غزة .. المشهد السياسى

﴿ الحلقة الاولى ﴾

 

 

شبكة المنصور

علاء الدين حمدى / كاتب مصرى

ـ الآن وقد توقف زلزال غزة ، أصبح من اللازم تناول مشهده بصورة أكثر حرية وموضوعية ، دون أن نُتهم بوضع الفتنة والخبال والارجاف بين صفوف المقاومة ، التى هى فى النهاية مجموعة من البشر تخطىء وتصيب ، بل ان حبنا للمقاومة وحرصنا عليها وعلى بقائها لحين تحرير الأرض ، يستوجب علينا جميعا ضرورة تفنيد هذا المشهد واعادة الحسابات واستخلاص الدروس وتقييم النتائج ، اقتداء بما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد ، تداركا للسلبيات ، ودعما للايجابيات ، واستعدادا حقيقيا للثأر ولما هو قادم ، لأنه الأسوأ ، دون الوقوف أو الاختلاف حول مفهوم النصر والهزيمة ، انتظارا لتوابع الزلزال السياسية ، التى ستكون أخطر من قوته التدميرية أضعاف المرات ، يدفعنا الى ذلك يقيننا أن المقاومة هى عنوان التحدى الحقيقى للعدو الغاشم ، وأن حماس هى العمود الفقرى الباقى لهذه المقاومة ، وأن حرصنا عليها ، كمقاومة ، هو حرص على شرف هذه الأمة ، وأنه ليس بيننا من يرغب فى أن يراها نسخة مكررة من " حزب الشيخ حسن " ، وكذلك لأننا نُصِّر أن يبقى عنوان الوصول اليها مباشرة على الأرض الفلسطينية فقط ، وليس عن طريق طهران أو دمشق أو حتى القاهرة ، لذلك ، فلتسمح لى ، حماس ، أن أتحدث عن هذا المشهد تحت ثلاث نقاط :


ـ الأولى ، الخط السياسى :


فحماس أرادت ، وما زالت تريد حسب تصريحات خالد مشعل 21/1/2009 ، أن تجمع بين نقيضين .. هدف مطلق مقدس لا خلاف عليه هو المقاومة المتجردة ضد المحتل ، وبين رغبتها فى أن تكون سلطة سياسة وحكم قبل القضاء على هذا المحتل ، وبالتالى يصبح من المباح الاختلاف حولها ، شأنها شأن أى حكومة على مستوى العالم ، دون أن يضيق صدرها بالنقد أو يُتهم المختلفون مع طريقتها بالاتهامات المتداولة منذ النكبة ، فشرعية حماس وقوتها يكمنان فقط فى ما تستطيعه هى ولم يعد فى استطاعة الآخرين ، أى فى بقائها حركة مقاومة ، تبتعد بارادتها عن أطر السياسة حتى القضاء على الاحتلال ، لا سلطة حاكمة تخضع لقيود والتزامات دولية ، تجبرها ، مثلا ، على الاعتراف بالعدو الأمر الذى من الطبيعى أن ترفضه لأنه يسحب عنها شرعية وجودها الاساسية ، وأكرر مقاومة نقية تبقى ضميرا للشعب ورقيبا حارسا على مقدراته ، بوسعها تقويم أداء أى سلطة حكم تتفاوض عنه أو تتحدث باسمه فى مرحلة ما قبل الدولة الفلسطينية ، وبعدها يكون من حق حماس وغيرها التحول الى آلية سياسية تتفاعل داخل مؤسسات الدولة الوليدة لصالح مرحلة البناء والتشييد ، أما اليوم ، والعدو لا يفهم إلا لغة القوة ، فالمقاومة الراشدة ، سيدة قرارها ، هى احدى السبل الأساسية لانتزاع الحق من بين براثنه ، لا المفاوضات وحدها ولا " الخيار " ولا المبادرات العربية ولا الأرض مقابل السلام ، الى آخر هذه النوايا الحسنة ، أو ربما المتخاذلة ، التى يجيدها العرب باحتراف ولا يفهمها الصهاينة بالفطرة ، والتى لن تُثمر عن نتائج مرجوة إلا إذا توازت خطوطها مع خط المقاومة الراشدة غير المُسيسة ، والتى من المفترض أن مفهومها لا يغيب عن حماس أو عن المقاومة المتجردة عموما ! وأخلُص الى أن خطأ حماس السياسى ، فى تصورى ، كان بداية فى طرح نفسها كبديل وحيد على شعب أراد تجربة وجوه أخرى غير " دحلان " ورفاقه أو نكاية فيهم ، أى فى تحولها من " المُطلَق " أى المقاومة التى تحترفها بشرف وقداسة ، الى " النِسبى " أى السياسة وألاعيبها والتى أثبتت الأحداث أنها لا تجيدها ولا تتقنها ، وهو شرف لها على أية حال ، هذه واحدة .


ـ الثانية ، الفخ والخديعة :


فحماس ، كعادة كل الفصائل الفلسطينية منذ النكبة دون استثناء ، جعلت قرارها وقيادها ، بكل أسف ، فى أيدى أطراف أخرى لها أجندات ومصالح خاصة غير معنية بالقضية الفلسطينية ! أطراف أوحت لحماس أن التصعيد العسكرى لن يتعدى " المناورة السياسية " التى سيعقبها فورا رفع الحصار واعتراف العالم بها كسلطة ادارة وحكم ، وأن العدو لن يجرؤ على استباحة القطاع خوفا من دخول هذه الأطراف أتون المعركة الى جوارها فى تزامن مع أول طلعة جوية على غزة ، وان لم يحدث مع أول طلعة فسيتزامن مع أول طلقة على الأرض إذا ما ارتكب العدو " حماقة " الاجتياح البرى للقطاع ، وأنهم سيرسمون بأيديهم ، مع حماس ، خريطة جديدة للمنطقة لا توجد عليها إسرائيل بعد أن يطهروا السماء من أنفاسها بلهيب صواريخهم التى تطال أى نقطة داخلها كما يعلنون دائما ، وهم يملكون هذا بالمناسبة ، ولكنه أيضا لم يحدث ! ورغم ذلك ظلت حماس تتشاور مع هذه الأطراف ، لا مع نفسها أو شعبها ! وتنتظر موافقتهم لقبول وقف متبادل لإطلاق النار ! وكأنها لم تستوعب الفخ الذى استدرجوها اليه من قبل بداية المجزرة ! وكأن أهلها فى غزة ليسوا وحدهم الذين يدفعون الثمن فى كل دقيقة ، فى صمود رائع لم يُتح لهم بديل عنه ، أعنى الخروج الى سيناء عبر معبر رفح ! رغم أن الحنكة وتحمل مسئولية الشعب ، فى تصورى ، كانت تحتم على حماس انتهاز الفرصة وقبول وقف إطلاق النار المتبادل فورا والخروج من الأزمة بانتصار واضح ، لسببين يصبان فى صالحها بكل تأكيد ، أحدهما سياسى والآخر استراتيجى :


● السياسى ، أن اتفاق أى طرفين على قبول وضع ما يعنى بداهة وجود طرفين ، نِدَّين ، أمام العالم المتابع لهذا الاتفاق ، وهذا فى حد ذاته نصر سياسى كبير لحماس التى يؤرقها بشدة عدم الاعتراف بها رسميا على المستوى الدولى وأيضا وهو الأهم يخرجها عنوة وبذكاء عن تصنيفها كحركة ارهابية فى نظر الغرب ، اضافة الى أن قبول الطرف الأقوى عسكريا لوقف متبادل لاطلاق النار هو اعتراف صريح منه بالقوة العسكرية للطرف الآخر !


● والاستراتيجى ، كان ضرورة الحفاظ على ما تبقى من قدرتها العسكرية ، وحقنا لدماء طاهرة كان يجب ادخارها لما بعد الخروج من المجزرة واستيعاب أبعاد فخ التحريض ودروس الخديعة ونقاط الضعف والقوة والتحول الى مرحلة جديدة من المقاومة الواعية المدروسة ، التى لا ريب ولا مفر منها ، والتى تستند الى قوله تعالى { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ } الأنفال60 ، بمعنى اعداد القوة المناسبة بكل صورها المستطاعة ، ليس للحرب ولكن لارهاب العدو فيخشى من مجرد التفكير فى شن الحرب .


ـ الثالثة ، المشهد السياسى :


فطبيعة حماس المقاوِمة لم تمكنها من قراءة المشهد السياسى الآنى من حولها بطريقة جيدة سواء على المستوى الدولى أو الاقليمى أو ، وهو الأهم ، على مستوى دول " الطوق " العربية , وذلك قبل اتخاذها قرار التصعيد العسكرى ، لا قرار عدم تجديد التهدئة الذى كان من السياسة التوقف ، لفترة استكشافية ، عند الاعلان عنه مصحوبا بحفظ حق المقاومة فى اتخاذ كل ما تراه من اجراءات أو خيارات فى التوقيت المناسب ، الذى تحدده فيما بينها وفقا لقراءتها للمشهد السياسى ، وتقديرها لاختلاف موازين القوى العسكرية مع العدو ، ووجود المدنيين كطرف ثالث فى المعادلة ، وتيقنها من وجود الدعم السياسى والعسكرى الموعود ، والاختيار بين نقل المعركة الى عمليات داخل عمق العدو أو انتظاره فى غزة .


والشاهد أن حماس عوَّلت على تفاعل عناصر هذا المشهد السياسى لصالحها شعبيا ورسميا ، وبالتالى أرادتها معركة سياسية فى المقام الأول وليست عسكرية ، ولكن للأسف دون تقييم جاد لهذه العناصر وتفاعلاتها وخلفياتها وما ستفرزه من نتائج عسكرية أو مستقبلية على الأرض ، عناصر يمكن ايجازها ، فى رأيى ، فى النقاط الآتية :


1ـ انتخابات إسرائيلية قريبة تحتاج الى أصوات تأتى عادة عبر دماء الفلسطينيين ، خاصة وأن قتل " الأغيار " ، والفلسطينى على رأسهم ، فى " تلمودهم " وعقيدتهم ليس الا قربان يُتقَرَّب به الى الرب ! وأن " المس بالمواطنين الفلسطينيين أمر شرعى " كما قال الحاخام "مردخاي إلياهو" المرجعية الدينية الأولى للتيار الديني القومي في إسرائيل ، وهذا وحده سبب وجيه وهدف كاف لمحرقة غزة فى تصورهم ! أى التقرب الى الرب حتى يوفقهم للنجاح فى الانتخابات !


2ـ مفاوضات إيرانية أمريكية توشك على نهايتها ستحصل إيران من خلالها ، لا ريب ، على حق " التمثيل والوكالة " الأمريكية فى المنطقة ، كما سبق واستعرضت مع حضراتكم فى الجزء الرابع من ( بروتوكولات ملالى ايران ) ، ولم تنتبه حماس ، تحت وطأة الحصار والتجويع الاسرائيلى والتركيع العربى وصمت العالم الاسلامى ، أن طهران أرادت من خلالها ارسال " تلغراف مستعجل " الى الإدارة الأمريكية الجديدة يفيد بأنها لاعب أساسى يجب أن يؤخذ فى الاعتبار فى أى تسويات إقليمية قادمة ، وأن أصابعها ورجالها ، سُنَّة أو شيعة ، بمقدورهم العبث فى المنطقة كما يحلو لها سلبا أو إيجابا ، كذلك لم تنتبه حماس الى أن الدعم الذى تحصل عليه من ايران حاليا ، أيا كان مستواه أو حجمه ، سيتوقف مستقبلا بكل تأكيد بعد نجاح المفاوضات والحصول على حق التمثيل الأمريكى فى الخليج تحديدا.


3ـ علاقات مطردة تتنامى بقوة ومفاوضات دائرة بين سوريا وأمريكا وإسرائيل ، سواء بالاتصال المباشر أو عن طريق الوسيط التركى ، أرادت دمشق ، الحليفة لايران ، دعم موقفها فيها باستخدام حماس والمقاومة كأدوات للضغط ، الذى سيتوقف أيضا بعد عقد معاهدة سلام واستعادة الجولان ، ان شاء الله ، ولم تلحظ حماس كذلك أن دمشق التى عجزت عن الرد على الغارات الاسرائيلية والأمريكية المتكررة دفاعا عن أراضيها الباقية دون احتلال ، من المستحيل أن يكون فى مقدورها البدء فى عمليات عسكرية دفاعا عن حماس وغزة .


4ـ تَحوّل " حزب الشيخ حسن " ، الذيل الايرانى فى المنطقة ، الى عصابة من البلطجية وقطاع الطرق ، ورغبته فى استعادة صورة المقاوم الغيور على القضية ، مجانا ، على حساب المقاومة ، ليمحو من الأذهان صورة عصابته وهى تحتل بيروت وتوجه سلاحها الى داخل الوطن ، بعد أن حظر عليه السادة الايرانيون الدخول فى أى مغامرات أو مواجهات مباشرة مع اسرائيل حتى لا يتسبب فى افساد المفاوضات إلايرانية الأمريكية ، وهو ما تكشف للجميع ، وأولهم حماس ، أثناء وبعد المجزرة !


5ـ سلطة فلسطينية " مهذبة " يعترف بها العالم رسميا لمجرد اخراجها من اطار المقاومة ، ألقت سلاحها وتفرغت لتسول الحقوق من خلال " الخيار " والمفاوضات وخرائط الطريق والمبادرة العربية " العتيقة " ، وصنعت بنفسها مشكلة حماس بقرار اقالتها التعسفى استجابة للضغوط العربية قبل الاسرائيلية ، رغم أنها ، أى حماس ، حكومة شرعية جاءت باختيار حر ديمقراطى من الشعب الفلسطينى ، حتى لو همسنا فى أذنها معترضين على مبدأ تحول المقاومة الى سلطة حكم قبل القضاء على الاحتلال ، كما عبرت عن رأيى آنفا .


6ـ وجود عدد وافر من الفصائل والمنظمات المتضادة الايدلوجيات ، وربما الولاء ، والتى يزعم كل منها أنه يمثل وحده الشعب الفلسطينى !


7ـ تشرذم عربى واضح ، ومحاور توصف بالمعتدلة وأخرى توصف بالممانعة ، وقواعد أمريكية هى الأكبر من نوعها فى العالم ، تُنقل أحدث الأسلحة والذخائر من مخازنها فى الخليج ، الذى " كان " عربيا يوما ما ، رأسا الى العدو دون أن يجرؤ " الرجال " هناك على مجرد الاعتراض ! ودويلات عربية مشوشة الانتماء والولاء تدق " الأسافين " وتقدم القرابين للإدارة الأمريكية الجديدة ووكيلها المرتقب ، وبترول قطرى يُضَخ الى اسرائيل استكمالا لمسيرة شقيقه الغاز المصرى ، وتحول الخليج ، الذى " كان " عربيا يوما ما ، الى خزينة نقد احتياطية تضخ مليارات الدولارات فى شرايين الاقتصاد الأمريكى فور الطلب ، كصفقة دولة الامارات قبل أيام من حرب غزة لشراء " سلاح " أمريكى بقيمة ثلاثة ونصف مليار دولار ، لا ندر لحرب من !! وأوضاع أشبه بما يحدث فى " حظيرة الدجاج " ، رسخت لوأد المقاومة والتخلص من صداع حماس " وقرفها " والتفرغ للعلاقات المنتعشة مع اسرائيل ومن وراء اسرائيل .


8ـ انحسار حقيقى للدور المصرى على الساحة الفلسطينية واكتفائه بدور " الوسيط الدبلوماسى " تارة بين حماس وفتح وتارة بين حماس واسرائيل ، وموقفه منذ زمن بعدم التلويح أو استخدام أى أوراق ضغط على العدو مهما كانت الظروف والأسباب ، الأمر الذى شجع العدو على التمادى والعربدة دون خوف من رقيب أو حسيب ومنذ استشعر نقطة النهاية للدور المصرى يوم صمت على حصار ياسر عرفات ، " سجين رام الله " .


9ـ وهو الأهم الفراغ السياسى العالمى بسبب إدارة أمريكية راحلة ، الى حيث ألقت ، وهو ربما ما يفسر عدم توجه مصر اليها بحثا عن حل ، وادارة جديدة قادمة ، أراد الجميع ، عرب وعجم ويهود ، كل على طريقته التى يحترفها ويجيدها ، أن يمهدوا ساحتهم أمامها ، وأن يكتبوا أسمائهم فى دفاتر حظوتها بمداد أحمر ، اتفقوا جميعا أن يكون من دماء الشهداء الطاهرة ، وللحديث بقية ان أراد الله تعالى , ثم أذن مضيفونا ، وكان فى العمر بقية .


ـ بدون تعليق :
( نريدكم أعزاء فى بلادكم ) الرئيس الايرانى محمود أحمدى نجاد ، مخاطبا " رعاياه " العرب فى حواره مع قناة الجزيرة " العربية " الخميس 15 يناير 2009.

 
 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الجمعة  / ١١ صفر ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٦ / شبـــاط / ٢٠٠٩ م