء على حماس لحسابه كما اشاعت بنفسها مع بداية الحرب فكان من الطبيعى أن تتوقف حسب أوامره ! بينما الحقيقة أنها أرادت ارضاء الرئيس مبارك والسيطرة على غضبته المفاجأة حتى لا تضطره الى اتخاذ مواقف متشددة ، غير مسبوقة ، وغير متوقعة ، أو غير محسوبة من ناحيتها ، امتنع عنها كثيرا ، لرد الاهانة التى تعرضت لها مصر ، عموما سيتضح خلال الأيام القادمة كيف سيكون الرد العملى لمصر الكبيرة .

 

ـ وفى النهاية ، وبعد المصالحة التى ذهبت أدراجها مع ما تبقى من مأدبة الغذاء ، وبعد حقن المبادرة العربية المصابة بمرض " البرى برى " بمزيد من " أكسير" الكلام العربى المقاوم للكُساح ، وبعد اعادة تأكيد " زعماء الأمة " على أن السلام هو " خيارهم " الاستراتيجى ، دون استدراك يفيد أنه سيبقى كذلك طالما كان هو نفس " خيار " الطرف الآخر ، ثم وبعد فتح الصندوق لجمع التبرعات لاعادة بناء غزة بدلا من مطالبة الذين دمروها بذلك ، كما لوكان " الجيب واحد " !

 

بعد كل هذا ، اتفق الجميع على ضرورة منع تسليح المقاومة !!! وهو قرار كان يجب أن يتوازى مع انهاء أسباب كونها مقاومة ، والا فهو التواطؤ بعينه ! فعدم تسليح المقاومة تحسبا للمستقبل ، يجب أن يقابله انهاء الاحتلال على التوازى وبجدول زمنى ملزم ومحدد ، والا فماذا سيجبره على حمل عصاه والرحيل ؟ أعتقد أن " الخيار " وحده لن يساعد فى ذلك حتى لو كان " خيارا مخللا " من أجود أنواع " الطرشى " البلدى !   

 

ـ وسط هذه الخلفية الواسعة المعقدة البدايات والنتائج ، كانت المقاومة ، وكانت حماس ، وكانت القضية التى اختزلت أمام العالم فى فتح المعابر فقط لا تحرير الأرض وذهاب المحتل ، أى أن اسرائيل لو فتحت المعابر بصورة كاملة اليوم فلن يصبح هناك حاجة أمام الشعوب العربية والاسلامية نفسها ناهيك عن " الأغراب " للحديث عن وطن سليب أو دولة منشودة أو القدس العربية ، وبعد " ركوب الخليفة " على صهوة جواده فى البيت الأبيض ، سيظهر الأذناب من كل اتجاه ليحصدوا نتائج المؤامرة ، وليعلنوا الإدارة الأمريكية الجديدة من خلف حماس والمقاومة ومصر ومحورها " المعتدل " ! أن بإمكانهم حل المشكلة والضغط لقبول أى شئ وأى وضع ! بمعنى أن الجميع اتفق فكانت غزة هى الملعب .. وكانت دماء أهلنا هى الأداة .. وكانت حماس ومصر هما المخدوع الأكبر .. وكانت الصفعة على وجوهنا جميعا .. وأرجو القراءة مرة أخرى بهدوء وروية ، وأشكر مُهاجمىِّ مقدما ، ورزقى على الله .

 

ـ ضمير مستتر ، يقول تعالى:

 

{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الأنفال48

 
 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الجمعة  / ١١ صفر ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٦ / شبـــاط / ٢٠٠٩ م