وقفة مع الذات في ذكرى الفاجعة !

 

 

شبكة المنصور

سعد داود قرياقوس

تنويه

نود لفت انتباه السيِّدات والسادة القرَّاء إلى أنَّ الهدف من هذه المساهمة يقتصر على تقديم محاولة نقديَّة صادقة لأداء الحركات والتجمُّعات والشخصيَّات السياسيَّة العراقيَّة التي تنشط من خارج القطر، نتيجة إ رهاب سلطة الاحتلال وحكومته العميلة وميليشيات الحقد الطائفي والعنصري،

 

و ليست معنيَّة بأيِّ شكل أو صيغة بتقييم أداء جبهات المقاومة وفصائلها، ولا الأحزاب السياسيَّة الوطنيَّة المقاومة الاحتلال داخل القط . كلُّ ما أشير إليه في المساهمة من إخفاقات، ينحصر في العمل السياسي خارج القطر ، وليس على الجهد الوطني المقاوم داخله .

 

كما نودَّ أن نأكِّد بجلاء أنَّ هذه المساهمة ليست محاولة لمدِّ اليد إلى الذين أساءوا لكاتب هذه السطور ولغيره آخرين من الشخصيَّات الوطنيَّة خلال الأسابيع الماضية في كتاباتهم التي افتقرت إلى الحدِّ الأدنى من اللباقة الأدبيَّة والذوق والخلق والمصداقيَّة والمسؤوليَّة الوطنيَّة السياسيَّة.

 

أسابيع وتحلُّ ذكرى الفاجعة بكلِّ ما تحمله من آلام وأحاسيس الغربة والتشرُّد واليتم ومعاناتها. فيستيقظ حنين المهجَّرين قسرًا لديارهم المسلوبة، وتسترجع عوائل المغتالين غدرًا ملامح شهدائهم، ويستذكر المحبُّون مرابع صباباتهم، وتتدفق الدموع غزيرة من مآقي أمَّهات المفقودين وآباءهم.

 

إلى ما تثيره فينا ذكرى الفاجعة من أحاسيس محزنه وأليمة، فهي تحي فينا مشاعرالفخر في مقاومتنا الأبيَّة واعتزازنا بإنجازاتها السيَّاسية والعسكريَّة أيضًا واحباطها مشروع احتلال العراق والمنطقة.

 

ذكرى استباحة شعب العراق، توقظ فينا نحن المبتلين بلعنة السياسة وعشق وطن مغامرات العقل الأولى حزنًا من مذاق خاص، حزنًا ممزوجًا بشعور فشلنا في تقديم أحد مستلزمات قضيَّتنا الوطنيَّة. المحزن، أنَّ بعد قرابة ستِّ سنوات على استباحة الوطن، ما نزال عاجزين عن الارتقاء بأدائنا إلى مستوى مقارب لتضحيات شعبنا وإنجازات مقاومته. وما نزال عاجزين عن التخلُّص من ترسُّبات الماضي والانعتاق من قيود الذاتيَّة والعصبيَّة السياسيَّة. وما نزال عاجزين عن توحيد الصفوف والخروج في موقف موحَّد داعم للمقاومة ومناهض للاحتلال وعمليَّته السياسيَّة، وعاجزين عن إيجاد الإطار السياسي القادرعلى توفير خيمة وطنيَّة يلوذ بدفئها المتعطِّشون لتقديم العطاء السخي لقضية شعبهم وأمَّتهم.

 

سنوُّ المحنة بكلِّ ما أفرزته من قتل وتدمير وتشريد ونهب الثروات، واستلاب ثقافي وتمزيق النسيج الوطني والقومي لم تحفزنا على تجاوز حدود الذات والتخلُّص من عقد التفوُّق والأرجحيَّة. ونحن اليوم، بكلِّ المقاييس، أكثر انقسامًا وتشرذمًا من الأشهر الأولى للاحتلال، وأكثر تعصُّبًا لتجمُّعات سياسيَّة برهنت المرحلة عدم جدواها، وأكثر تمسُّكًا بسياقات عقيمة. ستَّة سنوات من الاحتلال وما نزال عاجزين عن وضع إطار حركة سياسيَّة قادرة على تقديم ما تحتاجه المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة من دعم وإسناد سياسي وإعلامي.

 

مَن منَّا يملك قدرًا من الشجاعة يمكِّنه من الاعتراف بفشله؟ مَن منَّا يملك الشجاعة على الاعتراف بخطأ درجات مقايسيه؟ مَن منَّا يتجرَّأ على الاعتراف بعدم جدوى سياقاته وتخلُّف إدارته السياسيَّة؟

 

لماذ فشلنا؟ أسباب الفشل كثيرة. لم نفشل بسبب نقص في المناعة الوطنيَّة وانتفاء الالتزام الصادق، وحبِّ الوطن وقلَّة الشجاعة وغيرها من مستلزمات الانتماء الوطني. فشلنا لأنَّنا أخفقنا في تجاوزهفواتنا الشخصيَّة وعصبيَّتنا السياسيَّة. فشلنا بسبب عجزنا عن التخلص من النرجسيَّة والمكابرة والغرور والقسوة والمزاجيّة والانتقائيَّة في التعامل والتسرُّع في إصدار الأحكام، وعدم الثقة بالمنافس الوطني، وغياب التفكير الاستراتيجي وتدنِّي مستوى الإدارة السياسيَّة إن لم نقل انعدامها. فشلنا بسبب تفشِّي فكرة أنَّ الجميع تابع لمرجعيَّات خارجيَّة ويقتاتون على تمويلها إلاَّ نحن. والجميع مشبوهون وغير صادقين في توجُّهاتهم ألاَّ نحن! فشلنا لأنَّنا ما نزال أسرى مكابرتنا وتعالينا ورفضنا مدِّ اليد للمنافس الوطني والتقائه في منتصف الطريق .فشلنا بسبب عجزنا عن التخلُّص من عقد الماضي، وعدم استيعابنا بديهة أنَّ لكلِّ مرحلة ضروراتها الوطنيَّة الأوَّليَّة والثانويَّة، وأنَّ السياسي الواعي يقدِّم الأوليَّة على ما سواها. فشلنا لعدم إيماننا بأهميَّة التغيير والتعامل معه. فما نجهله بالضرورة غير موجود وخاطئ! فشلنا لتمسُّكنا بنهج عدائى واعتراضي انتهت مدَّة صلاحيَّته باحتلال العراق. فشلنا بسب غياب القائد الواعي الحكيم المتماسك الصابر والمتواضع القادر على استيعاب الآخرين وحشدهم تحت خيمة  الوطن وتعبئتهم لتكثيف الدعم للمقاومة الوطنيَّة.

 

إشكاليَّتنا الأساسية أنَّ لكلِّ مجموعة سياسية مقياسها "متناهي الدقَّة" والخالي من الأخطاء. ووفقًا لهذا المقياس، تُختبر وطنيَّة الآخرين ومصداقيَّة برامجهم. فإن اجتازت الاختبار، فهي صائبة ومخلصة، وإلاَّ فهي خاطئة وخائنة! والمصيبة أنَّ أصحاب "المقياس النموذج" لا يعترفون بحقِّ الآخرين بامتلاك مقاييس خاصَّة بهم. وللجميع مواقف تقترب من حالة "اليقين" إن لم تكن اليقين بعينه.والجميع يملك المشروع الوطني الأكثر فعَّالية، والحركة السياسية الأكثر كفاءة وقدرة. والجميع يملك الدرب الأوحد والأصوب وطنيًَّا.

 

حبَّذا لو توقَّف الأمر عند هذا الحد! كلٌّ أكثر أهليَّة للقيادة من غيره، والأكثر عطاء وصدقًا وإخلاصًا، والأكثر مساهمة في المقاومة وجهود التحرير. وكلٌّ معصوم من ارتكاب الخطاء! فالأخطاء والخطايا هي من سمات الآخرين وليست من سماتنا! كلُّنا صائب والآخرون مخطئون. كلُّنا يحتكر حقَّ إصدار صكوك المواطنة دون سواه!

 

مَن هم المخطئون؟ إذا ما أخرجنا جبهات المقاومة  وفصائلها واحزابها من حساباتنا لكوننا غير مؤهَّلين لتقويم أدائهم الجهادي، فالإجابة عن السؤال أكثرمن يسيرة. الجميع مخطئون، والدليل على هذا، الفشل الجماعي الماثل في انقساماتنا وشرذمتنا. قد يعترض أحد على أنَّ توزيع مسؤوليَّة الفشل بشكل متساوٍ على جميع الأطراف مسألة تفتقر إلى الموضوعيَّة وتنافي أسس العدالة. هذا الاعتراض مقبول ومفهوم، إلاَّ أنَّ توزيع الاتِّهامات  وتشخيص المخطئين أمر غير مجدٍ  في هذه المرحلة.

 

 لقد شهدت الساحة السياسيَّة العراقيَّة خلال السنوات الخمس الماضية أكثرمن محاولة لتأسيس إطار سياسي وطني جامع للحركات المناهضة للاحتلال، وإيجاد موقف موحَّد إزاء الاحتلال ودعم المقاومة. بعض تلك المحاولات ما تزال مستمرَّة ولكن بخطوات متعثِّرة، والأكثريَّة منها وصلت إلى طريق مسدود لأسباب عديدة لا علاقة لها بالالتزام الوطني لأصحاب تلك المبادرت أو حرصهم، بل بسبب نرجسيَّتهم وطموحاتهم المفرطة بالرئاسة وسراب الزعامة، واستخدامهم آليَّات وسياقات خاطئة، وعدم الموفَّقيَّة في اختيارشركائهم وفريق عملهم.

 

ما الحلُّ؟

 كيف يمكن تجاوز الفشل وتوحيد الصف وتأسيس إطار سياسي جامع لكلِّ القوى الملتزمة بثوابت المقاومة والتحرير؟

نحن قطعًا لا نتحدَّث هنا عن مشروع سياسي. فالمشروع السياسي الوطني متوفر ، ويتجسَّد في مشروع المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة وبرامجها وأهدافها، بل نشير إلى تأسيس تجمُع سياسي داعم للمقاومة وليس خيارًا موازيًا لها أو بديلا ً منها.

 

الخطوة الأولى في اتِّجاه الحلِّ، تبداء، في تقديرنا المتواضع، بالاعتراف بفشل تجربة المرحلة المنصرمة وتحديد الإخفاقات، وتجنُّب التخلُّص من المعوقات بكلِّ صدق وموضوعيَّة بعيدًا عن الإسقاط والتقليل من مساهمات أيِّ طرف أو جهة. قد يبدو لبعضٍ أنَّ هذا الطموح يحمل قدرًا وفيرًا من الطوبائيَّة أو السذاجة، لكنَّها تبقى الخطوة الأولى في طريق تحقيق الهدف المنشود.

 

يتطلَّب الحلُّ أن يكون الباحثون عن القيادة، واصحاب التجربة السياسيَّة الاطول في مقدَّمة المبادرين. كلُّ ما نحتاجه، قليل من التواضع والتخلِّي عن الذاتيَّة، وهجر أحلام احتلال مناصب مرحلة ما بعد التحرير، وطموحات قيادة شعب العراق.

 

إنَّ بناء تجمُّع سياسي وطني جامع مبنيٍّ على ثوابت الوطن والتحرير، يسمح بهامش معيَّن لتباين الاجتهادات الخاصَّة بالتطبيقات دون الثوابت، ضرورة وطنيَّة بالغة الأهميَّة، وخطوة متقدَّمة لحشد شعب العراق برمَّته خلف المقاومة ومشروعها. علينا أن نؤسِّس موقفًا وطنيًّا رصينًا راقيًا ومتناسقًا مع سموِّ قضيَّتنا الوطنيَّة وعدالتها. موقف داعم لمشروع المقاومة وليس بديلاً منها أو موازيًا لها. المطلوب منَّا تقديم برنامج وطني يخفِّف من آلام شعب العراق، ويقصِّر عمر الاحتلال دون التخلِّي عن ثابت واحد من ثوابت المقاومة.

 

تأسيس هذا الموقف، يتطلَّب قطعًا تجاوز أخطاء الماضي، والتسامح مع ما ارتُكِبَ من أخطاء وهفوات، باستثناء تلك المرتبطة بجرائم التعاون مع سلطة الاحتلال وعملائها. 

 

نودُّ أن نختم هذه المساهمة باقتباس الفقرة الأخيرة لمقال الأستاذ باقر إبراهيم الموسوي سيظلُّ العراق يحلِّق بجناحين" مع تحفُّظنا على بعض ما جاء فيه: "إذا كان من المفيد أن نتسابق على شئ ما، ونتنافس حول قضيَّة ما، فليكن سباقنا وتنافسنا في السعي للإسراع بتوحيد قوى النضال الوطني. وخير الروَّاد من يوحد الناس!"

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ٠٨ صفر ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٣ / شبـــاط / ٢٠٠٩ م