تصحّر الرجولة !!

 

 

شبكة المنصور

جلال / عقاب يحيى - كاتب وباحث / الجزائر

عطشى هذه الأمة للنصر، أي نصر، حتى لو كان سراباً، أو بيرقاً يخفق في سمائها ..
جوعى نحن للرجولة ولو على طريقة فردتي حذاء منتظر الزيدي .
وجياع أكثر لموقف شجاع ولو بالكلمات ..


****


عندما انتفض الدم في الصحفي(منتظر الزيدي) وهو يرى المجرم بوش يحتفي بتوقيع اتفاقية استكمال الاحتلال، لم يملك من سلاح سوى فردتي حذائه . قذف بهما رفقة صواريخه الكلامية ثأراً لاحتلال العراق، ولشهدائه، ونسائه وأطفاله .


عندها قامت الدنيا ولم تقعد أياماً طوالاً، فتدفّقت قرائح الشعراء قصائداً بالجملة، وتزاحمت المقالات متلاطمة، وخرج من يستنكر، ويتعكّز على(البعد الحضاري)، وعلى (تفاهة) الحادثة، خاصة عند الغربيين الذين ألفوا أن يرموا حكامهم بالطماطم والبيض وغيرهما، دون أن يضرب ويسجن أصحابها، أو يقتلوا تحت التعذيب، وفي الكهوف المظلمة ..انشغلنا، وانتشينا أياماً طوال، والزيدي يحرر يأسنا فنستزيد، يرشّ قطر الندى على تصحّرنا فيعلو الفخر .


كان الزيدي يعبّر عن حنقنا المحقون حتى الاستعداد للانفجار. عن فيض كأسنا من المهانة، والاحتلال . عن صراخنا غير المسموع ضد الاستبداد، والتخاذل، والتواطؤ، والانهيار ..عن زمن يهرس البشر والأفكار. يخلطها فتصبح الخيانة المجلجلة وجهة نظر، والاستسلام المتوسل عقلانية، و"السلام خيار استراتيجي" تسولاً، وعراق العمق والبطولة طوائفاً وقبائلاً وأعراقاً ترفرف عليها حلل الخونة ..


لقد فشّ الزيدي ما في صدور الملايين، رغم أن الفعل مجرد قذف فردتي حذاء لم تصب ذلك المجرم وتابعه ..(ولم تغيّر أو تبدّل واقع الاحتلال)، أو تبتر عملائه .


****


صراخ الرجولة يأتي هذه المرة من تركيا أردوغان : ضربات متتالية على نخاعنا الشوكي، يوقظ الرجولة الحبيسة، فيحرج التصحّر العربي ..


ترتفع أسهم أردوغان فترتفع راياته، وحزبه، وتركيا عبره، وتنكّس رايات النظام العربي بالجملة والمفرّق، ويغرق عمرو موسى بعرق التبرير والتزوير والتزويق والتحوير ..ويصطخب الوضع العربي تهليلاً، فتنفتح القرائح من جديد : قصائداً، ومقالات تعانق نصر المنتصرين، وتفسيرات وتحليلات تخصّب نخلة الانقسام العربي بمزيد من السعف الصحراوي الباحث عن معلقات سوق عكاظ ..


يجب التسجيل : أولاً، وقبل أي تحليل، وغوص في الخلفيات، وتعليق الموقف التركي على هذه الشماعة الانتخابية، أو تلك الداخلية، ودهاليز الدور، والمصالح، والتوازن، والبدائل، ثم محاولة تقزيم الانسحاب من (لقاء دافوس)..أن أرودغان : هذا الزعيم التركي، مسؤول حزب إسلامي يعرف كيف يتعامل مع المتغيرات وحركة التطور ، المستند إلى عمق حضاري كبير، وإلى طموح بممارسة دور يليق بتركيا الراهن..


سجل سبقاً في الجرأة والرجولة افتقدها الحكام العرب جميعهم، بقضّهم وقضيضهم . معتدليهم وعقّالهم وممانعيهم . وهو سبق سيذكر دائماً في تاريخنا، وتكرارنا، وفوات آمالنا، وهذا العقم المعمم في رجولة النظام العربي .


****


من حق تركيا، وإيران، والدنيا كلها أن تكون لها مشاريعها الخاصة، وأن تعمل لتحقيقها، وتركيا مهيأة للعب دور في التصحّر العربي . دور يسد هذا الامتداد الأجوف علّه يشكل شيئاً من السدً بوجه زحف القحط، والعقم، وزوابع الغبار المغبرة، وحروب الرمال بين، وعلى الرمال .


تركيا دولة كبيرة من دول المنطقة، ذات تاريخ إمبراطوري حافل، حكمت بلادنا أربعة قرون كانت مشبعة بالسلب والإيجاب . امتزجت، وتداخلت، ثم انفصلت بحركة أتاتورك ومراهنته لتحقيق مقولته : (( تركيا في مؤخرة أوربا أفضل من تركيا تقود العالم الإسلامي))، أراد أتاتورك أوربة تركيا، قسرها على علمانية مفصّلة مسبقاً، وديمقراطية يعسّها العسكر. يلوحون بالتدخل عند الاقتراب من الخطوط الحمراء للجمهورية، وقد يتدخلون إذا لزم الأمر، والتدخل أنواع .


نجحت تركيا في قطع خطوات هامة على طريق التحديث والأوربة . وأرست نظاماً ديمقراطياً ’يدخل هواء العصر عبر التداول على السلطة الذي تقرره صناديق الاقتراع .


لكنها تعاني الاشتراطات الأوربية( شبه الفيتو) الذي يحرجها ويحدث فيها ارتجاجات قوية باحثة عن ردود، ومجالات حيوية تليق بها، وتعوّضها.. والوطن العربي صحراء قاحلة .. فراغ سديمي إلا من عصابات المافيا الحاكمة المتلهفة لظهر يحمي، ويعين، ويقود، ويشارك ..


وتركيا حزب ((العدالة والتنمية)) عرف كيف يجدد الفكر والمفاهيم التقليدية للأحزاب الإسلامية باتجاه العصرنة، والانفتاح على التطور داخل وخارج تركيا .


ورغم أن مرجعيته إسلامية( خرج من عباءة حزب الفضيلة) إلا أنّه، وعبر قيادته الشابة، المجددة، استطاع صناعة خليطة فكرية ـ سياسية عجزت عنها( حتى الآن) جميع الأحزاب العربية، خاصة الإسلامية، تجمع بين تلك المرجعية وبين العلمانية المتطورة، المستوعبة للواقع التركي، وشروط التطور، والتكيّف مع المتغيرات العالمية، خاصة : تكريس الديمقراطية نهجاً، وطريقاً، وميداناً للتنافس المفتوح بين شتى الاتجاهات الفكرية والسياسية .( خلاف الحالة العربية المتصحّرة) .


هذه التركيبة المتناغمة مع تراث المنطقة، المتململة من الاشتراطات ألأوربية المفتوحة لقبول تركيا عضواً في الاتحاد الأوربي، ترشحها لتلعب دوراً مهماً في وطننا يتجاوز الوسيط إلى مشارك هام في مجالات مختلفة .


وإذا كان التصحّر العربي لا يملك غير(السلام خياره الاستراتيجي)، فتركيا قادرة على أن تكون وسيطاً من العيار الثقيل، وسيطاً بلعاب عربي يسيل ويستجدي، لما لها من علاقة متميزة بقادة الكيان الصهيوني، والأطراف العربية المعنية، وستمنحها مواقفها الأخيرة، عبر ما قام به رجب طيّب أردوغان طوال العدوان على غزة، وفي (دافوس) جواز مرور لا يتوفر لغيرها في هذه الفترة .


الأكيد أن (المتعهد) المصري الذي استنجد بالأتراك لمساعدته، سيتضايق من منافس قوي يمكن أن يزحزح موقعه، ويأخذ منه الريادة حتى في المسألة الفلسطينية، وتعقيدات الخلاف بين حماس وفتح، وبين"سلطتي" الضفة والقطاع . لكن مصر، ومعها " أهل الاعتدال" ستغضّ الطرف، ولو مكرهة، عن تعاظم الدور التركي لأنها تنطلق مما تعتبره الأهم .


الأهم : إيجاد معادلة جديدة قادرة على إحداث التوازن مع المنافس القوي : إيران .
هنا تختلط الاعتبارات، ويتشابك الإديولوجي الديني، بالمذهبي، بالقومي، بالإقليمي، بالدولي، والأرض العربية هي الميدان، وهي حقل التجارب والتصارع والتنافس .. والتصحّر العربي يصبغ الكهولة كي لا يظهر عجزه، وترهله، وعقمه، وقد يفقع خطابات نارية متعددة الألوان كألعاب الصين النارية، بإضافة الكثير من غبار الصحراء لإحداث تلك الخلطة الغرائبية .

 

****


في الخمسينات والستينات كان الحديث يتكرر عن مثلث يطبق على الوطن العربي :
تركيا ـ إيران ـ "إسرائيل"، المصنف في إطار الاستراتيجية الأمريكية . وكان العرب أيامها، يملكون ما يمكن اعتباره : مشروع النهوض الوحدوي، التحرري بزعامة عبد الناصر والبعث والقوى القومية والوطنية واليسارية ..


أخفق المشروع، وارتدّ عليه من ورثوه اغتصاباً، وتبدّلت حال إيران وتركيا، على طريق بلورة مشاريع خاصة بهما، وتطور المشروع الصهيوني على أرضية إلحاق الهزيمة بالعرب، وإجبارهم على القبول بالأمر الواقع المتغيّر ..


نهضت إيران بمشروعها، وتقدّمت تركيا متجهة إلى جنوبها بمشروعية ومشروع، وتصحّر العرب حتى من الرجولة .. ناهيك عن أي مشروع جماعي يضمن الحد الأدنى من الحفاظ على أمنهم الوطني والقومي، ونبتت حروب وصراعات العجز، واعتلت إيران منصة المقاومة، وارتفعت رايات تركيا في سماء وقلوب العرب، يحركها بذكاء ومهارة ورجولة أردوغان، وهو يلج العقول والمشاعر، ف(تتوحم) عليه خصوبة نسائنا علّ(أردوغاناً) عربياً قادماّ من رحم الزحام، وفيض الولادات، وهذا المخاض الصعب الطويل ..


علّ( رجلاً )، أو امرأة( بعد أن عزّت الرجولة في الرجال) يقولها لا، فتخفق البيارق، وتتدفّق القصائد، وتختلط الزغاريد بالتصفيق.. تروي عطش الصحراء، وتقف سدّاً بوجه عواصف الغبار، وحروب الرمال، ورمال المواقف ..

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ٠٨ صفر ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق ٠٣ / شبـــاط / ٢٠٠٩ م