ننحني على قبرك .. ونتطلع إلى المستقبل

 

 

شبكة المنصور

إسماعيل أبو البندورة

في ذكرى رحيلك الثانية نراك لا تزال تملأ المكان و الزمان ..ونراك داخل القلوب نبضا قويا وقمرا يشع وفارسا يمتشق الدمشقي ونورا في العيون والحدقات وريحا صرصر تقتلع أعمدة الخيانة و الهزيمة ونهرا يتدفق كلما ظهر الجفاف وحاقت الفاقة.


ما كل هذا الطيف و الحضور الكبير والاتساع الهائل لو لم يكن لك أيها العربي النبيل الذي أقسم بالله والعروبة ونوى وسرى وما زال يسري فوق الذرى ويمشي في كل بقاع الأرض العربية !! ما كل هذه القدرة و التعالي لو لم تكن لذلك العربي المقدام الذي كنا نرى فيه تمثلات العروبة و روحها وعبقريتها وكنا نحدق فيه وهو يرهب العتمة ويطلع النور ويطارد اللصوص الذين سرقوا ويسرقون قمر العرب ويفرق جماعات الغدر و الخيانة ويلهب النار في صدور الأعداء ويحطم أصنام الهزيمة ويقضي على الجهل و المرض في عملية نادرة من زمن الإحباط و التردي .


ونقول مثلما قالت العرب في لحظات الحزن : يا ويحنا ونحن في هذا الفراغ و الحزن على غيابك .. يا ويحنا ونحن لا نراك تقود الجمع المؤمن وترفع راية العرب .. يا لضيعة البلاد التي فقدت قمرها وقلبها !! يا للضياع في هذا البؤس الخانق وهذا المكوث الطويل الجبان في شرنقة الانكسار .. يا لثارات العرب !! يا للعار عندما تركناك تذهب إلى المقصلة الصهيونية الطائفية وأنت عار بلا أعمام إلا من كلمة : يا الله !! وهذا العنفوان والمرجلة الحقة على الطغاة والحثالات .


الآن ترقد في الأرض الثائرة الطاهرة.. تتململ الأرض عن جنبيك وينبيك بأخبار العراق تلك الحركة الهادرة فوق الأرض .. الآن تنهض تحدق حواليك فترى العراق يسير نحو الحرية وترفرف الطيور حول قبرك منبئة بالقادم الجميل .. الآن تضحك ضحكتك الوسيمة وتهز كتفيك وتمد يدك من القبر محييا باسم المحيى  جميل الملامح .. الآن تمد بيدك بندقية تقدمها هدية لهذا الزلزال الطالع من أرض العراق .. الآن تحيا وترضى كلما نفق قاتل أمريكي أو عميل طائفي .. الآن أنت النبع الذي يشهد بالحضور و الاستمرار و الدوام و العطاء ..


ما أحلى وأغلى وأعمق من هذا الرجوع العربي إليك و الانحناء على قبرك و الاقتراب منك .. ما أروع هذا الإبداع النضالي من داخل القبر !! ما أجمل هذا الحضور المهيب لحظة انكسار و اندثار الحثالات .. ما أبهى  هذا القبر الذي يشع ضوءا ويزداد إشراقا كلما فتح  التاريخ أوراقه .. ما أشرف هذه  الأرض العربية التي تحتضن ابنها وما أشجع هذه المقاومة التي جعلت تضحيتك بالنفس درسا عالميا ومنارة للدنيا .


أنت الآن في كل بيت عربي عنوانا ورمزا مثلما كنت وأكثر .. أنت الآن بين أعمامك و أخوالك العرب الشرفاء .. أنت الآن في الضمائر ضميرا وفي العروق دما وفي العقل أفكارا أنوارية و في الصدور نفثه وفي القلوب نبضا وفي السهول زرعا والأشجار ثمرا والأزهار تويجا وفي النهر ماء وفي الريح قوة وهبوبا وفي الجبال قمة وسارية .. وأنت الآن تاريخا حيا خلاقا بهيا ودرسا منيرا ومنهجا صحيحا وطريقا موحية مفتوحة على كل الاحتمالات .. وأنت الآن عنوانا لأمة تائهة حائرة باحثة عن ذاتها .. وأنت محجا لكل العرب الأحرار .


إننا في هذا الزمن الخؤون نعتصم بك بعد الله ونرى في درسك عبرة و فكرة ونسير على دربك بثقة وأمل فأنت ما تركت سوى الدروس و الأفكار الجميلة الواقعية التغيرية النهضوية وأنت ما خلفت سوى الرجولة و االشهامة وحب الوطن والمناقبية و التضحية و أنت ما تركت لنا سوى هذه المقاومة وثقافة المقاومة وحب العرب وأنت ما زلت جرحنا العميق المفتوح وشهيدنا الرفيق الأريب العزيز وغرة تاريخنا وفخرنا وأنت كنت دائما صاحب الأوّلة وراعي الدرب و المسيرة... أنت التاريخ الذي بدأ ولم ينضب وأنت الماء الزلال الذي لا يزال يجري في أرض العرب .


الأمة الآن في تأزمها واندفاعها نحو الحرية تتطلع إليك وتمد يدها إليك فهي الآن بحاجة لهذه الريح الطيبة وهذه الروح الكريمة النبيلة وهذا العقل الكبير المدبر وهذه الشجاعة المدروسة و هذه اليد الكريمة وهذه الشهادة النادرة و التضحية الهائلة .


إننا الآن في أرض العرب و فضاءها إخوانك ورفاقك ولسنا ولن نكون أيتامك فأنت ما عرفت ولا تعلمت ولا علمت اليتم و الانقطاع  فاليتم كان دائما وأبدا لأعدائك وشانئيك والفجيعة كانت دائما لمن انهزموا و سقطوا على الدرب .. لكننا الآن ولأننا من ربعك وممن ساروا على دربك أصبحنا مثل الأيتام على مأدبة اللئام حقا لا أيتام وإنما شرفاء يبحثون عن الحرية تقطعت بهم السبل على دروب الانهزام و الخيانة.. هذه صورتنا  الفاجعة بعد غيابك فلقد عم اللؤم والشؤم وسواد الحال و الطوية وغاب الرجال الرجال وحار الكرماء وضاقت الأخلاق وتقلصت العبارة وما كان هذه الحال ليكون كما هو علية الآن لو بقيت كما كنت عمودا للبيت ورافعة الأمة نحو الحرية فلقد كان لك حضورك الشامخ وعقلك الراجح وشهامتك الواسعة وصدرك النبيل الذي اتسع لكل العرب وكانت فيك خصال العرب الشرفاء الأوفياء الذين ما انحنوا حقا إلا لله .. وكنت دائما القدر الذي يغرف منه الناس وما انطفأت نارك  ولا غاب دخانك وما انكفأ قدرك.


الآن المقاومة الباسلة تروي سيرتك وتنثر الندى على قبرك و تعطر روحك بالإقدام ومنازلة الأعداء منازلة شجاعة .. الآن يفرح العراق بك وهو يراك معلما وقائدا من داخل القبر .. الآن يلمع الضوء في الأفق وفي نهاية النفق ونحن نرى فلول الأعداء و المغول والأمريكان و الصهاينة وهم يجرون ذيول الخيبة و الهزيمة ونرى العملاء والحثالات وكل السلالة الخسيسة وهم يتلفتون تطيرا وهجسا بالنهاية المخزية المفجعة ونرى النخيل من حول قبرك يمتد إلى العلا  ودجلة المدرار يتدفق على مهل ليلاقي الفرات في عناق طويل وجميل ونرى عزة العز وهو يرفع الراية ويمر على قبرك محييا ويذوب في لحم العراق !!


الآن ترفرف طيور الفرح حولك وحول قبرك تنادي عليك وعلى الآتي منك والطالع من قبرك .. الآن تجتمع الأمة عند قبرك تقرأ الفاتحة وتقرأ درسك وتسلم على المقاومين و المقاومة وتردد ذلك النشيد البعيد الجميل : بلاد العرب أوطاني  وأنها سائرة نحو صناعة تاريخها منشدة ثانية انك عز البلاد وعز العرب وشهيد الأمة الحبيب .

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الثلاثاء  / ٢٥ ذو الحجة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ٢٣ / كانون الاول / ٢٠٠٨ م