النبي الأرعن ، إمبراطوريته ورماده

 

 

شبكة المنصور

علي الصراف

 

حاول الرئيس الأميركي جورج بوش في الكلمة التي ألقاها الجمعة أمام مركز "سابان" الأميركي للأبحاث، أن يُضفي على نفسه صورة الرائي، المفكر، والمتأمل لما يجب أن يكون عليه العالم بعد رحيله من البيت الأبيض.


هذه ليست المحاولة الأولى. في المرة التي قبلها، قال بوش إنه يتلقى وحيا من الله. وفي إحدى المرات سمع الله يقول له: "جورج.. اذهب لتحرير العراق من الدكتاتورية". وفي مرة أخرى: "جورج.. يجب أن تعمل على إقامة دولة فلسطينية".


الواقعيون قالوا أن "جورج" يتلقى وحيا بالفعل..، إنما من ديك تشيني. فهذا هو "الله" بالنسبة لنبي البيت الأبيض.
ولهذا السبب فانه لم يحدث أبدا أن قال له "الله": "جورج.. لا تسمح بتعذيب السجناء في السجون السرية للـ سي.آي.أيه". ولا قال له: "جورج.. اطلق سراح المعتقلين الأبرياء (وبينهم أطفال دون السن القانونية) في غوانتانامو".


فـ"الله" لا يرى في أعمال التعذيب، ولا في اعتقال الأطفال، شيئا مشينا في إطار "الحرب ضد الإرهاب". وكذلك نبيّه جورج.


وقف جورج أمام باحثي مركز "سابان" ليقدم لهم رؤيته، فقال كل ما يدل على انه يتلقى وحيا، على الأقل ليثبت انه يستطيع أن يقول "كلاما كبيرا" من دون أن يبدو عليه الحمق.


النبوءات هي ما غلب على كلامه. ولم يكن "الله" حاضرا في القاعة. إلا أنه كان حاضرا في روح جورج وقلبه، ولذلك فان حديثه ظل يتسم بنبرة تأملية، لولاها لوجد نفسه ينهق.


وكان من آياته البيّنات انه قال: "سيأتي يوم تظهر فيه على خريطة الشرق الأوسط دولة إسرائيلية آمنة تنعم بالسلام إلى جانب فلسطين ديمقراطية، وحيث الشعوب من القاهرة إلى الرياض وبغداد وبيروت ودمشق وطهران تعيش في مجتمعات حرة ومستقلة، تجمعها العلاقات الدبلوماسية والسياحية والتجارية. وسيأتي يوم تهمش فيه القاعدة وحزب الله وحركة حماس وتذوي، فيما يدرك المسلمون في المنطقة فراغ الرؤية الإرهابية وظلم قضاياها".


وقال، أنه يتوق لرؤية شرق أوسط "يكون حلفاؤنا فيه أقوياء والإرهابيون مشوهي السمعة، وحيث الأنظمة الاقتصادية منفتحة ومزدهرة وينعم كل الناس برغد الحياة".


وفيما بدا وكأنه يقدم وصاياه العشر، حض جورج دول المنطقة على إعطاء شعوبها حرية أكبر للتعبير والعبادة والتجمع، وعلى تعزيز الازدهار وتحسين نوعية الخدمات الصحية والتربوية وحماية حقوق المرأة.


وقال أن التغييرات في السنوات الثماني الأخيرة "تبشر بشيء تاريخي وجديد، يرسل إشارات تبعث على الأمل في إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية في الشرق الأوسط".


ولولا التقاليد، لكان من المنتظر أن يردد "زملاء" المركز خلف نبيّهم: آمين، يا رب العالمين.
لا شيء يبرر الجدل حول ما إذا كان جورج هو الذي كتب الوصايا. فالأدلة التي تثبت انه حمار أكثر من أن تعد.
وأحد أسطع هذه الأدلة هو انه نهق بتلك الوصايا، من دون أن يسأل نفسه: وماذا كنت تفعل على مدى السنوات الثماني الماضية؟


وفي الواقع، فان الحمير لا ترتكب أخطاء في السياسة والاقتصاد والدبلوماسية والحرب بالقدر الذي "نجح" جورج بفعله. ثم انه تفوّق على كل حمير التاريخ بأن فعل كل تلك الأخطاء دفعة واحدة، وهو أمر لا بد وأن يجعل من المستحيل على أي حمار في المستقبل أن يتجاوزه،.. مهما كان حمارا.


وليس من عجب أن جورج يحتل المرتبة الأدنى في استطلاعات الرأي بين الأميركيين، منذ ابتكار فكرة استطلاعات الرأي. فثلاثة أرباعهم يعتقدون أنه لو كان لديهم حمار يعرف انه حمار في البيت الأبيض، لكانت أمورهم أفضل مليون مرة من أن يكون لديهم حمار يظن انه نبي.


على الأقل، فان الحمار ما كان لينتظر حتى الأسابيع الأخيرة في ولايته، وبعد انهيار ثلاثة أرباع البنوك ووقوف شركات السيارات على حافة الإفلاس وخسارة نصف مليون وظيفة في شهر واحد، ليعترف، للمرة الأولى، بأن الاقتصاد يمر في مرحلة ركود.
فالمرء يحتاج أن يكون إسطبل حمير قائم بذاته لكي يمكنه أن يجاري جورج في "مواهبه" الخارقة.
وكل هذا وحي.


وهو لا يتطلب تفسيرات. فالأعمال الوحشية والجرائم والانتهاكات التي خلّفها جورج وراءه لا يستطيع أي بشر أن يتحملها.
وكونها وحيا، يجعلها أمرا قابلا للجدل.


إضفاء طابع ديني على الوحشية ليس أمرا جديدا. توني سبق جورج الى هذا الحقل. فمع إدراكه انه لن ينجو من الملاحقات التي تتهمه بارتكاب جرائم حرب، بقبوله غزو العراق بناء على أكاذيب ومبالغات وأباطيل، فماذا فعل رئيس الوزراء البريطاني السابق؟
صار كاثوليكيا متديّنا، وأنشأ منظمة للحوار بين الأديان، وذهب ليتمسح بأذيال بابا الفاتيكان.
ارتداء مسوح القديسين، بالنسبة لمجرم حرب، هو الشيء الوحيد "الطبيعي" في ثقافة غربية قائمة (بقضّها وقضيضها) على النفاق والنكران.


الغرب ينافق. تلك هي طبيعته الجوهرية. بل إن النفاق هو طبيعته الوحيدة؛ يرتدي مسوح الأخلاق، ليرتكب خلفها جرائم؛ يدافع عن حقوق الإنسان، لينتهكها بأبشع ما يمكن للانتهاك أن يكون؛ يتحدث عن الديمقراطية، حتى إذا جاءت دباباته لتقيم نظاما، فأنها تقيم نظام عصابات نهب وقتل.
يترك الرئيس بوش ثماني سنوات وراءه. فماذا كانت الحصيلة التي سيخلّفها لنا هذا النبي؟
كم ترك في العراق وحده؟ كم من القتلى المدنيين؟ كم من المشردين؟ كم من الأيتام؟ كم من الأرامل؟ كم من الأطفال المحرومين من أبسط مقومات العيش؟ كم من الجياع في بلد لم يعد "الديمقراطيون" ينهبون منه الملايين بل المليارات؟ وكم من المعتقلين الذي يتعرضون كل يوم لأعمال التعذيب؟ وكم من أعمال النصب والخداع والتزييف؟
كم؟


أفلم يقرأ هذا النبي شيئا من تقارير الأمم المتحدة وشهادات الخبراء الدوليين؟
كم؟


أفهل يجرؤ على وضع الأرقام جنب بعضها البعض، لمرة واحدة على الأقل، ليقول لنا أي "بلد حر وديمقراطي" سيظهر في قلب الشرق الأوسط؟
كم؟


أفلا يمكن لشجاعة المسؤولية أن تبلغ حدا لكي يوفد بعثة دولية لإحصاء الضحايا والخسائر والتكاليف؟
كم؟


أفلم يكن بوسعه أن يدرك إن الجريمة التي ارتكبها، والتي ترتكبها قواته ومليشيات حلفائه، كانت بالأحرى أبشع بأضعاف من كل ما ارتكبه النازيون في أي بلد اجتاحوه؟
فكم؟


إذا كان لا يستطيع أن يقول كم، أفلن يكون من الطبيعي لهذا الخنزير الحقير أن يرتدي لبوس القديسين؟
أليس من "الطبيعي"، في ظل ثقافة النفاق، أن يظهر كنبي؟


ألا يصدر عن غرب تقوم ثقافته برمتها على احتقار البشر الآخرين، وعلى الدجل بالقيم، وعلى التزييف تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان؟
أرعنٌ هذا النبي.
نحن نعرف ذلك.


وأرعنٌ الغرب الذي ظل يمشي وراءه ويزوّده بالمال والمرتزقة لكي يكسب حربه على جثث ملايين الأبرياء.
والناخبون الذين صوتوا له مرتين رعناءٌ هم بدورهم أيضا، ويستحقون كل ما يلحق بهم من هزائم وخسائر و... ركود.
وها نحن نرى رمادا وركاما.


ملايين الأميركيين يدفعون الثمن اليوم، من لقمة عيشهم بالذات، لأنهم صوتوا للجريمة، ولأنهم كانوا يراهنون على مكسب من وراء الرعونة، وعلى "حصة" من اقتصاد القتل والنهب والجريمة.


الاقتصاد الغربي كله يجثو اليوم على ركبتيه لأنه كان يُمنّي النفس بأن سفك دماء العراقيين سيمر بلا ثمن، أو بثمن زهيد.


وكل هذا كان يمكن أن يمر. وما كان للرعونة أن تبدو، على حقيقتها كرعونة، و"النبي" كان سيبدو كنبي فعلا، لولا ذلك الشيء الواحد البسيط: المقاومة المسلحة ضد الغزاة وعملائهم.


من هنا نشأ الفرق كله. من مقاومة الأطفال الذين وجدوا أنفسهم بلا أب ولا معيل؛ مقاومة النساء اللواتي فقدن أطفالهن بالقتل أو تحت التعذيب؛ مقاومة الشبان الذين انتهوا يُقتلون على الهوية؛ مقاومة الرجال الذين عز على شواربهم أن يعيشوا على ذل ليروا نساءهم يُغتصبن؛ مقاومة الشيوخ الذين رأوا أن الموت بكرامة خير من مد اليد الى العملاء والمحتلين.


هذا هو الفارق الوحيد. وهو الذي جلب الرماد لإمبراطورية الرعونة التي أجبرت حمارا على أن يرتدي رداء نبي.
هذا هو الفرق الذي حوّل باحثين "مرموقين" الى مطايا يرددون وراء نبي غبي: آمين، يا رب العالمين.
وهذا هو الفرق الذي سيصنع، من تضحيات الأطفال والنساء والشيوخ، دولةً "في قلب الشرق الأوسط" لا ينطلي عليها نفاق المنافقين.

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الاثنين  / ١٠ ذو الحجة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ٠٨ / كانون الاول / ٢٠٠٨ م