تركيا وايران والضياع العربي

 

 

شبكة المنصور

د. بوعلي عون الله

نشرت في اسبوعية القادسية الصادرة في الجزائر العدد 51 في 10/01/2009

المرارة و خيبة الأمل الإقليمية في الدور العربي، وتراجع محور القاهرة والرياض وعمان ومن سموا أنفسهم بدول الطوق تارة ودول الاعتدال طاقة أخرى تشتت العرب أمام أزماتهم. وظل هناك فريق الصمت العربي يجر ورائه حالة من السخط الاجتماعي وحتى الازدراء الدولي.


أجهزت "دول الاعتدال العربية" نهائيا على أي دور للعرب يسهم في معالجة أزماتهم بدء من قضية العراق ومرورا بحرب لبنان وأخيرا قضية مصيرالقضية الفلسطينية. فبعد الموقف الشائن لهذا المحور من القضية اللبنانية الذي جر الموقف العربي الى التواطؤ إن لم تكن المشاركة مع اسرائيل في تدمير لبنان خضوعا لمسطرة المطالب الأمريكية ومخططات تنفيذ ولادة قسرية لشرق أوسط جديد عام 2006. لم يستفد العرب من تجربتهم وهزائمهم، رغم خروج المقاومة اللبنانية منتصرة بتقديمها ثمنا فادحا من الضحايا البشرية والمادية.


وبدلا من مراجعة الوضع العربي إستمر النظامان المصري والسعودي يجران العرب الى مزيد من التراجعات المذلة والمنكسرة بدء بالتضحية بالعراق وصولا إلى إحكام الحصار على غزة بحجة عدم توافقهما مع توجهات حماس. لكن الأخطر في هذه السياسة أن وجدت هذه الدول في الموقف الإيراني المساند لحزب الله وحمس ولسوريا خطرا لا يهدد السياسات الأمريكية والإسرائيلية فقط؛ بل يهدد الوضع العربي الرسمي وهو يندفع في تيار التعبئة الأمريكية ضد إيران. وبدلا من دعم المقاومة العربية في العراق ولبنان وفلسطين فان النظام الرسمي العربي صار مشككا بجدواها وداعيا إلى تصفيتها واستسلامها مما دفع هذه المقاومات إلى طلب الدعم والمساندة من إيران وغيرها. إن الموقف الرسمي العربي الخاضع للإملاءات الأمريكية أعطى لإيران ما تحلم به كدولة فاعلة ومؤثرة في الشارع والواقع العربي والاسلامي المتراجع.


وعندما تبنت القاهرة ومحورها الإعتدالي موقف الوساطة بين العرب وإسرائيل وسعت عبر خارجيتها ووزيرها عمر سليمان الى تطبيع الموقف الحماسي نحو التطابق مع خط محمود عباس ولأجل قبول الشروط الإسرائيلية المذلة على المقاومة تفجرت الأوضاع، عندما أصبحت بوابة رفح تطبق على نسغ الحياة في القطاع، فمن إسرائيل انقطعت الكهرباء والوقود ومن مصر اقتطع رغيف الخبز والدواء. وهكذا رفضت القاهرة فتح حدودها مع غزة من أجل السماح لنزوح السكان المحاصرين أو إمرار الاحتياجات الإنسانية من غذاء ودواء إلى القطاع المحاصر.


وعندما لاذت بقية دول النظام العربي إلى مواقع الفرجة واللامبالاة صار الطريق مفتوحا لدولة إقليمية إسلامية تنتظر دورها، وهو ما مكن تركيا من استعادة مبادرة تاريخية افتقدتها في زعامة المسلمين منذ الحرب العالمية الاولى وسقوط الدولة العثمانية. وعاد مصطلح "العثمانية الحديثة " يحل محل تركيا الطورانية ويدفع الزعامة التركية إلى تحقيق التطلعات التركية الرامية لفرض النفوذ واستعادة الهيبة لها في الدول العربية التي كانت ذات يوم جزءا من الإمبراطورية العثمانية. ان تركيا التي رفضت الانضمام رسميا الى الحملة الامريكية على العراق ومنعت إستخدام القوات الامريكية للاراضي التركية ممرا لاحتلال العراق رغم عضويتها في حلف الناتو وتطلعاتها الى الانضمام للوحدة الاوربية كان يقابلها نظام عربي سكت عن احتلال العراق ودول عربية منحت كل التسهيلات لاحتلال العراق بدء من قناة السويس الى الاراضي السعودية والكويتية ومياه الخليج العربي.


وهكذا استهوت كل من ايران وتركيا قلوب وتطلعات أطراف كبيرة من الشارع العربي كل حسب طريقته ومسعاه واهدافه، في حين فقد النظام الرسمي العربي أي احترام له في الوطن العربي. وهكذا فرضت كل من ايران وتركيا دبلوماسيتها على نحو كبير في الشرق الأوسط تحت مظلة دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية بالنسبة للاولى، فوز حزب العدالة والتنمية الحاكم في سوريا، وتلك المنظمة ذات الجذور الإسلامية عرفت كيف تلتقي هي الاخرى بحماس نظرا لوجود تماثلات عقائدية مشتركة معها. وهذا ما أكدت عليه صحيفة واشنطن تايمز الأميركية في عددها الصادر هذا الاسبوع من خلال تقرير تحت عنوان " أزمة غزة تدعم الدبلوماسية التركية"، وهو نفس المعنى الذي هللت له احدى الصحف التركية واعتبرته "عصرا ذهبيا" للدبلوماسية التركية.


كما أن الجولة التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى المنطقة وزار خلالها كل من سوريا والأردن ومصر قبل أن يختتمها بزيارة للمملكة العربية السعودية يوم السبت الماضي كانت مهمة ومحورية لأنها شملت أربعة ممثلين عرب بارزين مهتمين بأزمة غزة حرص أحد مساعدي أردوغان على اللقاء مع خالد مشعل، في دمشق. علما أن أردوغان يوطد علاقاته بحركة حماس منذ عام 2006 ، حين قام وفد رفيع المستوى من الحركة بزيارة إسطنبول مما تسبب في إثارة غضب حلفاء تركيا في واشنطن وتل أبيب.


ورغم بدء العمليات العسكرية في قطاع غزة يوم السابع والعشرين من شهر ديسمبر الماضي، حرص أردوغان أن يتحدث عبر الهاتف، إسماعيل هنية رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة، وظل على اتصال بالرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. وقالت الصحيفة انه في الوقت الذي أبرزت فيه أزمة غزة النطاق الواسع للاتصالات التركية، ، فإنها قد جاءت متوافقة على الأغلب من توجهات الرأي العام الداخلي الغاضب من تزايد معدلات الوفيات والقتل الاجرامي في غزة.


تركيا رئيسة منظمة المؤتمر الاسلامي وجدت لنفسها دورا ظنته مقبولا ويحظى بقبول العرب والاسرائيليين معا. لكن استمرار الاستفزاز الصهيوني في جرائم غزة لم يترك للقيادة التركية مجالا للصبر والاذعان لعامل الوقت الذي تريده اسرائيل للاتجهاز على حماس واحتلال غزة . فها هو أردوغان يصف العدوان الاسرائيلى على غزة بأنه "وصمة عار فى جبين الانسانية"


وفي حديثه لـ«الجزيرة» أمس بدا أنه يوجه كلاما موجعاً لكل الحكام العرب، ملوكاً ورؤساء وهو يدرك أيضا ان كلامه يصل الى الجماهير العربية. الرجل كان واضحاً وحاسماً وهو يشن هجوماً عنيفاً ومؤثراً ضد إسرائيل.. قال كلاما لم نسمعه من الحكام العرب : «إسرائيل هى المسؤولة عن وصول الوضع إلى ما هو عليه الآن، لأنها الطرف الذى لم يلتزم بالتهدئة، لم تفك الحصار عن شعب أعزل، ورفضت عرضاً تركياً للوساطة مع حماس فى الأيام الأخيرة قبل المجزرة التى ترتكبها حالياً فى غزة».


و فى هجومه دفاعا عن كرامته الشخصية والوطنية : «إسرائيل لم تحترم كلمتها معنا».. ثم وجه حديثه للحكام العرب: «أرفض الاتهامات الرسمية العربية التى تحمّل حركة المقاومة الإسلامية حماس مسؤولية التصعيد الراهن بقطاع غزة.. فاتهام حماس غير مقبول ولا يجوز.. لأن حماس التزمت بالتهدئة من أجل رفع الحصار ووقف الاعتداءات، ولكن إسرائيل استمرت فى فرض الحصار.. فكيف نطالب حماس بالصمت تجاه هذا الحصار، رغم أن إسرائيل استفزتها بسياسة التجويع، ودفعتها لإعلان إنهاء التهدئة، خاصة أن حكومة حماس كانت تحت ضغوط كبيرة، لأنها مطالبة بتلبية مطالب الشعب الفلسطينى الذى انتخبها».


هذا الصمت العربي والاسلامي كسره رئيس وزراء دولة إسلامية تترأس منظمة المؤتمر رغم ان لها مصالح كثيرة مع تل أبيب ومع الولايات المتحدة واوربا..


هذا الدرس «التركى - الأردوغانى» منح أردوغان وتركيا من خلفه شرف شن مثل هذا الهجوم الضارى على إسرائيل التي أهانته بتأخيره نصف ساعة فقط خلال عبوره الى رام الله لمقابلة محمود عباس في رام الله . القادة الاتراك شعروا بجرح في كرامتهم ولم تعد الحسابات الضيقة تمنعهم من اعلان نقدهم العلني لاسرائيل وتعريض مصالح بلادهم مع أوروبا وأمريكا وإسرائيل للضرر؟ فمتى تتحرك كرامة الحكام العرب!.

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاربعاء  / ١٠ محرم ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٧ / كانون الثاني / ٢٠٠٩ م